مذكرات عبد الرحمن اليوسفي: الموساد وراء اغتيال بن بركة [3/3]
هوية بريس – وكالات
في الجزء الثالث والأخير من عرض مذكرات الزعيم المغربي عبدالرحمن اليوسفي، والتي عنونها بـ”أحاديث في ما جرى”، يتوقف القارئ عند ثلاث “لوعات” حفرت عميقا في مسار هذا المناضل المغربي في أزمنة “سنوات الرصاص”.
أولى اللوعات التي ظلت جرحاً غائراً في حياته وحياة كل المطالبين بالحرية والعدالة والديمقراطية، هو اختطاف القائد المغربي، المهدي بن بركة، في باريس، وتصفيته على يد شركاء من الاستخبارات المغربية والموساد ومتعاونين من المخابرات الفرنسية. كان كل هؤلاء يرغب في إقبار صوت هذا المناضل الأممي، كل حسب مصلحته.
ينشط عبدالرحمن اليوسفي ذاكرته، هو الذي كان مكلفا بملف المهدي بن بركة ومتابعته أمام العدالة الفرنسية، ويسرد وقائع تكاد تشكل حقائق، في انتظار رفع السرية عن كل وقائع هذا الملف من قبل العدالة الفرنسية.
اللوعة الثانية، هو كشفه عن جوانب من حياته الخاصة، وبالضبط حديثه عن ملابسات لقائه بزوجته اليونانية، هيلين، في الدار البيضاء، والأثر الكبير الذي سيكون لهذه المرأة على حياته، في المغرب وفي باريس.
ومن قسوة الأحداث التي عاناها اليوسفي، أنه سيضطر إلى تأخير الارتباط بهذه السيدة، لأكثر من 18 سنة، سيوثق زواجه أخيرا في باريس بواسطة محامية المناضل الجزائري أحمد بن بلة. وهو مدين لهذه المرأة الفاضلة بالكثير، بعد أمه، التي انتظرت طويلا عودته من المنفى، قبل أن يتحقق ذلك.
واللوعة الثالثة، تأخر الانتقال الديمقراطي في المغرب، لأسباب كثيرة، منها ما هو ذاتي يتصل بأعطاب النخبة السياسية المغربية نفسها، ومنها ما يرتبط بإرادة الحاكمين، ومنها ما هو رهين لإدارة متأخرة، لم تستطع أن تحسم أمرها في مغرب جديد، يتحول بسرعة كبيرة، وعملت بكل قوة على تعطيل مسار الانتقال الديمقراطي، وهي التي سماها اليوسفي بـ”جيوب مقاومة التغيير”.
لعل الرابط بين هذه اللوعات الثلاث، هو الانتظار، ففي ملف بن بركة، ما يزال الشهيد ينتظر كشف الحقيقة، وكذلك رفاقه، وفي حياة اليوسفي الخاصة، انتظر طويلا حتى يحقق ارتباطه بزوجته هيلين بسبب إكراهات المنفى ورهانات السياسة، وفي مسألة الانتقال الديمقراطي، لم ييأس الرجل، وكانت تجربة بداية 1992 الفاشلة والمريعة، دافعا لعدم اليأس، إلى أن تحقق حلم الطبقة السياسية الديمقراطية، بالوصول إلى السلطة في 1998. يحكي اليوسفي بمرح، أن والد زوجته كان يقول له دائما “لو كنت مكان الحسن الثاني، لعينتك وزيرا أول وارتحت منك”. هذه النبوءة ستتحقق، قبل ستة أشهر من رحيل أب زوجته، حيث سيستدعى اليوسفي من قبل الحسن الثاني ليكون وزيرا أول. لقد تحققت النبوءة اليونانية.
عن ملف بن بركة.. تفاصيل جديدة
كان اختفاء المهدي بن بركة خسارة كبرى بالنسبة للحركة الوطنية المغربية ،وحركة التحرر العالمي بصفة عامة ،وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بصفة خاصة نظرا لمكانة المهدي ودوره المؤثر على مستوى التوجيه والتنظيم والعلاقات الخارجية.
