مذكرات عبد الرحمن اليوسفي: هكذا كان لقائي الأول مع محمد السادس [3/2]
هوية بريس – وكالات
في الجزء الثاني من مذكرات عبد الرحمن اليوسفي، ينشر “العربي الجديد”، تفاصيل جديدة لا يعرفها المتابع للشأن السياسي في البلاد، وتشكل نموذجاً في سلاسة انتقال العروش من الملك إلى ولي العهد.
لقد كانت وفاة الملك الراحل الحسن الثاني مزلزلة، ومفاجئة لعموم الشعب المغربي، وحتى وإن كان الملك الراحل قد بدا مريضاً في أيامه الأخيرة، فإن لا أحد كان يتوقع ذلك الرحيل الصاعق.
وقد عبر اليوسفي في مذكراته عن هول الصدمة للفقدان الكبير، لكنه في الآن نفسه، توقف مليا عند الملك الشاب الذي جعل من جنازة والده، جنازة القرن، من حيث المشاركة الكبيرة لرؤساء الدول، وعلى رأسهم الرئيس الأميركي بيل كلينتون، الذي سار في الجنازة، ومن حيث الالتفاف الشعبي وحزن المغاربة العفوي وهم يودعون ملكا ومرحلة، ويستقبلون أخرى بكثير من التفاؤل والتطلع.
تقدم مذكرات اليوسفي في هذا الباب تفاصيل ما جرى، وتعيد إحياء الانطباعات والمشاعر، زيادة على ما حصل بعد انتخابات 2002 وخروج اليوسفي من الحياة السياسية، واحتجاجه على عدم احترام “المنهجية الديمقراطية” في تعيين الوزير الأول آنذاك.
وفاة الملك حسن الثاني
نزل علي خبر نقل المرحوم الملك الحسن الثاني إلى المستشفى ،قبل منتصف نهار يوم الجمعة 23 يوليوز ،1999كالصاعقة. ففي الوقت الذي كنت أنتظر توجيهات جلالته لتنظيم أعمال الأسبوع ،فإذا بي أسمع أنه نقل فجأة إلى المستشفى.
لم يسعني إلا أن أسرع متوجها إلى مستشفى ابن سينا بالرباط ،وعند وصولي إليه توجهت مباشرة إلى الجناح الذي كان يرقد به الملك الراحل ، لكن الأطباء كانوا يحظرون الدخول إلى الغرفة التي كان يتلقى فيها العلاج .كانت الأجواء جد مؤملة ،في ذلك الجناح، غير أنها كانت مفعمة بالإيمان والدعوات ليمد الله في عمر جلالته ،على الرغم من أنه كان باديا على وجوه المقربين ،الذين كانوا أكثر اطلاعا على الوضع ،أن الأمور تطورت بسرعة لا تصدق.
كان الجميع في حالة يرثى لها ،وبعد العصر ،نادى علي صاحب السمو ،ولي العهد آنذاك، سيدي مـحمد ،ليخبرني “أن سيدنا في حالة صعبة جدا، ولم يتبق لنا إلا الدعاء له”.
وبعد ذلك ،تلقيت مكالمة ثانية منه ،ليخبرني بأن صاحب الجلالة انتقل إلى رحمة الله، وأمرني أن يتلى القرآن في وسائل الإعلام الرسمية ،وأنه ُيحضّر كلمة سيتوجه بها إلى الشعب المغربي.
اتصل بي مرة أخرى ليخبرني بالترتيبات الأولية ،لإعداد مراسيم البيعة ،والشروع بالتنسيق مع التشريفات الملكية في الاستعداد لاستقبال ضيوف المغرب ،وتعبئة الهيأة الوزارية لاستقبالهم والترحيب بهم.
لقد كان يوما من الصعب احتماله ،خصوصا في تلك الساعات الطوال التي كانت مملوءة بالأمل، ومشحونة بنوع من الرجاء، حول هذا المصاب الجلل .كان شعورا مشتركا بالمأساة والحزن ،وكانت تلك اللحظات تتطلب التجلد والصبر والرضا بقضاء الله.
كان من غريب الصدف أن المستشفى الذي توفي فيه صاحب الجلالة المغفور له الحسن الثاني، هو نفس المستشفى الذي كنت أرقد فيه ،أسبوعين مرا بعد إصابتي بوعكة صحية خطيرة في الدماغ.
