مسألة ربا الفائدة البنكية.. حوار هادئ مع السيد وزير الأوقاف
هوية بريس – د.عبد الفتاح الزنيفي
افتتح الأستاذ أحمد التوفيق وزير الأوقاف الدروس الحسنية المنيفة لرمضان الكريم عام 1445هـ بدرس عنوانه: ’’تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين‘‘. تناول فيه ثلاثة محاور: جعل الأول في تجديد الدين في الماضي والحاضر، وخصص الثاني في تجديد الدين في نظام إمارة المؤمنين، وأما الثالث فلامَس فيه آفاق التجديد، فقال الأستاذ المحاضر بلفظه: ’’أما القضية الثالثة عشرة؛ فهي التعامل مع الأبناك، ذلك أن بعض المتكلمين في الدين قد أحرجوا ضمير المسلمين بالقول إن الربا هي الفائدة على القرض بأي قدر كانت، مع العلم بأن حكمة القرآن جاءت للقطيعة مع ممارسة كانت شائعة في بعض الحضارات قديمة وهي استعباد العاجز عن رد الدين بفوائد مضاعفة، وكان بعض فلاسفة اليونان قد استنكروا ذلك، أما الاقتراض في هذا العصر فمعظمه للضرورة أو الاستثمار، وما يتم أداؤه من الفوائد يتعلق بثمن الأجل ومقابل الخدمات، فيما الفائدة تقل بقدر نمو الاقتصادي في البلد‘‘.
وهذا الكلام غريب من السيد المحاضر الذي نص في كلمته أن مؤسسة المجلس العلمي الأعلى من نظام إمارة المؤمنين، وأن الفتوى يتصدرها علماء الأمة، فمال السيد الوزير عن هذا الشرط المؤسساتي، الذي طالما دعا إليه، وهو احترام التخصصات التي من أخطرها إصدار الأحكام الشرعية، خاصة فيما عمت به البلوى كالربا البنكية.
ومسألة أن الفائدة البنكية هي الربا المحرم في القرآن مجمع عليها في القديم والحديث، وجميع المجامع الفقهية المعاصرة على أن الفائدة البنكية هي الربا بلا خلاف.
ورجعنا إلى فتاوى المجلس العلمي الأعلى بالمغرب فلم نجد له فتوى تعتبر الفائدةَ البنكية ليست ربا، وقد رد علماء المجلس العلمي الأعلى على فتوى الشيخ القرضاوي رحمه الله لما أجاز شراء بيوت للسكن عن طريق القروض البنكية للمضطرين ما دامت لا توجد بنوك إسلامية، وبينت جميع ردود علماء المغرب آنذاك تحريم الفائدة البنكية التي ليست إلا الربا المحرم في القرآن الكريم.
وقد رجعتُ إلى قرارات المجامع الفقهية، فأكدتْ جميعُها أن الفائدة البنكية هي الربا المحرم ومنها:
المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية الذي عُقد عام 1965م والذي شارك فيه المغرب مع 35 دولة إسلامية، فقرر بالإجماع أن الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم، لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي، وما يسمى بالقرض الإنتاجي لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين.
كما تقرر أن كثير الربا وقليله حرام، كما يشير إلى ذلك الفهم الصحيح في قوله تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة). وتم النص على أن الإقراض بالربا محرم.
ونصت فتوى جبهة علماء الأزهر الشريف (1400- 1980)، التي قال فيها فضيلة الشيخ جاد الحق علي جاد الحق: ’’ الفائدة المحددة التى تصرفها البنوك نظير إيداع الأموال بها هي من قبيل ربا الزيادة المحرم شرعا، ولا فرق فى حرمة التعامل بالربا بين الأفراد والجماعات، أو بين الأفراد والدولة. ‘‘.
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، (1406-1985م)، الذي حضره أكثر من 70 خبيرا في الفقه والاقتصاد، والذي نص على أن: كل زيادة أو فائدة على الدين الذي حل أجله وعجز المدين عن الوفاء به مقابل تأجيله، وكذلك الزيادة أو الفائدة على القرض منذ بداية العقد، هاتان الصورتان ربا محرم.
ومما جاء في قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته التاسعة: يحرم على كل مسلم يتيسر له التعامل مع مصرف إسلامي، أن يتعامل مع المصارف الربوية في الداخل أو الخارج، وإذ لا عذر له في التعامل معها بعد وجود البديل الإسلامي، ويجب عليه أن يستعيض عن الخبيث بالطيب، ويستغني بالحلال عن الحرام.
والسيد الوزير قبل عقد من الزمن استدعى خبيرا وعالما من العجم وأجلسه مع علماء المغرب ليحاضر في موضوع مفاده: أن الفائدة البنكية ليست هي الربا المحرم في القرآن.
فما كان من علماء المغرب إلا أن ردوا على المحاضر بالبراهين القاطعة وبينوا له أن أصول الإفتاء ومقاصد الشريعة لا تقبلان ذلك، مما جعل هذا العالم يعتذر لمشيخة علماء المغرب، وهذا الاجتماع حدا بشيخنا العالم الأصولي الفقيه سيدي محمد التاويل أن يصدر في حينها كتابا عنوانه: “وأخيرا وقعت الواقعة وأبيح الربا: الفوائد البنكية.” رحم الله الفقيه سيدي محمد التاويل.
