مدخل المقاربة بالكفايات في التعليم الثانوي وتهافت الوضعية -المشكلة- نموذج مادة التربية الإسلامية
هوية بريس – ذ.أحمد العبودي
سياق التقييم في بيداغوجيا الكفايات:
” يُعتبر الإصلاح البيداغوجي، وفق مداخل المقاربة بالكفايات والممارسات البيداغوجية المتصلة بها توجها وخيارا استراتيجيا يسعى لمأسسة تلك المقاربة وجعلها ممارسة فعلية يومية لدى المدرسات والمدرسين، من خلال تمرينهم عليها، وتمكينهم من اكتساب مبادئها، والعمل على تنمية مهاراتهم، وتحسين أساليبهم البيداغوجية، بهدف التصريف البيداغوجي الأمثل للمناهج التعليمية وفق مدخل المقاربة بالكفايات”([1]).
وبما أن التقويم يعتبر مكونا داخليا للعملية التعليمية/التعلمية، فإنه من الطبيعي تكييف الممارسات التقويمية مع روح البيداغوجية المناسبة لمدخل الكفايات.
وفي هذا الصدد تطرح تساؤلات عديدة تواجه الممارسين، خاصة مع الفراغ التوجيهي الذي أحدثه عدم صدور الدلائل المرجعية التي تصاحب عادة المناهج والبرامج التربوية الخاصة بتدريس مادة التربية الإسلامية أو غيرها من المواد الدراسية ، ومن تلك الأسئلة:
ـ كيف نبني نظاما تقويميا ناجعا يستند إلى المعايير المعتمدة في تقييم الكفاية؟
ـ كيف نعدّ الاختبارات وفق بيداغوجيا الكفايات؟
ـ كيف ننظم الموارد علاقة بالكفايات المنهاجية؟
معلوم أن وثائق المنهاج الدراسي تعتبر الوضعية/المشكلة هي الأداة المنهجية الملائمة لتنزيل مدخل المقاربة بالكفايات، على مستوى إنجاز دروس المداخل وعلى مستوى التقويم عموما والاختبارات خصوصا، حيث يتعين أن تنبني أساليب التقويم الكتابي على وضعية/مشكلة تقويمية بمواصفات محددة تمكن من القياس الفعلي لدرجة التحكم في كفاية المنهاج الدراسي.
وبغض النظرعن تعريفات الوضعية المشكلة([2])،فإن هذه الأداة يراد لها في بيداغوجيا الكفايات أن تكتسي بعدا استراتيجيا، فهي أداة لإرساء التعلمات واكتسابها، وهي أيضا آلية من آليات قياس مدى تحقق كفاية المنهاج لدى المتعلمين، أو قياس مستوى نمائها عند محطة مرحلية (عند إجراء فروض المراقبة المستمرة أو عند الامتحان الموحد المحلي)
ومن المناسب هنا أن نتساءل لنذكر بأهم الخصائص المطلوبة توافرها في الوضعيات/المشكلة للامتحانات الجهوية أو لفروض المراقبة المستمرة:
ـ هل هي ومركبة العناصر، تتضمن صراعا معرفيا/ذهنيا والحل ليس فيها بديهيا؟
ـ هل بالفعل تمثل تحديا في متناول المتعلم ؟
ـ هل لها معنى بالنسبة للمتعلم؟ (قاصدة ، واقعية، ذات جدوى)
ـ هل يستدعي الحل المطلوب موارد/تعلمات متعددة ومتنوعة(من مجالات/مداخل تدريسية مختلفة…) تقتضي إخضاعها لدمج سلس بحثا عن حل لمشكلة؟.
ـ هل تسفرـ إن كانت تقويمية ـ عن منتوج محدد، قابل للفحص ويخضع للقياس….؟
وعلى الرغم من من الطابع المنهجي والتوجيهي الذي تكتسيه مثل هذه الأسئلة فإن النمط الجديد (أو الصنف بتعبير وثيقة التوصيفات) من أسلوب التقويم الذي ساد واستثب له الأمر لم يُبق ـ إلا في حدود ضيقة ـ حظا ولا مبررا لهذه الأسئلة، كما سيتبين.
ومعلوم أن المنهاج قد حدد كفاية لكل مستوى دراسي وجعل التحكم فيها رهينا بقدرة المتعلم على حل وضعية/مشكلة وفق الشروط المتعارف عليها بيداغوجيا وعلى رأسها تلك التي تعتبر جزءا من طبيعة الوضعية ـ المشكلة ذاتها، لذلك، مثلا، نص الإطار المرجعي في تحديده للكفاية على:
“يكون المتعلم (ة) في نهاية السنة الأولى من سلك البكالوريا، قادرا على حل وضعية مشكلة مركبة ودالة، بتوظيف معارفه المرتبطة بالقرآن الكريم (سورة يوسف)، وتمثلاته الخاصة بالإيمان والعلم والفلسفة وعمارة الأرض، ومعارفه حول سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله وهديه توقيرا ومحبة واقتداء، مستدمجا التمثلات المتعلقة بفقه الأسرة (زواج، طالق، رعاية الأطفال…) استيعابا واستجابة لقيم حقوق الله، والنفس، والغير، والبيئة، وما يرتبط بمبادئ الانخراط والمبادرة والسلوك الإيجابي”([3]).