لم يخطر ببالي في أية لحظة ،أي شك أو ريبة حول الطريقة التي ستنتقل بها الأمور من عهد إلى عهد ،بل كان هذا الموضوع غير وارد .ففي تلك اللحظات ،كان الأمل لفقدان عزيزنا الكبير هو السائد والمسيطر على الأفئدة ،وأنا شخصيا تأثرت كثيرا ،لأنه ،أقل من 48ساعة على وفاته، وأثناء حفل العشاء الذي نظمه على شرف الرئيس اليمني المرحوم علي عبد الله صالح ،يوم الأربعاء 21يوليو ،1999أطال رحمه الله الجلوس معنا في تلك المأدبة ،وكان مرحاً .بل كان جد متفائل بتطور الأمور ،سواء على المستوى الوطني ،كما عبر عن ذلك في خطاب عيد الشباب يوم 9يوليو ،1999حين قال” :شعبي العزيز، إن ما أقوله لك كان حلما وكان أمنية وأصبح اليوم حقيقة” .كما وعد الشعب المغربي أنه سيزف إليه أخبارا سارة أيضا في خطاب 20غشت المقبل.
كانت السعادة بادية على وجهه ،وكان يقينه أن الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية ستتطور إلى الأحسن .وخلال نفس المأدبة ،كان مهتما بمشاكل المنطقة العربية، وسأل عن الوضع في منطقة الشرق الأوسط والخليج ،وتابع تقييم الرئيس اليمني للتطورات الحاصلة هناك، كما أعرب عن تفاؤله فيما يخص المغرب الكبير ،والمصالحة العربية والتطورات المحتملة في القضية الفلسطينية.
وفي نفس اليوم ،قبل استقبال فخامة الرئيس اليمني ،نادى َعليّ وعلى السيد وزير الداخلية، وعقد معنا جلسة عمل حول قضيتنا الوطنية (قضية الصحراء) وتابع معنا آخر تطورات عملية الإحصاء ،وكان حريصا على معرفة التفاصيل ،وتتبع آخر الإجراءات.
خلال ليلة العشاء مع الرئيس اليمني ،قال لضيوفه: “اسمحوا لي ،فأنا ووزيري الأول لن نأكل معكم ،لأن لنا طعام حمية خاصا بنا” .وبالفعل تقاسمت معه طعامه الخاص.
أذكر أنه عندما تقرر استقبالنا كقادة لأحزاب الكتلة الديمقراطية بالقصر الملكي بالرباط، الذي صادف الأول من مايو سنة (1992عيد العمال) ،مناقشة الإعداد لتشكيل لجنة التحكيم المكلفة بالتحضير لمتابعة الانتخابات ،جاء مسؤول من التشريفات الملكية وأخبرهم أنه بتعليمات من صاحب الجلالة ،علي وحدي أن أرافقه للصعود بالمصعد ،نظرا لظروفي الصحية. وأصبحت تلك عادة ،كلما ذهبت إلى القصر لمقابلة جلالة الملك.
مباشرة بعد خروجي من المصعد وجدت صاحب الجلالة في انتظاري ودعاني لأتناول معه فنجان قهوة ،وسألني عن أحوالي الصحية وسنوات الغربة التي قضيتها بالمنفى ،متسائلا عن مساري الدراسي الذي تابعته بالخارج (دبلوم الدراسات العليا في العلوم السياسية والدبلوم الدولي لحقوق الإنسان) .وتبادلنا ذكرياتنا ماضينا المشترك ،وقال لي جلالته “نحن مثل رافدي نهر افترقا ثم التقيا من جديد ،لنصب في نفس المجرى الأصل” .لقد ترك لدي جلالته شعورا أنني أمام ملك كما لو أنني كنت قد اجتمعت به البارحة فقط خلال تلك الجلسة الأولى ،وجعلني أحس كما لو أنه لم تفرق بيننا السبل منذ 27سنة.