كنا نمني النفس داخل قيادة الاتحاد ،بأمل عودة المهدي وظهوره ،رغم مضي أسابيع على اختطافه، ،ولكن هذا الأمل بدأ يتناقص مع مرور الأيام والأسابيع ثم الأشهر .فأصبح همنا هو معرفة حقيقة ما جرى والاهتمام بعائلة المهدي الصغيرة :أمه التي كانت لا تزال على قيد الحياة ،والتي أرسلت رسالة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية الجنرال دوغول مطالبة بالكشف عن مصير ابنها .ثم زوجته وأبناؤه الصغار الموجودون في القاهرة في ضيافة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، الذي لم يقصر في الاهتمام بأسرة المهدي الذي كانت تربطها معه أواصر الصداقة والنضال.
فيما قامت عائلته وأخوه عبد القادر بن بركة، بتقديم شكاية ضد مجهول لدى المحكمة بباريس، وتولى قاضي التحقيق المكلف بالملف، الاستماع إلى المتهمين الموجودين على التراب الفرنسي ،والعديد من الشهود ،كما أدلت شخصيات سياسية ونقابية ومفكرين وصحافيين بشهاداتهم في حق المهدي بن بركة.
الجنرال دوغول يتهم أوفقير
قبل أن تعقد محكمة الجنايات بباريس جلستها الأولى ،عقد الجنرال دوغول رئيس الجمهورية الفرنسية، ندوة صحافية نهاية شهر فبراير 1966، أكد فيها على تورط وزير الداخلية المغربي الجنرال محمد أوفقير في عملية اختطاف المهدي بن بركة، وعدم تعاون السلطات المغربية لمساعدة القضاء الفرنسي.
يوم 5سبتمبر ،1966بدأت الجلسة الأولى للمحكمة الجنائية بباريس للنظر في الشكاية التي قدمها الطرف المديني ،المتمثل في عائلة بن بركة ،ومنذ اليوم الأول للمحاكمة، بدأت العديد من الحقائق تظهر من خلال الاستماع للشهود، ومحاضر الاستنطاق التي أجرتها الشرطة القضائية.
أكدت السيدة الألمانية “مارطا شينو” ،Marta Chenoالتي كانت تعمل كخادمة عند “بوشيس” الذي أخفى بن بركة في منزله الكائن بـ”فونتني لو فيكونت” ،أن مشغلها طلب منها أن تغادر المنزل يوم 29أكتوبر ،1965عند الساعة الثانية عشرة بعد الزوال ،عوض المساء كما جرت العادة.
كما أثبت محضر الدرك الذي استمع إلى المسؤول عن الطرق في المنطقة نفسها ،أن سيارة تابعة للشرطة الفرنسية جاءت يوم 29أكتوبر 1965إلى المنزل الذي يقطنه “بوشيس” عند الساعة الواحدة بعد الزوال ،والأغلب أن تلك السيارة هي التي نقلت بن بركة من أمام مقهى “ليب” في باريس في الساعة الثانية عشرة والربع من اليوم نفسه .كما أكد الصحافي “بريين” أمام المحكمة ،التصريحات التي أدلى بها أمام الضابطة القضائية ،حيث سلم نفسه للشرطة بعد أن شاع تورطه في عملية الاختطاف، وأكد أمام المحكمة أن المدعو الشتوكي اتصل به في شهر إبريل ،1965مبعوثا من طرف الجنرال أوفقير وعرض عليه مبلغا ماليا مغريا من أجل تسهيل التقرب من المهدي بن بركة ،كما أنه استدعي للقاء الجنرال أوفقير الذي عقد اجتماعا مع بعض الفرنسيين في فندق “كريون” CRILLON للغرض نفسه.