وتأسيسا على هذا التحديد فإن الكفاية علاقة بالتقويم تقتضي لزوما:
1-وجود وضعية/مشكلة اختبارية تنتظر حلا.
2-الكفاية تتوقف على امتلاك موارد المادة الدراسية، إذ لا كفاية لمن لا موارد له.
3-إمكانية إيجاد حل لوضعية/مشكلة بتعبئة الموارد المكتسبة بشكل مندمج وسلس.
وبالنظر إلى المعايير الأساسيّة لتقييم الكفاية أو تقييم مرحلة نمائها، فإنه في سياق المقاربة بالكفايات يتحتم أن يستجيب منتوج المتعلم (أو المترشح)لتعليمات محددة، ويكون ملائما للمهمة المطلوب إنجازها، كما يتطلب ذلك المنتوج استخداما سليما للموارد المكتسبة، بحيث يبرز هذا المنتوج قدرة المترشح على “حسن التصرف” باستثمار موارده ومكتسباته وفق التعليمات المطلوبة مراعيا الانسجام المطلوب في المنتوج الكتابي مع خلوه من التناقض ولزوم اقتراح حل للوضعية يكون مقبولا ومنطقيا، وبنفس القدر تكون استنتاجاته سليمة ومعقولة.
فالكفاية إذن انطلاقا من المعايير الأساسية للتقويم، تجسد منتوجا شخصيا للمتعلم يمثل مجموعة مدمجة من موارد المادة المكتسبة، تشكل حلا لوضعية/مشكلة، عادة ما تكون على شاكلة منتوج أو نصّ جديد (مقالة، رسالة…). وعليه فإن السؤال / المهمة (أو الأسئلة) لا بد أن تتيح للتلميذ المفحوص إبراز قدراته (كفايته) على حل مشكل، أو على الأصح اقتراح حل لمشكل يعبر فيه عن رأيه الشخصي أو يحدد مواقفه النظرية أو العملية بالتعليل والاستدلال المناسب.
واقع الممارسة التقويمية ومعضلة الوضعية ـ المشكلة:
يتيح واقع الممارسة التقويمية، من خلال تتبع مواضيع الامتحانات الإشهادية سواء بالنسبة لامتحان نيل شهادة التعليم الإعدادي أو امتحان السنة الأولى من سلك البكالوريا، استخلاص مجموعة من ملاحظات ذات صلة بالوضعية /المشكلة أو التقويم في ظل المقاربة بالكفايات، من حيث تقنيات طرح الأسئلة وتوزيعها وموضوعها أيضا، ومن تلك الملاحظات:
1-بعض الوضعيات الاختبارية لا تكتسي أي طابع إشكالي وتبدو نصا لغويا تقريريا ينعدم فيه التضاد أو الاختلاف الذي يشكل تحديا في وجه المترشح/ التلميذ
وعلاقة بالملاحظة الأولى يُطرح أكثر من سؤال نقدي حول بناء الوضعيات التقويمية، فقد تكون هناك عوامل موضوعية تحول دون ضمان جودة هذه الأداة التقويمية.
2-أسئلة الاختبارات في مجملها معزولة عن الوضعية / المشكلة التقويمية على نحو قد يجعل المترشح لا يرى ضرورة في الرجوع إليها بحثا عن الجواب، أوهي أسئلة، بشكل متعسف، تسعى لإظهار الارتباط والعلاقة بالوضعية/ المشكلة.
3-كثرة الأسئلة واستقلاليتها عن بعضها في غير تكامل ولا انسجام ودون مراعاة التدرج على مستوى التعقيد والتركيب وتنامي المهارات التي تشكل عناصر كفاية المنهاج الدراسي
4-ضمور أو هامشية الأسئلة التي تتطلب القدرة على التحليل والتركيب والنقد والمقارنة وإبداء الرأي
عوائق بناء الوضعية المشكلة ومواقف متباينة:
بالعودة إلى الملاحظة الأولى ـ مرة أخرى ـ وباستحضار مفهوم الوضعية/ المشكلة يمكن القول: إن الأمر يتعلق بنص لغوي ذي مضامين معرفية معلومة تحيل على المطالب التقويمية التي نص عليها الإطار المرجعي الخاص بالامتحانات الإشهادية، ويتعين صياغته(النص) وفق شروط سيكوبيداغوجية تناسب فئة من المتعلمين معلومة المواصفات، وهنا قد تعترض الممارس صعوبات عملية على مستوى مهارة الإنشاء والتعبيرنذكر منها:
1-إن بناء معمار نص الوضعية، بمعنى إنشاء متنها اللغوي عملية إبداعية تتطلب من المدرس أو الجهة المسؤولة عن التقويم، جهدا غير يسير، فلا بد أن يعاد النظر في المتن مرات ليَسلم لغويا وتركيبيا ومعرفيا.