بعد ذلك قدم لي ولي العهد سيدي محمد وشقيقه الأمير مولاي رشيد ،قائلا لهما” :هذا عمكما اليوسفي” وأضاف مازحا “إنه من أكبر مهربي الأسلحة ،حيث كان يخفيها حتى وهو نائم عل سرير المستشفى بإسبانيا ليزود بها المقاومة وجيش التحرير بالمغرب” .وكان ذلك
أول لقاء مباشر لي مع الأميرين .بعد ذلك التحقنا بقاعة الاجتماع ،علما أنه سبق واتفقنا قبل ضمن أحزاب الكتلة على أن يتناول الكلمة باسمنا جميعا أمام صاحب الجلالة ،الأستاذ محمد بوستة .وبعد أن انتهى من عرضه ،التفت إلي جلالة الملك الحسن الثاني ،وقال “أراك تحك ذقنك ،إنني أريد أن أسمع رأيك” .فقلت له ،ما دام قد أذنت لي جلالتكم ،فتناولت الكلمة، حيث تأكد لي مجددا أن جلالته لا يزال منصتا جيدا لمحاوريه.
أذكر أيضا ،أنه في أغلب اجتماعاتنا الثنائية ،كان جلالته يحرص على أن يجعل تلك اللقاءات حميمية ،من خلال استحضار تفاصيل ما سبق وربطنا من اتصالات في مواجهة الاستعمار وكذا في السنوات الأولى للاستقلال .وكثيراً ما كان يستشهد بخصال وسرية أخينا المرحوم عبد الرحيم بوعبيد ،وكذا عدد آخر من الشخصيات الوطنية ومن جسم المقاومة وجيش التحرير. بل إننا كنا نصل حتى إلى تبادل النكت الجديدة التي يبدعها المغاربة في ما بينهم حول الوزير الأول وأعضاء الحكومة وتلك التي لها علاقة بواقع المعيش اليومي للناس .فاكتشفت في جلالته جانبا آخر مرحا ومغربيا أصيلا .مثلما أنني وقفت على قوة ذاكرة جلالته ،ومعرفته الدقيقة بالناس وبالشخصيات السياسية والفنية والأدبية والأكاديمية، مما يعكس أنه كان ملما بدقة بنسيج المجتمع المغربي ،ومتتبعا رفيعا لكل ما يفرزه الواقع المغربي من تيارات وأفكار وشخوص.
تنظيم الجنازة
قال لي صاحب الجلالة الملك مـحمد بن الحسن ،يوم وفاة والده المغفور له الحسن الثاني، إنه يرغب في إقامة الجنازة في اليوم التالي أي يوم السبت ،وكان عدد من المستشارين يحبذون انتظار ثلاثة أيام للتحضير ،لكن الملك ،قرر في النهاية ،أن تكون الجنازة يوم الأحد الموالي للوفاة ،ولم يقبل تمديد المدة ليكون الإعداد أحسن للتشييع.
فرغبته أساسا كانت أن يدفن والده في اليوم التالي بعد الوفاة ،حسب ما جرت به العادة عند المغاربة ،إلا أنه قبل على مضض أن يصبر إلى يوم الأحد .اتضح للجميع حينها أنه لو أتيح لكل للمغاربة حضور مراسم التشييع ،لحجوا جميعا صوب الرباط. لقد كانت المشاهد مطمئنة ومشجعة ،تبين مدى قوة ووحدة هذا الشعب.
مراسم البيعة
استحسنت كثيرا الطريقة التي تمت بها البيعة ،لأنها كانت حضارية ،أدخلت نوعا من الأبهة على مراسمها ،وأكسبتها وزنا قانونيا وشرعيا قويا ،وهذا لا يعني بالضرورة أن البيعة لو تمت بالطريقة التقليدية ،لكانت ستكون ذات مغزى سياسي أقل .أنا شخصيا عشت لحظة اعتزاز تاريخية ،لأنه كان لي الشرف أن أكون على رأس الموقعين على مرسوم البيعة بعد الأسرة الملكية ،فهذه مفخرة لي ولحزبي ولحركتي .لقد كانت بالفعل لحظة تاريخية أخرى.
سُئلت كثيرا في الماضي، كيف ستكون الخلافة وكيف سيكون الأمير الوارث للملك،وهل سيكون في مستوى والده .كانت كل هذه الانشغالات لدى العديد من الصحافيين الأجانب الذين قابلتهم ،وكنت بدوري دائما ما أرد عليهم بأجوبة متفائلة ويقينية بأن الانتقال سيكون طبيعيا ،وفعلا فقد كان هذا الأخير أكثر من طبيعي ،خاصة بالنظر إلى السرعة التي جرت فيها مراسم الانتقال.