كما أكد العميل “لوبيز” ،LOPEZأمام المحكمة أنه زار المغرب في شهر مايو ،1965وبعد عودته أخبر المسؤول عنه في جهاز المخابرات الفرنسية “لوروا فانتفيل” ،أنه التقى الجنرال أوفقير أثناء زيارته الأخيرة للمغرب، وأخبره أوفقير بأنه عازم على أن يضع حدا لمعارضة المهدي بن بركة بكل الطرق الممكنة. كما أكد أيضا أنه أخبر مسؤوليه في شهر شتنبر،1965 بأن أوفقير كلف فريقا يتكون من الشتوكي و”برنيي” و”فيغون” بإغراء بن بركة بإنجاز فيلم سينمائي حول حركات التحررالعالمية، وأنه سيوفر لهم مقاطع حية من أحداث 23مارس 1965 وانتقل فعلا هذا الفريق في شهر شتنبر إلى القاهرة لمقابلة بن بركة ،كما انتقل أيضا للغرض نفسه في رحلة ثانية إلى جنيف.
أكد “لوبيز” أيضا أن الشتوكي طلب منه يوم 29أكتوبر 1965مباشرة بعد اختطاف بن بركة ،أن يتصل هاتفيا ،ما بين الساعة الرابعة والخامسة بالعشعاشي ،رئيس ديوان أحمد الدليمي مدير الأمن الوطني ،ويترك له الرسالة التالية: “لقد وصل ضيفكم وينتظر زيارتكم”.
كان من ضمن الشهود الكثر الذين استمعت المحكمة إليهم ،رشيد سكيرج، الذي كان من الأطر الأوائل الذين تدربوا في بريطانيا ،ومن قادة الاستخبارات المغربية ،حيث أكد أن التعليمات التي كانوا يتلقونها من طرف إدارة الأمن الوطني تصب في متابعة كل تحركات المهدي بن بركة سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي.
وقد أكدت واقعتان هذه التعليمات ،حين كان المهدي بن بركة في الشقة التي كان يسكنها بمدينة جنيف ،طرقت فرقة من الشرطة السويسرية بابه وطلبت منه أن يغلق باب نافذته ،لأنها ضبطت شخصا مغربيا ،التجأ إلى العمارة المقابلة لنافذته وهو يحمل بندقية ذات منظار.
فيما أكد السيد حماد جواهري ،الذي كان أحد مسؤولي الحزب بفرنسا، في شهادته ،أنه عندما كان في منزل المهدي بن بركة بالقاهرة ذات مساء ،سمعا ضجيجا بباب البيت ،وعند الاستفسار عن سبب هذا الضجيج ،أخبرتهم الشرطة المصرية بأنها ألقت القبض على مغربي حاول اقتحام منزل بن بركة.
من ضمن الشهود أيضا الرئيس الحالي لجمهورية كوبا “راؤول كاسترو” ،الذي كان قد أرسله شقيقه الزعيم الكوبي “فيديل كاسترو” ،ليدلي بشهادته نيابة عنه حول الدور الذي كان يقوم به المهدي بن بركة في توحيد مصير شعوب القارات الثلاث، أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
استغرقت تلك المحاكمة حوالي شهر ونصف الشهر ،قبل أن تتوقف فجأة يوم 19أكتوبر 1966، عندما سلم الكومندار أحمد الدليمي، المدير العام للأمن الوطني، نفسه للسلطات الفرنسية .ويبدو أن هذا التسليم يعود إلى محاولة تفادي صدور أحكام قاسية ضد مسؤولين مغاربة ،لأنه اتضح من خلال مدة الشهر ونصف الشهر التي استغرقها الشطر الأول من المحاكمة ،أن كل الوثائق الرسمية للأجهزة التابعة للدولة الفرنسية تؤكد تورط كل من الجنرال أوفقير، وزير الداخلية، ومساعده العربي الشتوكي ،أي ميلود التونزي.
استأنفت المحكمة عقد جلساتها يوم 17إبريل ،1967والتحق أحمد مجيد بن جلون كمحام عن أحمد الدليمي ،وهو الذي اتهم قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وطالب كممثل للنيابة العامة التي كان يزاولها سنة ،1964بإصدار حكم بالإعدام في حق 12متابعا، وفي الأخير أصدرت محكمة الجنايات 11 حكما بالإعدام ،ضد الفقيه البصري وعمر بن جلون ومومن الديوري وآخرين، والذين تمتعوا بعفو ملكي في صيف ،1965كما تم تعيبن أحمد مجيد جلون وزيرا للأنباء يوم 8يونيو 1965.
