مذكرات عبد الرحمن اليوسفي: إدريس البصري حاربنا وتجسس علينا [3/1]
هوية بريس – وكالات
تشكل لحظة تعيين عبد الرحمن اليوسفي من طرف الملك الراحل الحسن الثاني وزيرا أول، تحولاً تاريخياً، نقل أكبر معارض لنظام الملك من صف المعارضة إلى كرسي التدبير الحكومي، في تجربة مغربية فريدة، ولدت من الصراع، وانتهت بعد محاولات سابقة فاشلة إلى تجسيد التناوب على السلطة في ظل النظام الملكي، ودفع المغرب في اتجاه النمو والتقدم.
هنا مقتطفات من مذكرات الوزير الأول السابق، وقائد حكومة التناوب، عبدالرحمن اليوسفي، التي عنونها بـ”أحاديث في ما جرى”، حول مساره النضالي والكفاحي منذ معركة الاستقلال إلى مسارات المطالبة بالديمقراطية وبناء دولة الحق والقانون، ومن كرسي المعارضة إلى سدة الحكم.
إدريس جطو مبعوث الملك
بداية 1998، اتصل بي وزير المالية آنذاك السيد إدريس جطو، وأخبرني أن صاحب الجلالة الحسن الثاني هو الذي كلفه بلقائي، وأنه جاء بعد العرض الذي قدمه السيد جطو لجلالته حل الأوضاع الاقتصادية الراهنة للمغرب وآفاق المستقبل التي تنتظر بلادنا، وأمره جلالته أن يعرض عليه نفس العرض لنناقشه معا. ولقد دام ذلك اللقاء حوالي أربع ساعات استمعت فيها إلى عرض السيد الوزير الذي ملخصه، أنه بالرغم من الصعوبات الاقتصادية، فإن المغرب يمكنه الخروج بسلام إذا اتخذ العديد من الإجراءات الضرورية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي.
كما أخبرني السيد جطو أن صاحب الجلالة، اضطر لإلغاء مسلسل التناوب الذي أطلق سنة 1994، لإيمانه بأن التناوب الحقيقي لا يمكن أن يكون إلا مع من كانوا في المعارضة طيلة العقود الماضية، وبالضبط مع شخص عبد الرحمن اليوسفي.
التعيين الملكي وتمرين تشكيل الحكومة
استقبلني المرحوم الحسن الثاني في القصر الملكي بالرباط، يوم الأربعاء 4 فبراير 1998، ليعينني وزيرا أول. وأكد لي قائلا: “إنني أقدر فيك كفاءتك وإخلاصك، وأعرف جيدا، منذ الاستقلال أنك لا تركض وراء المناصب بل تنفر منها باستمرار. ولكننا مقبلون جميعا على مرحلة تتطلب بذل الكثير من الجهد والعطاء من أجل الدفع ببلادنا إلى الأمام، حتى نكون مستعدين لولوج القرن الواحد والعشرين.
وأنا على استعداد أن أضمن لك الأغلبية لمدة أربع سنوات، ولك أن تختار فريقك الحكومي كما تشاء. غير أنه ونظرا لأن مجلس الأمن اتخذ قرارا بإجراء استفتاء في الصحراء قبل نهاية هذه السنة (أي 1998)، فإننا في هذه الحالة سنكون في حاجة لخبرة وزير الداخلية الحالي إدريس البصري، الذي أشرف على إدارة ملف أقاليمنا الجنوبية منذ خمس عشرة سنة، كما سأطلب من رئيس الحكومة الحالي السيد الفيلالي أن يتولى وزارة الشؤون الخارجية التي أشرف عليها منذ سنوات لنفس الأسباب، أما باقي الوزراء فأنا أنتظر اقتراحاتك”.
رحبت ببقاء الوزيرين المذكورين. ولم يثر معي، جلالته، مطلقا، ما اصطلح عليه بوزراء السيادة، فاستقر رأيي، على اقتراح استمرار السيدين عمر عزيمان وزيرا للعدل والمرحوم العلوي المدغري وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية.
