مدونة الأسرة.. حين يستخدم الفقه والدين في تفكيك الأسرة المسلمة

03 يناير 2025 19:37

هوية بريس – إبراهيم الطالب

لا شك أن الأسرة هي الأساس المتين للمجتمع المسلم بل لكل المجتمعات التي تؤطَّر الأسرةُ فيها وفق الشرائع السماوية، وتستمد مكانته من كونها المؤسسة التي يتم فيها تمرير العقائد ومنظومة القيم وانتقال الأعراف التي تضبط التصورات والتصرفات بين أفراد المجتمع، ولا جدال أيضا في كون الأسرة في دول العالم النصراني قد فكَّكتها “الديانة” العلمانية، بقيمها البديلة وتصوراتها الفلسفية المادية رويدا رويدا، ولعل من أقل نتائج هذا التفكيك فداحةُ نتائج تصريف الشهوة الجنسية، حيث أصبح عدد ولادات الأطفال خارج إطار الأسرة في الغرب يفوق الولادات داخلها.

ويمكن أن نعتبر في سياق الجدل الحاصل في المغرب اليوم حول مدونة الأسرة، أن عملية التفكيك للأسرة المغربية قد بدأت عمليا منذ ترسيم المدونة الحالية، التي صودق عليها في 3 فبراير 2004، في سياق الحرب على الإرهاب، بعد أحداث 16 ماي التي استُغلت بشكل واضح لتمرير مطالب العلمانيين، وجعلها تشريعات تحكم المغاربة، تشريعات لم تكن لتمُرَّ أبدا لولا الخوف الناتج عن ظروف تفشي “الإرهاب” دوليا.

الإرهاب الذي اختزلت الحرب عليه دوليا ووطنيا في التضيق على العلماء ومؤسسات العلم والدعوة وعلى الفاعلين الإسلاميين من كل التيارات والأحزاب الإسلامية، ولعل أهم ما تم تمريره في المدونة المذكورة، هو شطب شرط الولي من عقد الزواج، الأمر الذي جعل من مدونة الأسرة قانونا خاصا بالمرأة، حيث أصبحت تزوج نفسها بنفسها وتطلق نفسها بنفسها، ويمكن اعتبار هذا المآل طبيعيا لكون الخصم في معركة المدونة كان هو المنظمات النسوية التي تستصنم المنظور الغربي العلماني للأسرة والذي بُني على أساس اختلاق الصدام الدائم بين الرجل والمرأة.

إلا أن هذا التفكيك للأسرة المغربية كان منشؤه هو ما سمي بـ”خطة إدماج المرأة في التنمية” التي تقدمت بها حكومة التناوب وتولى وضعها الوزير سعيد السعدي المنتمي لحزب التقدم والاشتراكية قبل أن يستقيل منه بعد ذلك، احتجاجا على تحالف حزبه مع العدالة والتنمية في ولاية بنكيران الأولى.

وقد صرح هذا الوزير التقدمي خلال الأسبوع الماضي، بأن أساس الخطة التي تقدم بها حينها كان هو مخرجات مؤتمر بكين 1995، هذا المؤتمر الذي تطور بعد نسخه المتوالية ليصل اليوم إلى نسخة بيكين زائد 25، وفي أحد نسخه تم الاعتراف بأن الأسرة قد تتشكل من ذكرين أو من أنثيين، والتي صارت مقدمات المطالبة بها تتخذ في المغرب شكل التطبيع مع الشذوذ/اللواط والسحاق والتحول الجنسي، وهو ما رأيناه في كثير من المناسبات كان آخرها المهرجان الدولي للفيلم بمراكش.

وما يهمنا من هذه المقدمة هو أن نؤكد على أن الجدل الحالي حول المدونة والتعديلات المزمع إدخالها عليها لا تخرج عن هذا السياق التفكيكي للأسرة المغربية، وذلك حتى نستبين الأهداف المستقبلية للمنظمات المغربية الحقوقية والنسوية، والتي تندرج ضمن مشروع كبير تتبناه منظمة الأمم المتحدة في العالم الإسلامي ومنه المغرب وهو: مشروع “علمنة الأسرة المسلمة”، وذلك من خلال تطويرها تدريجيا للاستجابة لما تشرعه المنظمات الحقوقية الدولية الخاصة بالمرأة، تطوير يروم إحلال التشريعات العلمانية البشرية محل التشريعات والأحكام الشرعية المؤطرة للأسرة.