2-لا شك أن محاولة دمج قضايا من الدروس ومفاهيمها المركزية بشكل يجعل الوضعية توفر معاييرها الأساسية من تغطية ومطابقة وتمثيلية من جهة، والسلامة اللغوية من جهة ثانية أمر يحتاج لمهارة التوليف الجيد بين المعارف المستهدفة والمواقف المقصودة والقيم المنشودة، وذلك رهين بنضج الكفاية المهنية للمدرس وخبرته وتكوينه.
وفي كل الأحوال فإن جودة الوضعية ـ المشكلة غالبا ما تكون على حساب جودة الإعداد العلمي والمنهجي للدرس خاصة بالنسبة للممارسين المبتدئين، الأمر الذي يجعل الوضعية تتحول من أداة/وسيلة للإنجاز أو التقويم إلى هدف مقصود لذاته، لذلك فإن بعض الوضعيات التقويمية تحاول ربط التلميذ بالواقع (واقع الأمة والوطن…) لتحرز شرط المعنى المطلوب بالنسبة للمترشحين، فإذا هي تتحول إلى قضية/ضجة تثير الرأي العام المهني والإعلامي (نتذكر وضعية حول الفلسفة وأخرى حول وحدة الأديان وثالثة حول العلاقات الرضائية…)
وفي هذا السياق يلزم التذكير بأن من المدرسين مَن لهم موقف نظري جذري رافض للاشتغال تدريسا أو تقويما بالوضعية ـ المشكلة ، فهم يرون فيها بديلا غير ذي جدوى عن النصوص القرآنية، أو ربما تبدو لهم الوضعية ـ المشكلة أداةً مسؤولة عن استبعاد النص القرآني الذي بات واضحا، والحالة هذه، يحتل موقعا هامشيا في التقويم وحتى في الممارسة التدرسية اليومية أيضا، لذلك فهم لا يقبلون ب”الاستصنام البيداغوجي” لأداة الوضعية ـ المشكلة ، لقد تحولت، هذه الأداة ، ذاتها إلى مشكلة وعائق عملي، كما يرون أن الوضعية/المشكلة قد ” استنفدت أغراضها ” وأضحت تهافتا لا معنى له، لذلك يقترح هؤلاء العودة إلى ما قبل حقبة الوضعية ـ المشكلة (العودة إلى الأصل) باعتماد النص الشرعي القرآني أو الحديثي أو بانتقاء نصوص أخرى فكرية وحجاجية لبعض علماء الإسلام أو رجال التربية والدعوة…مجتزأة من مؤلفاتهم، فهي تغني عن الوضعية وتيسر عمل المدرس وتثري رصيده، بمعنى آخر أن هذه الفئة من الممارسين تنادي بأن يصبح النص الشرعي (أوالنص الفكري) هو “وضعية الانطلاق” السليمة والآمنة، لما تتيحه النصوص بتنوعها وغناها المعرفي ومرونتها الفائقة من إمكانيات التصرف بشكل بيداغوجي يحقق المقصد التقويمي المنشود ، وهكذا ستنتصب النصوص الشرعية بديلا كافيا باعتبارها بنيةً لغوية وعلمية زاخرة، متعددة الأبعاد والمستويات، تجمع بين التنوع والغنى المجالي من جهة والتناسق البلاغي الجمالي والبعد القيمي السلوكي من جهة أخرى…وفي كل الأحوال فإن هذه النصوص، في نظر هؤلاء، تشكل بحق مصدر اكتساب علمي ومعرفي وموجها قيميا وسلوكيا لكل من المدرس والمتعلم.