التقيت ولي العهد الذي سيصبح الملك محمد السادس ،يوم انتقال المغفور له الملك الحسن الثاني إلى جوار ربه ،قبل أن يعلن النعي للشعب المغربي .وفي كل الجلسات التي جمعتني بالملك الجديد، سواء من خلال تقديمي التعازي أو أثناء مراسيم البيعة والتحضير لجنازة الملك الراحل، وجدته رجلا صابرا ،رغم الألم العميق الذي كان يعتصر فؤاده .كان يشعر بالمسؤولية الكبرى التي أصبحت ملقاة على عاتقه .كما التقيته أثناء مراسيم البيعة ،وكانت رغبته أن أحضر معه العشاء الرسمي ،لكني عدت إلى بيتي مباشرة بعد البيعة.
وفي اليوم التالي ،التقيته مرة أخرى للتحضير للجنازة ،وقد كان حريصا على تتبع برنامج وصول الضيوف واستقبالهم بما يليق بسمعة المغرب وهول المناسبة .وخلال يوم تشييع جنازة والده المغفور له الحسن الثاني ،قمت بمرافقته لتقبيل وتوديع جثمان أبيه في القصر ،وقد كان حريصا على أن لا أتعب ،وأمر أن لا أرافق الموكب الجنائزي ،حرصا على صحتي وتفاديا لحرارة الشمس وأن أنتقل مباشرة إلى مكان الدفن ،إلى حين وصول الموكب .لقد كانت تلك اللحظات جد مؤثرة بالنسبة لي.
ما حدث يوم التشييع كان غير منتظر ،فقد شهدنا مواكب جنائزية لرجال عظام ،وعمالقة في العالم ،ولا أعتقد أن المغاربة أو أن أصدقاء المغرب كانوا يبالغون ،عندما قالوا أن ما شهدوه تم بصورة تلقائية ،بنظام وفي غاية النضج.
ذكرى اللقاء الأول
تعرفت إلى صاحب الجلالة الملك مـحمد بن الحسن يوم فاتح ماي ،1992 لما دعانا صاحب الجلالة آنذاك ،الملك الراحل، لحضور أول اجتماع لأحزاب الكتلة الخاص بمناقشة عمل لجنة التحكيم للتحضير للانتخابات .وقدمني صاحب الجلالة إلى ولي العهد آنذاك وشقيقه ،وأذكر أنه قدمني لهما مازحا ،كما قلت سابقا ،بقوله “هذا أكبر مهربي السلاح” ،وحكى لهم كيف أني وعلى الرغم من أنني كنت مريضا ،إلا أنني كنت أحمل السلاح تحت لباسي في عهد المقاومة من أجل عودة الملك الشرعي للبلاد.
أذكر أن الأمير سيدي محمد قد سألني إن كانت تربطني مع صاحب الجلالة نفس علاقات الصداقة التي كانت تربطه مع عبد الرحيم بوعبيد .فأجبته” :ليس إلى هذا الحد” .لأن عبد الرحيم بوعبيد كانت تربطه علاقات متينة مع صاحب الجلالة ،سواء قبل الاستقلال أو بعده ،بل وتوطدت أكثر من خلال تعاملهما في إطار الحكومات المتعاقبة .أما أنا ،فكانت آخر مرة التقيت فيها جلالته في نهاية شهر أبريل .1965وبحكم الغربة والمنفى وظروفي الخاصة ،لم ألتقه إلا بعد مرور 27سنة.
الحوار مع كلينتون
قدم رئيس الولايات المتحدة الأميركية السيد بيل كلينتون ،تعازيه إلى الملك محمد السادس ،في فقدان الملك الراحل الحسن الثاني ،وقبل وداعه أبدى الرئيس الأميركي ،لجلالة الملك ،رغبته في اللقاء مع الوزير الأول للحكومة المغربية ،وأبلغني جلالة الملك بهذا الأمر.
أثمن هذا اللقاء كثيرا ،فالولايات المتحدة تربطها صداقة تاريخية بالمغرب ،حيث يؤكد حضور الرئيس الأميركي جنازة جلالة الملك الراحل ولقاؤه مع صاحب الجلالة مـحمد بن الحسن بهذه المناسبة ،مساندة بلده ودعمه للمغرب.
وخلال لقائي بالرئيس الأميركي ،تداولنا في العلاقات الثنائية والعمل على تطويرعلاقاتنا الاقتصادية ،كما أنه وبحكم أن صادراتنا إلى أميركا كانت متواضعة ،لفتنا الانتباه إلى ضرورة إعادة النظر في مستوى علاقاتنا الاقتصادية مع أكبر دولة في العالم ،وتطرقنا للعديد من القضايا التي تشغل َبالنا سواء في المغرب ،أو على المستوى الجهوي أو الدولي.