شكرت صاحب الجلالة على هذه الثقة وأكدت له استعدادي لتحمل هذه المسؤولية، وأن مناصب الوزارة لا تهمنا في حد ذاتها، بل الأساس هو مصلحة الوحدة الوطنية ومصلحة الشعب المغربي، ووضع بلادنا على سكة التقدم، وشكرته على استعداده لضمان الأغلبية للحكومة المقبلة لمدة أربع سنوات.
غير أنني أكدت، أن لدينا التزاماً مع أعضاء الكتلة الديمقراطية، مع الأخذ بعين الاعتبار تشكيل أغلبية داخل مجلس النواب من الأحزاب التي صوتت لعبد الأحد الراضي رئيسا لهذا المجلس، وعلينا الاستمرار في هذا التمرين الديمقراطي الذي أفرز أغلبية ومعارضة داخل مجلس النواب. وأكدت لجلالته أننا سنكون خلفه من أجل إخراج بلادنا إلى ما نتمناه جميعا لتلبية طموحات الشعب المغربي.
طلب مني صاحب الجلالة أن آخذ الوقت الكافي لتشكيل الحكومة وعبّر لي عن استعداده للقاء معي كلما دعت الضرورة إلى ذلك. وقبل وداعه ونحن واقفان في مكتبه، اقترح علي جلالته أن نلتزم معا أمام القرآن الكريم الموجود على مكتبه ، “على أن نعمل معا لمصلحة البلاد وأن نقدم الدعم لبعضنا بعضاً”، وتلا هذه العبارات ورددتها بعده، وكان هذا القسم بمثابة عهد التزمنا به لخدمة البلاد والعباد، بكل تفان وإخلاص. كان قسما فعليا، شأن التعاضد سويا لفائدة حاضر ومستقبل المغرب. أما القسم الرسمي بروتوكوليا كما تقتضيه تقاليد التنصيب الرسمي، فقد أديته يوم التنصيب مع الوزراء الجدد.
عند خروجي من مكتب الملك، التقيت في بهو القصر السيد إدريس جطو الذي كان آنذاك وزيرا للمالية، وكان أول المهنئين.
والحق، وأنا أمام ضميري، أصبحت مرتاحا عندما انتهت الاتصالات التي تلت تكليفي برئاسة حكمة التناوب، يوم 4 فبراير 1998. ولم يكن مصدر هذا الارتياح عدد المقاعد الذي حصلنا عليها، مع حلفائنا في الكتلة الديمقراطية، رغم أنها تعبر عن حقيقة الخريطة السياسية في المغرب، بل لقد كان ما لمسته في جلالته من عزم أكيد على إنجاح تجربة التناوب، كان هذا هو مصدر الارتياح.
فلقد حباني بالضمانات السياسية والأخلاقية التي من شأنها أن تعطل المعول السلبي، لما اتسمت به الانتخابات ونتائجها ومما اشتكى منه الجميع، وأكثر من ذلك لمست فيه ما يبعث الثقة والاطمئنان في النفس، أن هناك قرارا حقيقيا من جلالته بالدخول في عملية إصلاح شاملة، تتدارك ما فات وتؤسس لما هو آت.
وإن الواجب يفرض علي اليوم، أن أؤكد أنه كان قد قرر بصفة لا رجعة فيها تدشين عهد جديد، بإعطاء “التناوب” مضمونا مؤسساتيا، وتجاوبا من جلالته مع رغبة الرأي العام الوطني في رؤية بوادر التغيير بشكل ملموس.
لن أتردد قط في الإشادة بالتصور الجديد الذي أعطاه جلالته لبنية حكومة التناوب، والذي ارتفع بمنصب الوزير الأول إلى طموح مستوى المؤسسة التي تعمل جنبا إلى جنب مع جلالته في إطار مسؤولياتها الخاصة والتي تجعل من الحكومة ككل، سلطة تنفيذية تشكل مع البرلمان والقضاء، قوام دستورية الحكم في بلادنا.
كانت فلسفة جلالته في هذا المجال تقوم على خلق سوابق وتقاليد جديدة، تتراكم، لتصبح بالتدريج عنصراً في بنية الدولة ككل.
لقد كانت ثقة كبيرة وواعدة من ملك قرر أن يجعل من شعار “التناوب” لا مجرد تناوب أشخاص أو أحزاب، بل بداية مسيرة جديدة خصها جلالته بقسم خاص، قسم يوم 4 فبراير 1998، مسيرة إقرار وضعية مكان أخرى، وضعية ديمقراطية تعتمد على برامج التنمية الشاملة بوتائر سريعة متوازنة.