وثمة أيضا فئة من المدرسين لا يمانعون في الاشتغال بالوضعيةـ المشكلة، غير أنهم يرون أن النص القرآني قد توارت وظيفته المنهجية إلى الخلف، بينما أضحت الوضعية ذات أولوية منهجية ووظيفية، لذلك فهم يلفتون عناية زملائهم إلى خطورة المزالق التي قد تنجم عن إعطاء الأولوية المنهجية لغير النص الشرعي من الموارد والأسناد؛ ذلك أن النص القرآني ـ في نظرهم ـ لن يكون ضروريا إلا في حدود ضيقة (الاستدلال على حكم شرعي مثلا…) وقد تغني عنه أو تلغيه موارد أخرى في بناء الدرس وعند تقويم المكتسبات/التعلمات أيضا. وهذا ـ في رأيهم ـ وضع غير مألوف في تدريسية مادة التربية الإسلامية إذ أن النص الشرعي خصيصة كبرى للمادة، يسود مسارات الدرس ويؤطر الفعل الديداكتيكي ويحدد وجهته ومنتهاه…
وهناك فئة ثالثة من المدرسين متحمسة للاشتغال بالوضعية ـ المشكلة وتأنس من نفسها قدرة على التحكم المنهجي في الإنجاز والأداء، وترى أن الوضعية /المشكلة أداة تخلق دينامية بيداغوجية وتعزز فاعلية المتعلمين ومشاركاتهم، كما تمكن من تجاوز الرتابة المملة أو الطرائق الكلاسيكية المعتادة التي تسود فيها سلطة المدرس وينكمش فيها دور المتعلم.
وبالملاحظة يلمس المتتبع أن فئة من مدرسي المادة بسلكي الثانوي يسعون للتحرر من ربقة الوضعية ـ المشكلة وتجاوز ضيق أفقها وسقفها الوطيء بالانخراط عمليا في ظل رحابة النصوص الشرعية وسعتها وتنوعها وثرائها، لأنها توفر لهم آفاقا لعمل ميسر أقلّ تكلفا وتصنُّعا. ([4])
وعلى مستوى الممارسة التدريسية يجد المشتغلون في الميدان صعوبة معالجة الوضعية ـ المشكلة مع المستويات الدراسية الدنيا كالأولى والثانية من التعليم الإعدادي، فكيف لمتعلمين من هذه الفئات أن يدركوا دلالات ألفاظ كالفرضيات والقضية والإشكالية أوالمشكلة وتمحيص الفرضيات ومفاهيم أخرى وظيفية تشكل جزءا من معجم المقاربة الكفائية؟! لذلك فإن كثيرا منهم يتجنبون الاشتغال بالوضعية ـ المشكلة مع المستويين الدراسيين المذكورين حيث لا يجتاز التلاميذ أي امتحان موحد، واختيار هذا النهج الاضطراري إنما كان بمبرر صعوبة اعتماد آلية الوضعية ـ المشكلة، فينطلقون بدل ذلك من ” مداخل إشكالية” يصوغونها بيداغوجيا على شكل أسئلة مباشرة عادة ما يشتقونها إجرائيا من إشكال الدرس أو من القضية المركزية التي تؤطر المدخل ودروسه.
أما إذا شئنا أن نجري مقارنة طفيفة على مستوى أساليب التقويم وأنماطه(أصناف) السائدة، فإننا نلاحظ أن لا وجود لمثل هذه الأداة التقويمية في مواد دراسية أخرى كالعربية والفرنسية والاجتماعيات والفلسفة والعلوم الشرعية (القطب الأدبي والتعليم الأصيل)، فهي مواد دراسية تعتمد في وضعيتها التقويمية تقنية الانطلاق من نصوص تخصصية مألوفة لدى مدرسي هذه المواد، كما أنها ليست غريبة عن تلاميذهم، فعادة ما تكون نصوصا لأسماء كُتاب أو مفكرين أو فلاسفة يعرفونهم بأسمائهم…كما تكون أداة التقويم دوما نصوصا من القرآن الكريم أو الحديث النبوي الشريف في التعليم الأصيل على مستوى الامتحان الوطني أوالجهوي دون أن يثير ذلك أي ملاحظة لدى الجهات الرسمية ولا المهتمين أوالممارسين.