كان لقائي مع الرئيس الأميركي مناسبة أيضا لشكره على وقوفه إلى جانب الشعب المغربي في هذه الظروف العصيبة ،كما شكرته على الرسالة الشخصية التي بعث لي بها أثناء محنتي الصحية الأخيرة .وفي المجمل ،كانت تلك الجلسة ،التي استغرقت من الناحية الزمنية وقتا طويلا ،ذات أهمية كبرى.
إقالة ادريس البصري
عندما قرر صاحب الجلالة ،مـحمد السادس ،وضع حد لاستمرار وزير الدولة فيالداخلية ، ادريس البصري ،على رأس هذه الوزارة يوم 9نوفمبر ،1999لم أكن متواجدا في المغرب، لأنني كنت أشارك في مؤتمر الأممية الاشتراكية المنعقد بمدينة باريس .ويوم 7نوفمبر ،1999 جاء عندي إلى مقر انعقاد المؤتمر الأخ عباس بودرقة وأخبرني أنه تلقى مكالمة هاتفية من طرف الأستاذ أحمد لحليمي ،طالبا إخباري بفتح هاتفي النقال ،لأن صاحب الجلالة يرغب في الحديث معي.
وبالفعل اتصل بي صاحب الجلالة وأحاطني علما بقرار الإقالة الذي اتّـخذه.
تقديمي الاستقالة
جرت الانتخابات التشريعية يوم 27سبتمبر 2002وكانت أولى الانتخابات في عهد الملك مـحمد السادس ،وأول انتخابات تشريعية تشرف عليها حكومة التناوب التوافقي.
ولا بد أن نسجل أن المغرب استطاع أن ينجز انتخابات نزيهة غير مطعون فيها لدرجة أن بعض الجرائد مثل الجريدة الفرنسية “لوموند” ،التي كانت باستمرار تنتقد التجارب المغربية، نشرت مقالا تحت عنوان كبير عن “الاستثناء المغربي” بحيث استطاع الشعب المغربي لأول مرة أن يعرب عن إرادته من خلال هذه الانتخاب بكل حرية ،بالرغم من التغييرات الجذرية التي أدخلت على نمط الاقتراع الجديد باستعمال اللائحة عوض الترشيح الفردي.
تم الإعلان عن النتائج الرسمية لهذه الانتخابات التي حصل فيها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على المرتبة الأولى، بخمسين مقعدا ،وحصل التحالف الحكومي الذي قاد تجربة التناوب التوافقي على أغلبية مريحة من المقاعد.
وبمجرد الإعلان عن هذه النتائج ،التقيت صاحب الجلالة الملك مـحمد السادس ،وكان حاضرا أيضا في هذا اللقاء مستشاره المرحوم عبد العزيز مزيان بلفقيه ،وعرضت على صاحب الجلالة تقديم استقالتي من الوزارة الأولى ،حتى يتمكن من تعيين الوزير الأول الذي سيتولى تدبير المرحلة القادمة ،لأن جلالته يعلم رغبتي في إعفائي من الاستمرار في تحمل هذه المسؤولية.غير أن جلالته فضل عدم تقديم الاستقالة حاليا.
المنهجية الديمقراطية
يوم الأربعاء 9أكتوبر ،2002ترأس صاحب الجلالة مـحمد السادس مجلسا وزاريا بمدينة مراكش ،وكان آخر مجلس وزاري لحكومة التناوب التوافقي.
بعد ذلك المجلس استقبلني جلالته ،وأثنى على المجهودات التي بذلتها خلال الفترة الزمنية التي قضيتها على رأس الوزارة الأولى ،سواء في عهد والده المرحوم الملك الحسن الثاني ،أو خلال العهد الجديد ،بالرغم من الحالة الصحية التي لم تحل دون إنجاز العديد من المشاريع الكبرى التي شهدها المغرب خلال هذه الفترة.
وأضاف جلالته قائلا” :وفي العديد من المرات عبرت عن رغبتك في إعفائك من هذه المسؤولية، نظرا لظروفك الصحية، وقد قررت تعين إدريس جطو على رأس الوزارة الأولى”.