هكذا، فالتناوب كما فهمناه وقبلنا تحمل المسؤولية الحكومية في إطاره ومن أجل إنجازه، هو التناوب بين وضعيتين، وضعية الأربعين سنة السابقة له، ووضعية بديلة يتم بناؤها بدعم من الملك ودعم من الشعب ومساندة برلمانية كافية، ووضعية دولة الحق والقانون والمؤسسات، في إطار ملكية دستورية ديمقراطية واجتماعية مبنية على أساس التوازن في الحكم والقرار.
لتشكيل الحكومة، كان علي أن أنتظر ما سيسفر عليه مؤتمر حزب الاستقلال الذي سبق أن عقد مؤتمرا استثنائيا بعد الإعلان على نتائج الانتخابات التشريعية التي وضعته في الصف الخامس، حيث حصل على 32 نائبا برلمانيا في الوقت التي احتل فيها المراتب الأولى في الانتخابات المحلية، البلدية والقروية، واعتبر حزب الاستقلال أنه كان ضحية للتزوير واتخذ في هذا المؤتمر الاستثنائي، قرارا بعدم المشاركة في جميع المؤسسات التي ستسفر عنها هذه الانتخابات.
وكان يلزمني فتح الحوار مع قيادته الذي توج بتمكيني من أخذ الكلمة في مؤتمره العادي لتجديد هياكله وانتخاب أمين عام جديد والمشاركة في الحكومة في إطار مراجعة موقفه السابق، وكان ذلك حدثا سياسيا هاما.
كان علي أيضا فتح مفاوضات مع الأحزاب التي برزت كأغلبية في انتخاب عبد الأحد الراضي رئيسا للبرلمان، الذي رشحته فرق الكتلة الديمقراطية كمرشح مشترك لينافس مرشح الأغلبية السابقة السيد امحند العنصر.
أسفرت نتائج التصويت على فوز عبد الواحد الراضي كمرشح الكتلة الديمقراطية بـ 182 صوتا، إذ بالإضافة إلى أصوات نواب الكتلة، صوت برلمانيو أحزاب أخرى، وهي التجمع الوطني للأحرار برئاسة أحمد عصمان، والحركة الشعبية الوطنية برئاسة المحجوبي أحرضان.
أثناء فترة الاستشارات الطويلة، اجتمعت مع المرحوم الحسن الثاني حوالي أربع مرات، كنت أنوي في البداية تأسيس حكومة لا يتجاوز أعضاؤها 18 إلى 20 وزيرا، تشتغل على قطاعات كبرى .غير أن تعدد أحزاب الأغلبية، السبعة، وانفتاح شهية الاستوزار لدى الجميع حالت دون ذلك.
تم تنصيب الحكومة الرابعة والعشرين من طرف صاحب الجلالة يوم 14 مارس 1998، وما أزال أذكر الكلمة التي ألقاها يوم تنصيب حكومة التناوب التوافقي، ومن بين ما ورد فيها:
“وإننا بهذه المناسبة نريد أن ننوه باللياقة والجد اللذين تحلى بهما وزيرنا الأول السيد عبد الرحمن اليوسفي في تكوين هذا الطاقم الحكومي. فقد كنا نتابع خلال مذاكرتنا معه مجهوداته لانتقاء أفراد الحكومة. وها نحن اليوم نتجه إلى أفراد الحكومة لنقول لهم: مرحبا بكم أولا، وثانيا عليكم أن تكونوا منسجمين متضامنين، فإذا كان الوزير الأول دستوريا هو المسؤول عن تنسيق أعمالكم وتسيير الإدارة، فمن جهتكم أنتم عليكم أن تساندوه وأن تعلموا أنكم رغم مشاربكم السياسية، تعملون لبلد واحد ولشعب واحد موحد ولمصير واحد كيفما كان مآله، ونرجو من الله أن يكون مآله حسنا طيبا غنيا ثريا سيرجع فضله إليكم إن شاء الله”.