المنزع الجديد في أسئلة مباراة توظيف الأساتذة وإعلان القطيعة مع المقاربة بالكفايات :
إن ديباجة توصيفات المجالات المضمونية للاختبارات الكتابية لمباراة توظيف الأساتذة ـ 2022 ـ تخصص التربية الإسلامية، في اختبار مادة التخصص، قد جعلت من مواصفات الاختبار أسئلةً مغلقة من صنف أسئلة الاختيار من متعدد( QCM)، كما أنها قد حددت الغاية من اختبارالتخصص فيما يلي: ” يروم اختبار التخصص في إطار مباريات توظيف الأساتذة الأطر النظامية للأكاديميات تخصص التربية الإسلامية قياس درجة تحكم المترشح)ة) في مجال التحصيل المعرفي والمهاري والقيمي المستهدف بتكوينه)ها(الأكاديمي والذاتي، ومدى تملكه)ها( للكفايات النوعية، التي تؤهله)ها( للتوليف بين البعد التأصيلي، والبعد النظري التأسيسي في بعدها الوظيفي والبعد العملي التطبيقي لموارد المعرفة التخصصية في إطار ثوابت الأمة المغربية؛ باعتبارها كفايات تشكل في بعدها الوظيفي مدخلات أساس لاستكمال التكوين على مستوى المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، والانتقال بأستاذ)ة( المستقبل إلى مرقى الاكتساب العلمي والمنهجي لمستويات النقل الديدكتيكي للمعرفة العالمة ومداخله، نحو المعرفة المدرَّسة الصحيحة والملائمة” ([5])
وبينت الديباجة مبرر لجوئها إلى أسئلة مغلقة من صنف أسئلة الاختيار من متعدد ( QCM) بما يلي : ” تعميم اعتماد الأسئلة من صنف الاختيارالمتعدد QCM في الاختبارات الكتابية وتصحيحها آليا وذلك لضمان أعلى درجات المصداقية للنتائج ولتقليص الكلفة الزمنية والمالية ” ([6])
بالنظر إلى الغاية والمبرر المذكورين، وانطلاقا من طبيعة أسلوب التقييم المعتمد (QCM) يمكن القول :
1-لا يتيح هذا الأسلوب في التقويم قياس ما يسمى بمهارة التوليف ولا التأصيل ولا النظم باعتبارها مهارات لا تظهر في الغالب إلا على شكل إنتاج مكتوب، يروم إنشاء تعابير كلامية وتركيبها وتنظيمها وفق معايير محددة.
2-أبعاد المعارف التطبيقية والعملية والتأصيلية كما يطمح إليها الاختبار تبقى صعبة المنال باعتماد هذا الصنف من التقييم، ولذلك يبدو قياس هذه الكفاية مطلبا متعذرا غير ذي صلة بهذا النمط من الامتحانات، فهي أسئلة عبارة عن عرض لجزئيات من دروس المنهاج أو من مصادر العلوم الشرعية وفق ترتيب معين، عُرضت كما تعرض قطع غيار سيارة في محلها التجاري مفككة لا يربط بينها رابط حقيقي([7]) إلا ما كان من كونها تقع من حيث التصنيف تحت مسمى أو عنوان واحد ييسر الوصول إليها في وقت وجيز، وإن إيراد الأسئلة بشكل مفكك في سياق التقييم بالوضعية ـ المشكلة التقويمية لا يعنيه سوى الحرص على تحقيق مبدأ التغطية (اشتمال الاختبار على كل أو جل عناصر المنهاج أو المجالات العلمية للتخصص …) فلا يتأتى له الاحتكام على الوجه الدقيق لمعايير قياس مستوى التحكم في الكفاية.
3-بغض النظر عن “مصداقية النتائج” المنشودة فإن منطق: ” تقليص الكلفة الزمنية والمالية ” ـ إن سلمنا به ـ منطق مقاولاتي لا ينسجم مع روح بيداغوجيا التقييم وفلسفة التربية وجودة التعليم المنشود.
4-إن الكفاية المطلوب من المفحوص/المترشح التحكم فيها تقوم على أساس امتلاك جملة من مهارات عليا يتعين أن ” يفعلها ” لحظة مواجهة وضعية ـ مشكلة، أو حين يكون إزاء وضعيات حياتية جديدة، تتطلب منه إما اختيار حلول مناسبة جاهزة أو” التوليف ” بين اختيارات متباينة، أي الجمع بين عينة منها واقتراحها حلولا، على مستوى المواقف أو الآراء، في انسجام مقبول بينها، فهل بإمكان المترشح أن يجيب بهذه الشروط مع أن الأسئلة لا تسمح بتفعيل مثل هذه الكفاية/ المهارة ولا هي تلائمها، لأنها أسئلة “متشظية” ومفككة كأنها ” قطع غيار إلكتروني” صغيرة الحجم ـ تفقد في سياق المقاربة بالكفايات ـ معناها ووظيفتها التقويمية ([8])
5-وإذا تقرر أن التوليف ـ بمثابة مفهوم مركزي في وثيقة توصيفات المجالات المضمونية للاختبارات الكتابية لمباراة توظيف الأساتذة الأطر النظامية للأكاديميات ـ تخصص التربية الإسلامية، اختبار مادة التخصص، فإنه بحق عملية إجرائية على درجة عليا من التركيب والتأليف، تتطلب قدرة خاصة على نظم عناصر متنوعة ومتعددة وضمها وإخضاعها لترتيب منطقي له أبعاده على مستوى قياس سلم الاكتساب العلمي والمنهجي لدى المترشح، ويتطلب قدرا من التناسق والانسجام والملاءمة ، فإنه تبعا لذلك يصعب إن لم نقل يتعذر عمليا ربط العلاقة بين الكفاية المنصوص عليها في التوصيف وبين هذه الأسئلة موضوع دراستنا هذه.