لذا فالكثير من العلمانيين يحاولون أن يكتموا هذه الحقيقة ويقفزوا عليها حتى لا يثيروا الشعب المغربي، ويفضلون التواري وراء المطالبة بالوفاء بالتزامات الدولة المغربية نحو المنتظم الدولي، ممارسين الضغط المستمر على الحكومة والدولة لإقرار سمو المواثيق الدولية دون قيد أو شرط، الأمر الذي يعني الاستجابة الكاملة للتصور العلماني للأسرة، والذي يشمل مثلا المساواة النهائية في الإرث بين الرجل والمرأة، علما أن ذلك التصور اللاديني مناقض للدين الإسلامي وللفقه المالكي وللدستور الذي يضبط سمو المواثيق الدولية بعدم اعتراضها مع الدين الإسلامي ومقومات الهوية، وهنا يكمن صلب موضوع هذه المقالة.

فإذا كانت هذه هي الخلفية الفلسفية للتعديلات التي يراد إدخالها على مدونة الأسرة، فلماذا يُستَدعَى الفقه ليَرْتِق الخرقَ الذي تُحدثه العلمانية في نسيج المجتمع المغربي؟

هل يليق بالعُلماء الرسميين أن يقوموا بدور التلفيق في التشريعات التي تصدر عن “الطائفة” العلمانية بعد أن كانوا هم الأساس والركن الركين في التشريع للمسلمين، من خلال المكانة التي كانت لهم في تدبير الشأن العام في الدول المتعاقبة على حكم البلاد، هذا بالإضافة إلى قيامهم بالاجتهاد المنضبط من أجل تأطير التطوير المجتمعي من خلال إصدار الفتاوى الشرعية في النوازل؟

ومتى كان دور الشريعة ودور العلماء المالكية طيلة 14 قرنا هو مسايرة التطور الاجتماعي الذي تحفزه بشكل سرطاني جهات تتخذ من شهوات المواطنين مصدرا للثروة وأداة للتوجيه العام للذوق والعقل الجمعي.

هذه الجهات اليوم اتخذت لها منظمات حقوقية وجمعيات تنطلق من الفلسفات المادية التي تعتقد أن الأصل في تكوين المجتمع البشري هو الفرد وليس الأسرة، وأن هذا الفردَ هو محورُ الكون، الذي يجب إرضاءُ نزواتِه وشهواته، وأن كل القيود التي تفرضها الجماعات البشرية على الأفراد سواء كانت دينا أو قيما هي من اختلاق البشر، وليست ملزمة للمجتمع الحداثي الذي كفر بالميتافيزيقا أيًّا كانت كمصدر للتشريع ووضع القوانين.

تطورت سلطة هذه الجهات لتقتحم تصوراتُها وتشريعاتها حمى أسرنا، فتثبت فيها ما تريد وتنزع منها ما تشاء، وللأسف نرى علماءنا الرسميين يرضخون لها، علموا ذلك أم جهلوه.

أوليس ما وقع فيه المجلس الأعلى وما صرح به الوزير التوفيق هو خضوع تام لسلطة الثقافة الغالبة التي تستقوي بالضغط الأجنبي على بلادنا؟

فعندما يبدع مثلا وزير الأوقاف وهو ينوب عن العلماء في المجلس العلمي الأعلى -وإن لم يكن عالما بالشريعة لكونه اكتسب عضويته في المجلس بالصفة التي يخولها له المنصب الوزاري الذي يشغله- بالبدائل التي تريح العلمانيين وتبحث لهم عن مسارب في الفقه لتنفيذ تصوراتهم، ألا يكون هذا هو المعنى الحقيقي للبس الحق المعطل بالباطل المتسلط؟

أليس هذا هو التلفيق بين الشريعة وأحكامها وبين مقتضيات “الديانة” العلمانية؟

ولنأخذ مثالا على ما قلناه، تلك الثلاث مسائل الأولى مما تلاه الوزير في اللقاء التواصلي مع الإعلام في سياق الإشارة إلى القضايا العشر التي وافق عليها المجلس كما اقترحتها اللجنة حيث قال:

“هناك ثلاث مسائل أعطت فيها اللجنة حلولا بديلة توافق الشرع، وتحقق المطلوب، ومن الأفضل الأخذ بها.