استمرت المحكمة الجنائية في باريس بالنظر في قضية اختطاف المهدي بن بركة ،لغاية 5 يونيو ،1967حيث أصدرت أحكامها النهائية، وهي كالتالي:
لوبيز 8 LOPEZسنوات سجنا نافذا .”سوشون” ، 6 Souchonسنوات سجنا نافذا.
تبرئة كل من أحمد الدليمي والغالي الماحي، فيما حكمت غيابيا بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة في حق كل من :محمد أوفقير والعربي الشتوكي (ميلود التوزي) و”بوشيس” Boucheischو”باليس” PALICEو”لوين”
LE NYو”دوباي” .DUBAIL
إن شخصية العربي الشتوكي محورية، لأنها كانت وراء كل الاتصالات التي تمت سواء مع القتلة الأربعة الذين كانوا وراء تنفيذ عملية الاختطاف ،والذين تم إدخالهم للاستقرار في المغرب، بعد أن منحهم أوفقير إمكانيات فتح ملاه فاخرة به .وهو من كان وراء استقطاب كل من الصحافيين “برينيي” Bernierو”فيغون” ،Figonوهو الذي كان نسق أيضا مع العميل “لوبيز” المسؤول بمطار أورلي. والكل يعرف أن هذا العربي الشتوكي هو نفسه ميلود التونزي التابع لجهاز الاستخبارات المغربي “كاب .CAP1 “1غير أنه ظل ُينكر ذلك ،رغم أن السلطات الفرنسية تعرفت عليه من خلال المقارنة بين الخط الذي تكتب به بطاقة الدخول أو الخروج عندما يكون حاملا لجواز باسمه الحقيقي ميلود التونزي ،وبين بطاقة الدخول والخروج عندما يستعمل اسمه المستعار العربي الشتوكي ،وكانت نتيجة الخبرة التي أجرتها السلطات الفرنسية تؤكد أن كلتا البطاقتين تعودان للشخص نفسه.
لكن ،رغم ذلك ،ظل ينكر هذه الحقيقة رغم تأكيدها من طرف العناصر الذين اشتغلوا معه في الجهاز نفسه .وأثناء المقابلة التي أجرتها معه هيئة الإنصاف والمصالحة ،أنكر كل الأعمال المنسوبة إليه ،والتي تؤكد كل الدلائل أنه قام بها ،ولكنه في الأخير اعترف بحقيقة واحدة، وكانت كافية ،وهي أنه كان يسافر بجواز سفر يحمل اسم العربي الشتوكي .وكما قيل قديما، حبل الكذب قصير ،أو كما وصف الأخوان مبارك بودرقة وأحمد شوقي بنيوب في كتابهما “كذلك كان” (مذكرات من تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة) ،في عنوان لهذه الواقعة تحت عنوان “غلطة الشاطر”.
اختطاف ومشاركة أطراف دولية
لقد تأكدت أيضا مشاركة أطراف دولية أخرى في ارتكاب هذه الجريمة ،وتأكد عدة مرات من قلب إسرائيل أن عناصر الموساد (الجهاز الأمني الإسرائيلي) ساهمت بشكل أو بآخر في قضية المهدي بن بركة .إذ ،بعد مرور سنة ،وبالضبط في دجنبر، 1966 نشرت إحدى الصحف الإسرائيلية تحقيقا أنجزه الصحافيان “شيمال مور” Shimal Mhrو”مكسيم غيالن” ،Maxim Ghilanأكدا فيه تورط جهاز الاستخبارات الإسرائيلية “الموساد” ،Mossad في اختطاف المهدي بن بركة ،إلى جانب أطراف أخرى .وقد تم تقديم الصحافيين الإسرائيليين إلى المحكمة بتهمة المس بأمن الدولة ،وصدر في حقهما حكم بشهرين سجنا نافذا مع منع الصحيفة من الصدور ابتداء من 19فبراير 1967لغاية 25إبريل .1967 دون إغفال أن العديد من الصحف الدولية قد تناولت تورط مؤسسة الاستخبارات الأميركية CIA في قضية المهدي بن بركة.