“إننا سنقف دائما معكم وبجانبكم وأؤكد مرة أخرى للسيد الوزير الأول السيد عبد الرحمن اليوسفي ما قلته له في أول لقاء معه .. إنني منطقي مع نفسي، وفي كل الأحوال، ووطني مع نفسي وهو كذلك منطقي ووطني مع نفسه، فليكن، ولتكونوا جميعا وليكن هو بالخصوص، على يقين من أنه سيجد فينا الدعم لخطاه والتأييد لمسعاه، ونرجو لكم من الله – سبحانه وتعالى- التوفيق والسداد والنجاح”.
منذ هذا التاريخ، كنت أجتمع مع جلالته على الأقل مرة في الأسبوع، وفي بعض الحالات كنا نجتمع عدة مرات في الأسبوع، ونلتقي كل أسبوع لتحضير جدول أعمال الاجتماع الحكومي الأسبوعي، كما كنا نعقد اجتماعا خاصا لتدبير جدول اجتماعات المجالس الوزارية. هذا بالإضافة إلى الاجتماعات الطارئة كلما اقتضت الضرورة ذلك، سواء في ما يخص القضايا الوطنية أو الدولية، التي نتبادل خلالها الآراء قبل اتخاذ القرارات الضرورية.
بقاء وزير الداخلية في الحكمة، هذه القضية أسالت مدادا كثيرا، ولكننا أثبتنا أنها رغم أهميتها، ليست الأهم.
لقد لجأنا إلى دبلوماسيتنا ولباقتنا ومرونتنا في هذا المجال، حتى يتم التعبير عن الأشياء بشكل جيد دون أن تكون جارحة، وعلينا أن نتذكر بأن جلالة الملك أراد التغيير واتفق مع برنامجنا الحكومي دون تحفظ، فهؤلاء الوزراء منتدبون من طرف جلالته وعليهم أن يطبقوا تعليماته التي تتطابق تماما مع التصريح الحكومي.
ضمت هذه الحكومة عددا من الوزراء صحافيين، وقد علق أحد الزملاء على هذه الظاهرة: “إننا سعداء جدا لأن العالم العربي بعد حكم الجنرالات جاء دور الصحافيين ليكونوا في الحكم، كما أنهم نشطاء في حقوق الإنسان”.
جيوب المقاومة
بخصوص ما أطلقت عليه “جيوب المقاومة” فإنه من الصعب تصوير هذه الجيوب تصويرا دقيقا. لكن الجميع يدرك أن من تمكن من بناء مصالح أثناء العهود السابقة، أو لا يزال، ويرى في التغيير والتجديد تهديدا لمركزه الاقتصادي أو مركزه السياسي، سيكون منخرطا في بنية هذه الجيوب.
الواضح أن المصالح المتراكمة لا بد أن تجعل نوعا من البشر يستفيد من هذا الإرث، فنحن لا نستغرب أن تلك الجيوب موجودة ولها أثر سياسي، واستغلت وحاولت وضع كل العراقيل ، ولكنها لم تفلح في إفشال تجربة التناوب التوافقي.
فمنذ أن اختار الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نهج النضال الديمقراطي، والمشاركة في جميع الاستحقاقات المحلية والتشريعية، كان إدريس البصري يهيمن على ما أطلق عليه “أم الوزارات”، أي وزارة الداخلية، التي كانت لها اليد الطولى في تزوير الانتخابات وفي صنع الأحزاب الإدارية قبل أي استحقاق لتحتل المراتب الأولى فيه.
كان قدرنا في المعارضة، مقاومة هذا الأسلوب والتصدي له. وبفضل صمود وتضحيات المناضلين، تمكنا من الاستمرار في مواجهة هذا النهج الذي وقف سدا منيعا أمام تقدم المغرب وحال دون بناء إنسان مغربي متحرر من القيد، يسعى للعيش في مغرب ديمقراطي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
عندما اقترح علي المرحوم الملك الحسن الثاني، الاحتفاظ بإدريس البصري وزيراً للداخلية في حكومة التناوب التوافقي لأن مجلس الأمن كان ينوي إجراء الاستفتاء في أقاليمنا الجنوبية، سنة 1998، ولكونه كان ماسكا بهذا الملف لأزيد من 15 سنة، فضلت أن يكون ضمن الطاقم الحكومي، بدل أن يلتحق بالديوان الملكي، ويصبح آنذاك في موقع لن يتردد في استغلاله من أجل وضع عراقيل من شأنها تعقيد طرق الاتصال بجلالة الملك، وبالتالي عرقلة النشاط الحكومي.