شكرت جلالته على تلبية هذه الرغبة ،وعبرت له أن الدستور الحالي(1996) يمنحه حق تعيين من يشاء كوزير أول ،ولكن المنهجية الديمقراطية تقضي بتعيين الوزير الأول ،من الحزب الذي احتل المرتبة الأولى في عدد المقاعد البرلمانية ،كما أسفرت عنها الانتخابات التشريعية الأخيرة وهو حزب الاتحاد.
لقد استمر حبل التواصل بيننا ولا يزال ،إلى غاية كتابة هذه المذكرات ،حتى عندما قدمت استقالة الاعتزال نهائيا من الحزب والنشاط السياسي ،حيث بعث لي جلالته برسالة شخصية عبر فيها عن مشاعره تجاه ما أسديته لبلادي طيلة مساري السياسي.
كما كان يستدعيني كلما سمحت الظروف للمشاركة في أفراح العائلة الملكية ،أو بعض اللقاءات الرسمية أو مع بعض الرؤساء أو الأصدقاء المشتركين ،وفي بعض الحالات مع عائلته الصغيرة.
كما عرض َعليّ القيام ببعض المهام من حين لآخر ،وكان يلح على أن لا يكون لي أي حرج في قبول هذه المهام أو الاعتذار عنها، كما حدث مثلا في نهاية سنة 2003عندما عرض علي تحمل رئاسة هيئة الإنصاف والمصالحة ،وأنه يترك لي الرد بما يريحني.
كان حضوره الشخصي لتدشين الشارع الذي يحمل اسمي بمدينة طنجة مسقط رأسي، وهي الالتفاتة التي جاءت في إطار إحياء الذكرى السابعة عشرة لعيد العرش يوم 30يوليوز ،2016حدثا غير مسبوق في تاريخ المغرب ترك أثره بليغا في نفسي وأنا ممنون لجلالته على تلك المبادرة السامية.
كما أنه شملني رعاه الله ،في شهر أكتوبر 2016برعايته الملكية والإنسانية الرفيعة ،إثر الوعكة الصحية التي ألمت بي ،حيث أمر جلالته بنقلي إلى مستشفى الشيخ خليفة بالدار البيضاء ،وكان يتابع بدقة (عن طريق الفريق الطبي المكلف) تفاصيل وضعيتي الصحية .كما قام جلالته بزيارتي شخصيا ،في ظرف أسبوع واحد مرتين ،ليطمئن علي ،قبل أن يسافر في
مهمة إلى خارج الوطن ،وعين إلى جانبي مساعدة طبية ،تشرف على تتبع حالتي الصحية والسهر على متابعة العلاج ،والحرص على استمرار متابعة ومراقبة الأطباء وأنا شاكر له هذه الالتفاتة الإنسانية السامية.
استقالة الاعتزال
عندما قررت تقديم استقالة الاعتزال بتاريخ 27أكتوبر ،2003اتصلت بالأستاذ محمد الصديقي عضو المكتب السياسي الذي يتولى مسؤولية مالية وإدارة ممتلكات الحزب، وسلمته رسميا إدارة جريدة الاتحاد الاشتراكي ،وبعدها توجهت عند السيد عبد الواحد الراضي وطلبت منه نقل رسالة استقالتي إلى أعضاء المكتب السياسي للاتحاد.
وهذا نص رسالة الاستقالة:
في رسالة إلى أعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي
-الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي يعلن اعتزاله العمل السياسي
الحمد لله
إلى الأخوات والإخوان أعضاء المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي -الرباط
تحية طيبة ورمضانا مباركا سعيدا
بعد انتهاء محطات المسلسل الانتخابي ،أحيطكم علما أنني قررت اعتزال العمل السياسي، وبالتالي أصبحت مستقيلا من عضويتي في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ومن كل المهام ذات العلاقة .وإنني على استعداد لعقد اجتماع في أقرب وقت مع عضو المكتب السياسي المكلف بتدبير مالية الحزب وممتلكاته من أجل تصفية ما بذمتي.
أتمنى لكم ولكافة المناضلات والمناضلين كل التوفيق في متابعة وإنجاح مسيرة الحزب، خدمة لمصلحة الوطن العليا ووفاء لشهدائنا ولتضحيات أبطالنا .والسلام عليكم ورحمة الله.
حرر بالدار البيضاء في فاتح رمضان 1424موافق 27أكتوبر 2003
عبد الرحمن اليوسفي
(المصدر: موقع “العربي الجديد”).