وعلى نحو مغاير نسبيا فإن توصيفات الاختبارات الكتابية لامتحانات الكفاءة المهنية ـ دجنبر 2022 ـ اختبار في ديداكتيك مادة التخصص: التربية الإسلامية، قد لامست جوانب من مقومات المقاربة بالكفايات واستحضرت مقاصدها البيداغوجية بغض النظر عن بعض صعوبات مطالبها التقويمية، لكنها ظلت تستحث أهم مكتسبات المدرس الممارس وتدعوه إلى استثمار تجربته وخبرته فضلا عن تعبئة متبصرة لموارده النظرية، وذلك خلال ثلاث ساعات من مدة الإنجاز، ([9]) وهي مدة كفيلة، عموما، بأن تسمح للمترشح بإعمال أهم قدراته وإبراز بعض عناصر كفايته المهنية، فلا شك أنه سينجز مهمة أو مهمات (ثمانية أسئلةـ08ـ) ستسفر لا محالة عن منتوج قابل للفحص والقياس يجسده المترشح في بضع صفحات مكتوبة ([10]).
إن منزع أسئلة هذا الاختبار في عمومها تنحو منحى تقويم يسعى لقياس درجة تحكم المفحوص/المدرس في كفايته من خلال بعض مكوناتها المهارية، سواء تعلق الأمر بمرحلة التخطيط أو التدبير أوالتنفيذ أو التقويم والمعالجة، وهكذا كانت الأسئلة في مجملها تتمحور حول :
-تحديد دلالات المفاهيم المركزية في المنهاج وخصائصها العلمية
-ربط العلاقات بين العناصر الوظيفية للمنهاج الدراسي
-إبراز مهارة التفسير انطلاقا بعض المقولات الواردة في الأسناد
-بيان أسس تدبير التفاعل الصفي بين المدرس والمتعلم
-تعيين المهارات التي تسهم في إقدار المتعلم على اتخاذ مواقف إيجابية
-حصر الخطوات المنهجية المناسبة لتدبير مقطع من سورة قرآنية مقررة
-اقتراح نشاطين وظيفيين من أنشطة التعلم الذاتي خارج الفصل الدراسي
-معرفة الضوابط المنهجية والمضمونية التي ينبغي استحضارها في سياق إعداد فرض المراقبة المستمرة
-وضع خريطه مفاهيمة لأنواع الدعم التربوي (تصور لمشروع بيداغوجي للدعم المندمج…)
-سبل استثمار نتائج التقويم التشخيصي في كشف مصادر التعثرات المرصودة…
وهي عموما أسئلة تتطلع إلى استثارة أهم مهارات المدرس الممارس والتي تتمحور عموما حول صدق التوصيف ودقة الربط وعمق التحليل وحسن التوظيف والاستثمار… كما أنها أسئلة تنتظر أجوبة لا تتأثر بعامل ” الحظ ” أو الصدفة بمعناها العام، وإن كنا نفضل أن يتقلص عدد الأسئلة إلى ما دون أربعة أو ثلاثة حتى تتيح للمفحوص/الأستاذ “فرصة لممارسة الكفاية أو فرصة لتقييم درجة التمكن من الكفاية” بتعبير عبد الكريم غريب.
وإذا جاز القول بنوع من القطيعة بين الكفاية المنصوص عليها في وثيقة المنهاج الدراسي جهة وبين أسئلة الامتحانات الإشهادية من جهة ثانية، فإن أسئلة مباريات ولوج سلك تأهيل أطر التدريس قد أعلنت عمليا القطيعة مع المقاربة بالكفايات وجسدت بوضوح فك الارتباط بها رغم أن التوصيفات تتحدث نظريا بمستوى جذاب عن الكفاية المهنية لمدرس المستقبل من خلال رصد “مهارات المترشحات والمترشيحن في التحليل والتقويم والتركيب” .
الخلاصة والأفق المنشود:
على خلاف صنف أسئلة (QCM) فإن الأسئلة المقالية حيث يتطلب الإجراء كتابة/إنشاء نص (أو نصين أو ثلاثة) نثري يدور حول فكرة أو جزء من فكرة، يعبر عن وجهة نظر معينة يقوم على الحجاج والإقناع أو التفسير والتوضيح أو الإثارة والترغيب أو النصح والتوجيه بلغة سلسة واضحة…فإن السؤال المقالي المنضبط بتعليمات واضحة لهُو الأداة الأنسب لقياس تحقق الكفاية التي نصت عليها التوصيفات ونص عليها أيضا الإطار المرجعي للامتحانات الإشهادية، ذلك أن هذا النوع من الأسئلة يكتسي ـ بالنظر إلى مفهوم الكفاية وخصائصها وشروطها ـ أهمية خاصة ومن ذلك:
1-الأسئلة المقالية من النوع الذي يسمح للمترشح باستحضار ما بحوزته من موارد مكتسبة في سياق معين وعرضها وتنظيمها وفق نسق محدد غالبا ما يكون جديدا، بمعنى أنه يقوم بنشاط ذهني جديد، يجسد فيه أقصى قدراته ويمكنه من إبراز ذاتيته كمترشح لمهام مهنية معلومة.