لا تزال الدولة الفرنسية متمسكة بسر الدفاع الوطني ،كحجة لعدم رفع السرية عن الوثائق التي تهم هذا الملف ،بالرغم من أنها قامت مرتين بالكشف عن بعضها .واتضح في الواقع ،أنها كشفت فقط عن وثائق غير ذات أهمية، ولا يزال المنع يطاول الوثائق الأساسية التي من شأنها الكشف عن المستور.
أما في المغرب ،فباستثناء التصريح الذي أدلى به جلالة الملك محمد السادس لجريدة “الفيغارو” الفرنسية سنة ،2001حيث صرح بأنه لا يرى مانعا أن يطالب البشير بن بركة بالكشف عن حقيقة مصير أبيه .بينما قدم في السنة نفسها ،2001الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ونحن في حكومة التناوب ،شكاية لدى قاضي التحقيق بالرباط في ما يخص قضية المهدي بن بركة.
وحسب بعض المصادر، فقد حولت هذه الشكاية إلى النيابة العامة لدى محكمة الاستئناف بالرباط ،التي قررت عدم قبول الشكاية لسببين :الأول، أن مقدم الشكاية ،الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ،لم يلحقه أي ضرر مباشر في هذه القضية، وبالتالي ليست لديه أية صفة للجوء إلى القضاء .والثاني، أن الدعوى قد لحقها التقادم، وبالتالي تقادمت.
وعندما طرح أحد نواب الفريق الاشتراكي بالبرلمان سؤالا شفهيا على وزير العدل بعد ذلك، حول قضية المهدي بن بركة كان جواب وزير العدل على عهد حكومة السيد إدريس جطو، أن ملف هذه القضية قد اختفى .ويبدو أن الاختفاء الذي تعرض له المهدي بن بركة، قد طاول ملفه أيضا.
بعد انتهاء محاكمة قضية اختطاف المهدي بن بركة في باريس في يونيو ،1967نصحتني قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بألا أعود إلى المغرب، نظرًا للدور الذي لعبته في التنسيق بين أطراف الدفاع المدني كما كنت الشاهد الأساسي، ومنسقا مع وسائل الإعلام الدولية التي غطت كل مراحل المحاكمة.
الإشارات التي شجعت على وضع حد للمنفى
في نهاية السبعينيات من القرن الماضي ،وفي إطار المنظمة الأفرو آسيوية التي كان مقرها بالقاهرة ،كنت مدعوا لحضور اجتماع سينعقد مدينة موسكو، عاصمة الاتحاد السوفييتي آنذاك.
الطائرة الروسية انطلقت من باريس باتجاه موسكو مع توقف بمدينة الدار البيضاء. وأثناء هذا التوقف، طلب من جميع الركاب النزول من الطائرة إلى أن يحين موعد الإقلاع.
وبالفعل نزل جميع الركاب ،غير أن ربان الطائرة أصر على عدم نزولي والبقاء في الطائرة ريثما يعود الجميع لاستئناف الرحلة.
وفي صيف 1980نشرت جريدة “لومتان” خبرا عن صدور عفو على مجموعة من المعارضين المنفيين في الخارج، وأصدرت الجريدة لائحة بهؤلاء، منهم بنسعيد أيت إيدر وعبد الفتاح سباطة ومحمد بن يحيى ومحمد الباهي وآيت قدور ومحمد الخصاصي وبودرقة، وكان اسمي ضمن هؤلاء.
هذا بالإضافة إلى الدور الذي لعبه عبد الرحيم بوعبيد ،في إِلحاحه وتشجيعه على إنهاء فترة الاغتراب الاضطراري.