ويتعلق الأمر:

1- بنسب الولد خارج الزواج، وهو جواب يعطي حلا بديل، وهو تحميل الأب كالأم المسؤولية عن حاجيات الولد، دون إثبات النسب، لأن إثبات النسب يخالف الشرع والدستور، ويؤدي إلى هدم مؤسسة الأسرة وخلق أسرة بديلة.

2- والوصية للوارث: إذا لم يجزها باقي الورثة، والجواب: هو حل بديل يتمثل في الهبة عوض الوصية، وعدم اشتراط الحيازة الفعلية.

3- إلغاء التعصيب في حالة ترك البنات دون الأبناء، والجواب البديل هو الهبة للبنات، وعدم اشتراط الحيازة الفعلية”.

فأول سؤال نطرحه على السيد الوزير هو: ما معنى قولك: “حلولا بديلة توافق الشرع، وتحقق المطلوب”، فهي بديلة عن ماذا؟ وتحقق المطلوب لمن؟

إن المسلمين في المغرب -معالي الوزير- ليست لهم مشاكل بخصوص التعصيب لأنهم لا مشكلة لهم مع عم بناتهم، والفقيرات سواء من النساء أم البنات المتوفى عنهم آباء أسرهم، لا يحمِّلن الأعمام مسؤولية فقدانهم لجزء من الإرث المتعلق ببيتهن الذي تركه الزوج أو الأب، بل يلومون الدولة التي لم تكفل لهن حقهن العيش الكريم، ألم يكن يكفي العلماء أن يطلبوا من الدولة شراء نصيب الأعمام من تركة إخوانهم وتفويته للبنات والنساء الوارثات، بدل أن ينبه العلمانيون إلى التحايل على حق الأعمام من خلال عقد هبة يقصد منه حرمان أصحاب الحقوق.

والعجيب أنَّ تدخُّل الدولة هذا ذكره العلماء في جوابهم عن مسألة التوارث بين الكافل والمكفول، والذي اعتبروا أنه يوفر حلَّين بديلين وهما: “يمكن لكل منهما حيازة المال في حالة عدم وجود ورثة وتنازلت الدولة عن الإرث، ويمكن لكل منهما أن يوصي أو يهب للآخر بإرادته، وعدم اشتراط الحيازة الفعلية، ويمكن لولي الأمر أن يفرض تنزيلا واجبا للمكفول بمقتضى القانون إذا رأى في ذلك مصلحة”، فلماذا يطالبون الدولة ولو بطريقة غير مباشرة للتنازل عن حقه في تركة من لا وارث له، وتحمل العم تبعات ضعف المجتمع وتفكك الأسرة الممتدة.

لقد بدا واضحا من خلال تصريح الوزير ومن معه من علماء المجلس العلمي الأعلى أنهم يشتغلون تحت ضغط التيار العلماني الذي يستقوي بالمنظمات الدولية لعلمه أن الدولة المغربية لا تستطيع أن تقف في وجه هذه المطالب الحقوقية والدفوعات النسوية، وأن تعلن رفضها لها بكل صراحة، نظرا للالتزامات التي أُخِذت من الدولة المغربية قسرا تحت ضغط الاتحاد الأوروبي والخارجية الأمريكية والمنظمات الدولية الخادمة للرأسمالية وشركاتها، التي تمول المنظمات بسخاء مقابل أن تؤدي وظيفةَ تفكيكِ كل الأسر في العالم، وذلك حتى تتوقف عمليةُ تمرير القيم والمعتقدات بين الأجيال والتي تحدُّ من عملية الاستهلاك التي تعتبر شرطا للزيادة المستمرة في الإنتاج.