2-الأسئلة المقالية تعطي للمترشح حرية الاستجابة على النحو الذي يناسبه وبالكيفية التي تنتظرها لجنة التقويم/التصحيح، فهو الذي يقرر كيفية تفسير الوضعية/المشكلة بالمعلومات التي يختارها هو وينتقيها بنفسه أيضا، وهكذا تساعد أسئلة المقال على قياس مهارات أساسية أو قدرات معينة تندرج تحت مفهوم الكفاية وتسهم في إبراز معالم توجه المترشح التربوي والنفسي وتقيس استعداداته لمزاولة مهنة التدريس.
3-تظهر الميزة الكبرى لهذا النوع من الأسئلة في كونها تسعف في الكشف عن رأي المترشح/المفحوص حول قضايا ذات صلة بالمنهاج الدراسي، كما تمكن من عرض مواقف جديدة تتيح له أن يطبق عليها ما اكتسب من معارف ومهارات.
4-تفيد في التحقق من درجة التحكم في العمليات العقلية العليا وذلك لأنها تتطلب التوصل لاستنتاجات وإجراء مقارنات وتحليلات وإصدار الأحكام بأنواعها على المواقف النظرية والعملية ونماذج الآراء التي قد تطرح للنقاش والتداول قصد التمييز بينها بالمفاضلة و الموازنة.
فمن غير شك فإنه لا يتأتى صوغ منتوج يجسد كفاية المترشح/ المفحوص إلا باعتماده وتحكمه في مهارات ذات أبعاد عملية تشكل مجتمعة داخل منتوج المترشح محددات لنضج الكفاية لديه، وتعتبر مؤشرات دالة على التحكم فيها؛ فضمن المنتوج المقالي المكتوب ذاته يُتوقع أن نقيس دقة تحديد الاصطلاحات وإعمال وظيفية المفاهيم وتصنيف المعطيات وترتيبها وفق معايير محددة، كما يتم جرد الخصائص المميزة للمفاهيم وبيان الفوارق بينها، وفي نفس المنتوج أيضا تبرز مهارة استحضار نصوص الوحي والاستدلال بها والربط بينها وبين القواعد والمبادئ العامة، أو ربط تلك النصوص بالواقع والمحيط العام (الوطن) والخاص (المؤسسة التربوية والحياة المدرسية) ، وفي المنتوج عينه يجسد المترشح مهارة التحليل باعتبارها عملية تجزيء المركب وإرجاع عناصر معينة إلى أصلها ومصدرها العلمي المناسب، وتفسير العلاقات أوالترابطات بين الأسباب والنتائج، وتمييز السلوكات والأفعال على ضوء طبيعتها الشرعية (ما يجوز وما لايجوز) من خلال تحليل ظاهرة اجتماعية مثلا، فضلا عن حصر الإشكال وتحديد عناصره المكونة له…
وبالنظر إلى هذه المزايا التي تتيحها الأسئلة المقالية، فإنه من المناسب أن يكون الاختبار وفق هذا النمط الذي يناسب التدريس بالكفايات، ويمكن أن تقتصر أسئلته على مادة التخصص وعلى جزء أو مجال من علوم التربية محدود، رغم أنها بعيدة عن اهتمام طلبة الإجازة الأساسية، مع استبعاد ديداكتيك التخصص خاصة أن المجالات المضمنة في التخصص (المجال الخامس: القيم والفكر التربوي الإسلامي وحوار الحضارات) كافية لقياس هذا البعد التكويني.
الخلاصة إذن هي أن أساليب التقويم السائدة في مادة التربية الإسلامية لا تلائم ـ عموماـ مقتضيات التقويم وفق ما يسمى بالمقاربة بالكفايات، سواء على مستوى الامتحانات الإشهادية أو مباريات الدخول للمراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، فليس بينها وبين الأساليب التي كانت سائدة من قبل أي فرق يذكر(بيداغوجيا التدريس بالأهداف: P.P.O). لذلك لم يعد مجديا الجمود عند قوالب أداتية ضيقة لا تسمح بالمرونة والسعة المطلوب في النظام التقويمي، ولهذا فليست كل مواقف المدرسين النقدية من بعض الوضعيات التقويمية وما تثيره من “ضجات” شكلا من أشكال الممانعة أو هي نتيجة سوء فهم أو ضعف التكوين كما قد يتوهم البعض بقدر ما هي وجهة نظر لها مسوغاتها البيداغوجية والتطبيقية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]) وزارة التربية الوطنية، المركز الوطني للتجديد التربوي والتجريب، المقاربة بالكفايات، ص: 3.