قصة الزواج من “هيلين”
تعرفت على زوجتي “هيلين” HELENEبالصدفة بمدينة الدار البيضاء سنة، 1947 وكانت المناسبة انتهاء السنة الدراسية بنجاح، فقررنا أن نقدم في الحفل المنظم عرضا مسرحيا، كان نصيبي فيه دور النادل .Barman
وقرر المخرج أن أرتدي بذلة بيضاء للقيام بهذا الدور ،وبما أني لا أتوفر عليها ،كان علي التوجه عند الخياط لتحضيرها ،وقد أرشدني أحدهم إلى خياط كان قد حل حديثا بالمدينة قادما إليها من فرنسا، وفتح محله بالشارع الذي يحمل حاليا اسم الأمير مولاي عبد الله.
ولم يكن هذا الخياط المقصود غير والد “هيلين” والذي تعرفت عليه هو الآخر واسمه السيد “باندليس كيسيسوكلو” .PANDALIS KESSISSOGLOU
بعد فترة ،جمعتنا صدفة ثانية ،حين دعاني الحاج أحمد بناني، تاجر الأثواب بالجملة بالدار البيضاء، لتناول العشاء معه، وفوجئت عندما وجدت هناك “هيلين” وعائلتها، وكانت مناسبة للتعرف عليهم، حيث علمت أنها عائلة من أصل يوناني معروفة، تحمل اسم “كيسيسوكلو”، كان جدها يتاجر بالبواخر بين تركيا وروسيا لعقود، وكانوا يقيمون بمدينة “إنوبلوس” على البحر الأسود .وبعد الحرب العالمية الأولى احتل الأتراك تلك المنطقة، فخيروا جميع اليونانيين الأرثوذكس بين التخلي عن ديانتهم للحفاظ على ثرواتهم أو الرحيل خارج المنطقة.
اختارت عائلتها الرحيل ،ليتوجه أفرادها مباشرة إلى مدينة “ليون” الفرنسية .كان والد هيلين لا يزال أعزبا ،وتعرف على أمها “كريستني كراملمبوس. CHRISTINE
،CARAMLAMBOsليتم الزواج بمدينة ليون، حيث رأت النور زوجتي “هيلين” ،وأختها “أنييت” وأخويها “ألن” ALAIN و”جون” .JEAN
بعد الحرب العاملية الثانية ،شجع أحد الأصدقاء عائلة هيلين ،والذي كان يعمل طبيبا للعيون بمدينة الدار البيضاء ،هو الدكتور “دور” ،DR. DAUREعلى المجيء إلى المغرب، وهذا ما حصل سنة ،1947حيث فتح والدها محلا للخياطة بالشارع الذي يحمل اسم الأمير مولاي عبد الله حاليا، بينما فتحت أمها دكانا لبيع ملابس الأطفال بالشارع الذي يحمل اسم الشهيد مصطفى المعاني حاليا.
لقد دامت الخطبة زمنا طويلا ،ساهم في إطالتها الاعتقال الأول سنة ،1959ثم الاعتقال الثاني سنة ،1963ثم قضية المهدي بن بركة ،حيث سافرت لمتابعة إدارة القضية كطرف مدني بباريس، ولم يصدر الحكم إلا سنة 1967.
في سنة 1965قررت عائلة “هيلين” مغادرة المغرب بصفة نهائية واستقرت في مدينة كان “ “CANNES بالجنوب الفرنسي .وفي سنة ،1968أي بعد إحدى وعشرين سنة من التعرف على هيلين وعائلتها تم عقد زواجنا ببلدية الدائرة السادسة لمدينة باريس، وقد أشرفت على عقد هذا القران محامية الصديق أحمد بن بلة الأستاذة “مدلني -لفو -فريون”
.MADLEINE -LAFUE-VERON
لقد احتملت زوجتي هيلين ،وضحت بالكثير من أجل الوقوف إلى جانبي ،وساعدتني في رحلة الغربة الشاقة والمتعبة، وأنا مدين لها بالكثير، لأنني كنت دائم التنقل من اجتماع إلى اجتماع ،ومن موعد إلى آخر، كما كنت أتلقى زيارات كثيرة في أي وقت ،ليلا نهارا .والشكر موصول لها أيضا على العلاقة الخاصة والمتينة، التي كانت تربط بينها وبين والدتي رغم غياب التواصل اللغوي ولكن كيمياء التواصل كانت ترسي بينهما بشكل غريب، وكان تبادل المحبة والود بينهما متأصلا وعظيما لدرجة أثارت انتباه الجميع. كان والد هيلني ،منذ الستينيات من القرن الماضي ،يداعبني ويكرر على مسامعي باستمرار ،متى يقوم ملككم الحسن الثاني بتعيينك وزيرا أول لكي يرتاح ،غير أنه مات ستة أشهر قبل أن يلبي الملك الراحل رغبته.
