مدرسة غـزة

هوية بريس – خالد أبوزيد القصري
بين الركام والدمار والتجويع والقصف والتقتيل وصنوف الإبادة التي لم تجتمع بأرض إلا أرض الشهامة والإباء غـزة العزة، غـزة الكرامة والصمود، بين ركامها وآكامها التي سُقيت من وابل الظلم والأذى مدارس للناظرين وعبر للمعتبرين، وكم علّمت الحياة وتعلّم بالمحن والنوازل، وقد قيل: “الشدائد تُظهر الرجال” ونقول مستلهمين من غـزة العزة: “الشدائد تصنع الرجال”.
لقد علمتنا غزة -وما تزال- دروسا في العقيدة، وأخرى في الفقه، وكتبا في التاريخ والسير، وصورا في الثبات، ونماذج في البذل والتضحية… علمت أمةً أودى بها جهلها، وسفُلت بتخلفها، ولولا سادت عِلْما لكانت عَلَما.
فبين الفينة والأخرى تطل علينا أرض الصمود بدرس يخلده التاريخ وتسطره الأمجاد.
من أم ثكلى تودع ابنه بصمود وصبر لو فاض على العصبة أولي القوة لأثقل كواهلهم، تودع فلذة كبدها محتسبة لله تقول: “يارب خذ من أولادنا حتى ترضى”، بل وتجعل نتاج حصادها فيما يستقبل من عمرها -إن سلم لها في أرض الموت- لربها ومولاها تقول: “المرأة الفلسطنية امرأة ولادة” وتقول أخرى: “اقتلوا أنتم ونحن نلد” دروس إن عددتها في التاريخ عُدت، أو في دروس العقيدة عقدت القلب فاطمأن وسكن، وإن شدوت بها في فصيح الكلام لأنشت وأسكرت.
هؤلاء نسائها فكيف برجالها، أولٰئك الذين أذهلوا العلم بما تطيش به العقول، ببأس وشكيمة لم نعرفها إلا في كتب التاريخ وسير السابقين، من حافٍ يخوض غمار الموت والردى وروحه في يده وهو يقول: “يارب خذ من أرواحنا حتى ترضى”، يرى القاتل العربيد بعُدته وعتاده، وحرسه ومنعته، مدججا بالسلاح محاطا بالأشباح، فلا يتردد في قصده وصده، بل وفي دمغه وفصده، فيالها من دروس لم تكن لتصدّق لولا توثيقها.
ومن هؤلاء الأسود تثور الأشبال وتنهد الجبال، فإن ذلك الطفل المُعنّى الذي يتقلب في ظلم وقهر وجوع وقصف… وكل ما لا يطيقه أشباه الرجال،ذلك الطفل هو رجل الغد وأي رجل، رجل خشُنت له الحياة فاحشوشن معها، وتكالبت عليه المصائب فما لان لها، فقد كل ما يصله بالحياة من أبوين وإخوة وطعام وشراب إلا عزته وصموده وإيمانه، فما هو إلا تلك القـ.ـذيفة الموقوتة التي تنتظر وقت عملها.
غـزة ما غـزة أرض تجود، وبلد تذود، وأرواح كُتب لها الخلود.
في غـزة تقرأ سورة البروج حرفا حرفا، وتنظر أصحاب الأخدود واقعا معاشا “قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)“.1.
في غـ.ـزة العزة ترى أبطال كتيبة الموت الذين سمعنا خبرهم ولم نشهد مَخبرهم، ترى رجالا يخوضون الموت مبايعين على حتفهم، ومسترخصين أنفسهم.
في غـ.ـزة الصمود تجد قصة الأحزاب “إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)“2، وتجد بين هؤلاء المتكالبين ذلك الصحابي المغاور نعيم بن مسعود رضي الله عنه يتسلل بين القوم يرصد أخبارهم، ويعد أغمارهم، بل ويخرب بكل بأس دارهم.
غـزة ما غـزة القصة الخالدة والمدرسة الراشدة والقلوب الصامدة.
لا تحسب الدرس الكِتَابَ وخطَّه
قد يرشد الدهر الجهول ويخبرُ
كم من دروس بالنوازل رسمها
كم من فؤاد بالمصائب يُسبرُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ (سورة البروج، الآيات 4-7).
٢-(سورة الأحزاب 10).