كان قراري أن بقاءه داخل التشكيلة الحكومية، يمنحنا فرصا أكثر لمواجهة أي محاولة من شأنها التأثير على البرنامج الحكومي. وهذا ما حصل فعلا، بحيث لم يعد يقوم بنفس الدور الأساسي والرئيسي الذي كان يعتقد أنه الوحيد القادر على إنجازه.
لم يعد سرا أنه في الحكومات السابقة، لم يكن الوزير الأول يتجرأ على افتتاح أشغال أي مجلس حكومي إلا بعد حضور وزير الدولة في الداخلية، وكان يسري نفس الأمر في المجالس الأخرى، كالمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان الذي كان عضوا فيه، كانوا ينتظرونه، بالساعات إلى حين وصوله لافتتاح أشغال الجلسة.
ورغم التعليمات التي أصدِرت إليه من طرف جلالة الملك الحسن الثاني رحمه الله، بعد تعييني وزيرا أول، بواجب الدعم من أجل إنجاح هذه التجربة، إلا أنه وكما يقال، الطبع يغلب التطبع.
التجسس على الاستشارات وقضايا أخرى
عندما بَدَأتُ الاستشارات الأولى لتكوين حكومة التناوب التوافقي وفَّر لي الإخوان في الحزب شقة في حي أكدال بالرباط، لعقد اللقاءات الأولى المتعلقة بالمشاورات. بعد ذلك بمدة، سرعان ما سنكتشف، أنه تم زرع أجهزة للتجسس وأخرى لتسجيل محتوى هذه المشاورات داخل الشقة، وبالنتيجة تم التخلي عنها واللجوء إلى أماكن أخرى متعددة لنفس الغرض.
كانت المعركة حول الإعلام من أشرس المعارك التي تمت فيها المواجهة مع البصري، وقد عانى المرحوم الأستاذ محمد العربي المساري من جراء ذلك، لدرجة أنه قدم لي استقالته مرتين، وقد تراجع عنهما بعد النقاش معه، وقد حاولت حثه على الاستمرار في موجهة جيوب المقاومة، لأننا لم نأت من أجل المناصب، بل جئنا من أجل الإصلاح، وهو أمر جد صعب ومساره وعر ويتطلب جهدا وصبرا لا ينضبان.
وبأن هذه المعارك عشناها من موقع المعارضة، أما الآن، ونحن في موقع المسؤولية، فإنه من المفروض علينا أن نضاعف الجهد وألا نستسلم. وبعد أخذ وردّ، استطعنا في الأخير في المجال السمعي البصري أن نضع حدا لاحتكار الدولة لهذا القطاع منذ 1924 وقد تحقق تحريره بعدما صدر ظهير تشكيل الهيئة العليا ومختلف المشاريع والقوانين التي تلت تدبير الإذاعة والتلفزة من خلال عدة أوراش. ليتم تحرير الإعلام من هيمنة ما كان يطلق عليه “أم الوزارات”.
بعد أن أصدرت الحكومة قانون الصفقات العمومية، الذي يفسح المجال أمام جميع المقاولات الوطنية والأجنبية للتنافس على المشاريع المعروضة، تصدت له جيوب المقاومة، لأن الصفقات العمومية كانت توزع على البعض دون الآخر.
هكذا عندما قررنا فتح باب المنافسة في ما يخص خصخصة الخط الثاني للهاتف النقال أمام جميع الشركات، أبدى إدريس البصري اعتراضه على فتح العرض أمام كل الشركات، متخوفا من خطورة نجاح إحدى الشركات التي تنتمي لإحدى الدول المتخلفة تكنولوجيا، في الحصول على العرض، وهو الأمر الذي قد تكون لديه عواقب سلبية على الاقتصاد الوطني. ويرى أنه من الأفضل في هذه الحالة، اللجوء إلى الشركات المعروفة عالميا والتي لها الريادة في هذا المجال والتعاقد معها مباشرة بدون فتح مناقصة أمام الجميع.