صعوبة الإصلاح
كانت سنة 1992 حبلى بالعديد من الأحداث والامتحانات الصعبة ،ففي بداية السنة وبالضبط يوم 8يناير ،1992انتقل إلى عفو الله أخي ورفيق دربي ومهندس النضال الديمقراطي عبد الرحيم بوعبيد ،وقد حملني إخواني وأخواتي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ،مهمة خلافته على رأس الاتحاد ،في الوقت الذي كانت فيه أوضاعي الصحية تحتم علي الخلود إلى التقاعد وعدم الإجهاد.
وشهدت هذه السنة والسنة التي ستليها العديد من الاستحقاقات ،منها الاستفتاء على الدستور الجديد والانتخابات المحلية البلدية والقروية ،ثم الانتخابات التشريعية على مرحلتين ،ثلثا مجلس النواب بالانتخاب المباشر ،والثلث المتبقي بالانتخاب غير المباشر.
لقد تطرقت في ما سبق للمواقف المعرب عنها أثناء كل هذه الاستحقاقات من حيث تحليل النتائج التي حصل عليها حزب الاتحاد. كما تناولت أيضا دور الإدارة في إفساد هذه الأسس الضرورية لبناء سليم للديمقراطية في بلادنا ،من خلال عمليات التزوير، وتشويه الإرادة الشعبية ،والدور الذي لعبته جيوب المقاومة في نسف كل محاولة تستهدف الانتقال الديمقراطي، بالرغم من أن ملك البلاد دعا في العديد من الخطب إلى احترام رأي المواطن للتعبير بكل حرية في اختيار من يمثله.
برزت من جهة أخرى ،النزعة الذاتية والمصلحة الشخصية لمجموعة من العناصر داخل حزبنا، وانشغل البعض بالركض وراءها ،عوض خوض المعارك الانتخابية بنفس الروح النضالية الاتحادية التي تعودنا عليها ،بنكران للذات وتفضيل المصلحة العامة فوق أية مصلحة أخرى.
بذلت مجهودا كبيرا من أجل الاتفاق على المرشح المشترك بين مكونات الكتلة الديمقراطية الخمسة :الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال والاتحاد الوطني وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل ،ولم نتمكن للأسف من الوصول إلى اتفاق يشمل المكونات الخمسة للكتلة الديمقراطية ،رغم الجهود والتنازلات المبذولة.
وبصعوبة أيضا ،توصلنا مع إخواننا في حزب الاستقلال إلى المرشح المشترك ،رغم تشبث المرشحين، ولا أقول المناضلين من كلا الطرفين بالانفراد بالترشح بانفراد، وأذكر الصراع الذي حدث في فاس في ترشيح من نصيب الاتحاد الاشتراكي ،وتشبث الإخوة في حزب الاستقلال، وقررت التنازل لهم شريطة ترشيح عنصر نسوي في هذه الدائرة ،وأن نتجند جميعا لإنجاحها ،وقد كان من نصيب السيدة سميرس بناني، بينما نجحت في مدينة الدار البيضاء الأخت بديعة الصقلي عن الاتحاد الاشتراكي، حيث سيلج العنصر النسوي لأول مرة للبرلمان المغربي.
(المصدر: موقع “العربي الجديد”).