هذا الضغط جعل العلماء في المجلس العلمي الأعلى لا يناقشون السياق الذي نشأت فيه هذه المطالب، ولا تبعات ترسيمها، ولا أثرها على الأسرة، بل كان همهم هو التخلص من الإكراهات التي تطرحها المطالب النسوية على مؤسسة الفتوى التي تعتمد الفقه المالكي كمصدر لما تصدره من فتاوى.

فلماذا نراها تجعل من نفسها مستخدَما يبحث عن الحلول للمآزق التي أفرزتها العلمانية، هذا الاستخدام المذل لجناب العلم والعلماء هو ما عبَّر عنه الوزير بقوله: “حلولا بديلة توافق الشرع، وتحقق المطلوب” معلقا عن اقتراحات العلماء.

ولنا أيضا أن نلاحظ القاموس المعجمي الذي استعمله الوزير: فعبارة “خارج إطار الزواج” عندما ننعت بها الأولاد فهي ترادفها في الاصطلاح الفقهي المالكي: “الزنا أو السفاح”، لكن السيد الوزير لا يجرؤ أن يستعمل هذه الألفاظ الشرعية حتى لا يقلق العلمانيين في الداخل والخارج، فهي من جهة تحيل على الحدود الشرعية المتعلقة بالزنا، بالإضافة إلى كونها تناقض مفهوم الحرية الفردية التي من نتاجها أولاد الزنا الضحايا المباشرون للتمكين في بلادنا للسلوكيات العلمانية المنتصرة للحريات الفردية في جانب تصريف الشهوة.

ثم إن تحميل الأب من زنا كالأم من زنا المسؤولية عن حاجيات الولد، دون إثبات النسب، هو خطوة نحو إلحاقه بأبيه والاعتراف بنسب الولد من زنا للأب الزاني، وستنتهي بشطب الزنا نهائيا من موانع الإرث، وهذا تطبيع مع الفاحشة، فإيجاد الحلول لولد الزنا، في ظل أمان الزاني والزانية من العقوبة الشرعية، ليس مجرد إعانة أو بحث عن الرعاية للضحية، بل هو حل للمشاكل والآثار الناجمة عن تغييب منظومة القيم الإسلامية وأحكام الشريعة من أن تأخذ محلها في سن القوانين، التي تتطور في المغرب بفعل عملية التطوير القسري للمجتمع التي تقوم به السوق الليبرالية والدراما الإفسادية، وما يعرض من شذوذ وفساد في المهرجانات وما تدعمه وزارة الثقافة والمركز الوطني للسينماتوغرافيا والسمعي والبصَري، وكذا ما تروجه وسائل الإعلام المدعومة بالمال العام وغيره من الأطراف التي يهمها أن تفكك الأسرة لصالح النزعات الفردانية.

نعيدها مرة أخرى: إن المغاربة المسلمين لا يَطلبون من العلماء حلا للأولاد نتاج الزنا، فالدولة من يجب أن يتكفل بهم ويحد من ارتفاع عددهم، بل الذي يؤرقهم هو هذه الليبرالية العلمانية المتهتكة التي تتحكم في المؤسسات العمومية، وتفسح لكل الجهات مجالا لتفرض على أبنائها “قيما” لادينية وسلوكيات مناقضة للشرع، لتغرقهم في الزنا والشهوات.

فهل تكفي خطة التبليغ التي يعتمدها الوزير ويُحَيد من أجلها المساجد من معترك الحرب العلمانية/الإسلامية، في التصدي للهجوم المستمر على ما تبقى من الشريعة الإسلامية في القوانين المغربية؟

وهل يليق أن يختزل دور العلماء في الشأن العام في إيجاد الحلول للمشاكل التي تفرزها السياسات الليبرالية وأحزاب الأغلبية ذي التوجه العلماني؟

فرجاء نزهوا الفقه المالكي والدين الإسلامي من أن يستخدم في تفكيك الأسرة المغربية المسلمة!

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M