وأتذكر أن المرحوم الحسن الثاني، في إحدى اجتماعاتنا الأسبوعية، أثار انتباهي إلى مخاطر فتح المناقصة أمام الجميع، ولكنني طمأنته بأن دفتر التحملات تضمن كل الشروط الضرورية التي تُلْزِم كل المتنافسين، وبأن الهدف من هذه العملية هو تطبيق قانون الصفقات العمومية، وفتح التنافس أمام الجميع بكل شفافية، مما سيضع حداً للأساليب السابقة التي تدفع الشركات الراغبة في الاستثمار في بلادنا، إلى البحث عن الوسطاء والسقوط في المماطلات الإدارية وغيرها من العراقيل التي لا تشجع الرأسمال الأجنبي على المجيء إلى المغرب.
وهذا ما حدث بالضبط، حيث تمت المنافسة حول هذا العرض بكل شفافية، وجلبت هذه العملية مليارا ومائة مليون دولار للمغرب، وأعطت مزيدا من المصداقية وحفزت العديد من المستثمرين على الاستثمار في بلادنا.
بل إنه بفضل هذه الصفقة، تم تأسيس صندوق الحسن الثاني، الذي تدارس معي بشأنه المرحوم الملك الحسن الثاني، عندما زارني في مستشفى ابن سينا صيف 1999، كما خص خطاب عيد الشباب 9 يوليو 1999 لهذه الصفقة، وخُصص مبلغ 700 مليون دولار كله لميزانية الاستثمار والدعم الاجتماعي.
عرقلة مؤتمر منظمة العفو
دأبت منظمة العفو الدولية على إصدار تقارير سنوية، عن حال الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المغرب، وكانت تشن في كل المحافل الدولية حملة ضدنا، على غرار باقي الدول في العالم التي لا تحترم حقوق الإنسان، كما هي متعارف عليها دوليا. وقبل مجيء حكومة التناوب، تم تفعيل العديد من القرارات التي سبق أن اتخذت في السنوات السابقة منذ التسعينيات، وكان أهمها إطلاق سراح المختطفين وصدور العفو العام، وانخراط المغرب في التوقيع على العديد من الصكوك والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
في ظل هذه الظروف، حاولنا إقناع هذه المنظمة الدولية بتنظيم مؤتمرها السنوي في المغرب ، وجاء رئيسها آنذاك السيد “بيير ساني” Pierre Sane، الذي قاد هذه المنظمة من سنة 1992 إلى غاية 2001، إلى الرباط من أجل التحضير لهذا الحدث، الذي له رمزية ، باعتبار أنه عندما تعقد هذه المنظمة مؤتمرها في دولة ما، فهو بمثابة شهادة دولية أن هذا البلد وضع قطار حقوق الإنسان على السكة الصحيحة.
في تلك الأثناء قام وزير الداخلية بتقديم تسجيل صوتي للملك الحسن الثاني، لحوار شخصي بين السيد “ساني” رئيس المنظمة مع أحد مناضلي اليسار المغربي، بحيث تم استدراجه في حوار ليتورط السيد “ساني” بالتلفظ بكلمات تمس مقدسات هذا الوطن. وكان هذا التسجيل كافيا لتأخير عقد مؤتمر منظمة العفو الدولية في المغرب آنذاك.
التشويش على عودة السرفاتي
سرب حوار مترجم كان قد أجراه السرفاتي مع جريدة إسبانية مغمورة، إلى يومية “النهار” اللبنانية ، شهرين فقط بعد تسلمي قيادة حكومة التناوب. حرص أن يقدم نسخة منه إلى جلالة الملك المرحوم الحسن الثاني بعد عودته من قمة عربية بمصر، وأظنها قمة شرم الشيخ، إدريس البصري، فكان رد فعل جلالته عنيفا.
لقد عمل الراحل البصري دوما على عرقلة أي مبادرة لإيجاد حل نهائي لملفات حقوق الإنسان في المغرب. ومما قاله السرفاتي في ذلك الحوار، إطلاقه تعبيرا استعاره من أحد كتاب الأروغاي، يصف فيه المغرب بـ “الديموكتاتورية”. ولقد استغل ذلك الحوار بطريقة مغرضة. بينما، الحقيقة أنه في أغلب مواقفه ظل متشبثا بمبادئه، مهما تطورت مواقفه السياسية خاصة في ما يتعلق بالقضية الوطنية.