[2]) عبد الكريم غريب: بيداغوجيا الإدماج، نماذج وأساليب التطبيق والتقييم، حيث يعرف المؤلف الوضعية المشكلة فيقول: “فرصة لممارسة الكفاية أو فرصة لتقييم درجة التمكن من الكفاية”. صفحة 11
[3]) مديرية المناهج. منهاج مادة التربية الاسلامية 2016 بسلك التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي العمومي والخصوصي، ص: 19.
[4]) ومما يدل على أن الاشتغال بالوضعية ـ المشكلة قد أثار نقاشا واسعا، ما ورد من أسئلة حولها في امتحان الكفاءة المهنية لولوج الدرجة الأولى من إطار أساتذة التعليم الثاموي التأهيلي ـ دورة دجنبر 2021 اختبار في ديداكتيك مادة التخصص(التربية الإسلامية) يقول السؤال 4 : “من المقاربات البيداغوجية التي تثير نقاشا بين مدرسي التربية الإسلامية بيداغوجية الوضعيات، باستحضار السند الثالث أبرز اوجه هذا النقاش مبديا رايك الشخصي المعزز بأربعة حجج”
[5]) وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة ، المركز الوظني للتقويم والامتحانات، توصيفات المجالات المضمونية للاختبارات الكتابية لمباراة توظيف الأساتذة الأطر النظامية للأكاديميات ـ 2022 ـ تخصص التربية الإسلامية، اختبار : مادة التخصص ـ ص.1
[6]) دليل المساطر والعمليات التحضيرية والتنظيمية والإجرائية لمباريات توظيف الأساتذة وأطر الدعم الإداري والتربوي والاجتماعي: الأطر النظامية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين ـ مباراة توظيف أساتذة التعليم الثانوي الأطر النظامية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين ـ دورة نونبر 2022 ـ ص.4 وهو المبرر ذاتها الذي ساقه دليل المساطر لدورة أكتوبر 2024 في التقديم، صفحة 4
[7]) بلغت أسئلة مادة التخصص مائة (100) سؤال في تسع عشرة صفحة ـ وزارة التربية الوطنية، المركز الوظني للتقويم ، توصيفات المجالات المضمونية للاختبارات الكتابية لمباراة توظيف الأساتذة الأطر النظامية للأكاديميات ـ 2022 ـ تخصص التربية الإسلامية، اختبار : مادة التخصص
[8]) انظر في هذا الصدد كتابنا : تدريسية التربية الإسلامية من التخطيط إلى التقويم ، حيث اقترحنا مهارات تشكل فيما بينها جوهر الكفاية وهي : التوصيف والربط والتحليل والتوظيف، وهي ـ وخاصة المهارة الأخيرة ـ تجسد تعبئة التعلمات والتوليف بينها بشكل مندمج حسب المهام المطلوبة من المفحوصين بحيث يشكل المنتوج بنية جديدة عبارة عن عمل شخصي فيه يعبر المفحوص/ المترشح عن رأيه ويحدد موقفه بالتعليل والتدليل المناسبين.
[9]) توصيفات الاختبارات الكتابية لامتحانات الكفاءة المهنية ـ دجنبر 2022 ـ امتحان الكفاءة المهنية لولوج الدرجة الأولى من إطار أساتذة التعليم الثانوي الإعدادي ـ دورة دجنبر 2022 :اختبار في ديداكتيك مادة التخصص : التربية الإسلامية
[10]) للإشارة فإن عناصر الإجابة الصحيحة المقترحة من لدن اللجنة المكلفة بالتقويم قد غطت أربع صفات مقتضبة تكتفي بالإشارة إلى الجواب المقبول
بارك الله فيك أستاذنا الفاضل على هذا المقال الرصين وعلى هذه القراءة النقدية المهمة، لموضة عمت بها البلوى وكان لها الأثر القبيح على واقع تدريس المادة، خصوصا ممن تم تلقينهم أن الوضعية المشكلة من توابث التدريس بالكفايات ومن الخطوط الحمراء التي لا ينبغي تخطيها في تدريس مادة التربية الإسلامية!!
مما نتج عنه تطبيقات و تنزيلات مشوهة وفي غاية السطحية لا على مستوى التدريس ولا على مستوى التقويم.