كنت حريصا من جهتي على إنهاء ملف حقوق الإنسان وضمنه ملف المنفيين، لما فيه مصلحة صورة بلدنا ومصداقيتها في مختلف جهات العالم، وبالعلاقة من المؤسسات الدولية المؤثرة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي الدولي.
وفي بداية العهد الجديد لمحمد السادس في شهر سبتمبر 1999، عاد إبراهام السرفاتي إلى وطنه، بعيدا عن أعين البصري الذي كان لا يزال وزيرا للداخلية، ولكنه تلقى الخبر كباقي المغاربة عبر وسائل الإعلام ساعة قبل نزول الطائرة بمطار الرباط، وعلى متنها إبراهام السرفاتي وزوجته.
………….
كادر
الإصرار على الاجتماع مع الولاة والعمال
كانت هناك أيضا معركة الاجتماع مع الولاة والعمال مع الوزير الأول وهو أمر يحدث لأول مرة، حيث أبدى إدريس البصري مقاومة شرسة، للحيلولة دون اجتماعي مع أطر القطاع الذي يترأسه السيد وزير الداخلية.
لكن، وبعد إصرار مني، كوني رئيس الإدارة المغربية، مما يُخولُ لي الحق في الاجتماع مع من أشاء من أطر الدولة المغربية، وبالأخص، تلك التي لها احتكاك مباشر مع الساكنة في مختلف أرجاء البلاد، ولكونها لا تمثل فقط وزارة الداخلية بل تمثل كل القطاعات الحكمية بدون استثناء.
الاتفاق مع الملك في المشفى على صندوق الحسن الثاني
كنت أشعر في كل لحظة بحرص صاحب الجلالة على تتبعه لحالتي الصحية. وكانت ثقتي عادة كبيرة في الأطباء ومهنيتهم، إلا أني شعرت أن الأطباء الذين سهروا على علاجي كانا يبذلون جهودا مضاعفة، إن لم أقل استثنائية، أولا بحكم ضميرهم المهني، ثم بحكم شعورهم بمراقبة وتتبع صاحب الجلالة لوضعيتي.
وقد أكد لي الطبيب المسؤول آنذاك، أن صاحب الجلالة، ومنذ أن علم بالأزمة الصحية التي ألمت بي، قام بالاتصال به هاتفيا، 12 مرة، طيلة ليلة دخولي إلى المستشفى.
قام جلالة الملك بزيارتي إلى المستشفى بشكل عادي، وصعد إلى الطابق الخامس حيث كنت أعالج، وقد تركت تلك الزيارة أثرا عميقا في نفسي. فقد أبى رحمه الله إلا أن يوثقها للتاريخ، حيث اصطحب معه مصوره الشخصي، حتى يعرف المغاربة أنه قام بزيارتي. لقد أرادها أن تكون علانية. وبعد ذلك، قام بزيارة مرافق المستشفى، واطلع عن قرب على سير الأمور به، ودخل إلى الجناح الذي سينقل إليه في ما بعد، واطلع على كل شيء به. وفي ذلك اليوم كان المرضى والأطباء والممرضون والمساعدون يشعرون بسعادة كبرى بهذه الزيارة المفاجئة.
وخلال تلك الزيارة، بعد أن اطمأن على وضعيتي الصحية، تحدث معي عن حالته الصحية، وقدمت له زوجتي التي كانت تلازمني وقتها، وعبر لها عن أسفه لكونه يتعرف عليها في تلك الظروف، حيث كان يتمنى التعرف عليها في ظروف أحسن.
وكان كعادته في غاية اللطف واللياقة. وبعد ذلك بدأ يتحدث في قضايا الدولة وأخبرني بالمكسب الكبير الذي حصل عليه المغرب بسبب سياسة الشفافية التي اتبعناها، في ما يخص المناقصة المتعلقة بالرخصة الثانية للهاتف، وكان سعيدا أيضا وفخورا بهذا المكسب، وزودني بتوجيهاته والطريقة التي يجب أن يستثمر بها هذا المكسب الذي سيساعدنا على مواجهة التحديات التي أمامنا.
(المصدر: موقع “العربي الجديد”).