وقد استند السيد المحاضر في بناء حجته على إحصاء لا واقع له، حين قال إن “بعض المتكلمين في الدين” يقولون بحرمة الفائدة البنكية، ولم يسمِّهم فقهاء ولا علماء، ولا حتى باحثين، وإنما وصفهم بالمتكلمين، ولسنا نعرف المقصود. والحال أن جميع العلماء والفقهاء منذ أن كانت البنوك يقولون بحرمة الفائدة البنكية بلا خلاف، وأن الذين قالوا بجوازها هم بعض المتكلمين الذين ليسوا من أهل الشريعة من الصحفيين والاقتصاديين والحداثيين وغيرهم، ووافقهم في ذلك عدد قليل جدا من الفقهاء أو المحسوبين عليهم، وخلافهم مرجوح بالأدلة الثابتة. فتصير حجة السيد المحاضر الإحصائية حجةً على نقيض قوله لا على قوله. كما أن الكلام ليس فيه إحراج لضمير المسلمين كما صرح بذلك السيد المحاضر، لأن مآخذ الأحكام ليست العوارض النفسية والخواطر النسبية، إذ عامة الأمة تقول بحرمة الفائدة البنكية، وأن الإحراج إنما في تحليلها، وفرق كبير بين أن يأخذ كثير من الناس القرض البنكي وهم يُقرون بحرمته، وبين أن يحِلُّوه وهم يعلمون حِرمته درءا للإحراج النفسي، فالأول فسق بمقتضى عرف الفقهاء، والثاني مضاهاة لشرع الله ومحادة لله ورسوله، حين يقول الشارع هذا حرام، ويقول الناس هو حلال دفعا للإحراج.
وأكثر من هذا، ليت السيد المحاضر حدد ضوابط الضرورة التي استند إليها، فهل كان من دأب الفقهاء على مر الأيام والعصور أن يفتوا بفتوى مستندة إلى الضرورة لعموم الناس؟ إن هذا مما لم يُسبق إليه، بل كان الفقهاء يضبطون الفتوى بتقدير ضرورتها، ولا يجيزون نقلها وتعديتها لغير المستفتي حتى يُعلم تحقق مناط الإباحة فيه، وهي مسالك دقيقة للفقهاء. ونقيض هذا قد يصير إلى تحليل الحرام، مع أن السيد المحاضر استشهد بالمتواتر من كلام أمير المؤمنين أنه لا يحل الحرام ولا يحرم الحلال.
إن وجود البنوك التشاركية في الدول الإسلامية دليل على ربوية الأبناك الأخرى التي تقرض المال مقابل ربح المال دون خسارة بضمانة ومع جميع أنواع التأمينات فهي رابحة رابحة ولا علاقة لها بالاستثمار الذي هو مجال للمخاطرة، فهذه البنوك لا تخاطر بل تربح من الاقتراض أصالة، وأزمة 2008 تعتبر هذه البنوك من إحدى أسبابها المباشرة، ونتج عنها تشرد عشرات الآلاف من الأمريكيين مع الإشارة، إلى أن أكبر الأقسام الموجودة في الأبناك هو قسم المنازعات ثم قسم استعادة الأموال.
وما حديث السيد أحمد التوفيق عن الضرورة وعن الإحراج إلا دليل ضمني على إقراره بأن الفائدة البنكية محرمة، وأنه نقلها إلى حكم الإباحة للضرورة، أو على الأقل، هو يقر بأن الفائدة البنكية تحوم حول حِمى الحرام وتوشك أن ترتع فيه، ومعلوم أن مذهب المالكية في الربا هو التحرز وسد الذرائع كانتهاجهم الاحتياط في العبادات، فمتى لاح الغرر أو الجهالة في عقد حكموا بمنعه، ومتى لاحت الربا قطعوا فيها بالمنع، وهل من شك في ربوية القرض البنكي؟ وهل من الناس من ينفي عنها شائبة الربا إن لم يقطع بها؟
وإذا كان مقام الاختصار الذي أورد فيه السيد المحاضر هذه المسألة مقامَ الإتيان بالألصق بالمسألة والأهم في عرضها بقوة، فلا ندري ما وجه إيراده استنكارَ فلاسفة اليونان، وهل كان الفقهاء في فرع من فروع فقههم، بمختلف مذاهبهم، يأتون برأي الفلاسفة في بناء الحكم الشرعي؟ وهل في دواوين مذهب إمام دار الهجرة مِن لدنه إلى يوم الناس هذا مَن أورد فرعا بناه على استنكار فلاسفة اليونان؟ إن هذا الإيراد لا يخلو من حالتين؛ أن يكون غير متصل بالموضوع، فيكون إيراده في هذا المقام حشوا غير مستحسن؛ أو أن يكون متصلا في نظر المحاضر فيكون حينها قد أتى بمسلك فقهي جديد.
إن المغرب بلد مسلم عريق في إسلامه متشبث بدينه، يعرف الحلال والحرام، ويحفظ الحديث ’’ الحلال بين والحرام بين ‘‘ من الأربعين النووية التي شرحها أربعة كبار علماء المغرب بإذن السلطان العلوي المجدد.
فالخمر الذي أجيز بيعه في المغرب بعد حرب تطوان سنة 1860 إلى الآن يعلم المغاربة جميعهم أنه حرام، والميسر والقمار الذي يتعامل به بعض المغاربة في نهار رمضان، يعتقد الجميع حرمته.
أرجو من الأستاذ المحاضر أن يرفع هذا الأمر إلى أهله وهي مؤسسة المجلس العلمي الأعلى لتنظر في هذا الشأن، وفق المذهب المالكي الذي هو من ثوابت البلد؛ وأصول أهل العلم المعروفة.
وفي الختام، نسأل الله العظيم أن يحفظ ديننا وبلدنا، وينصر إخواننا في غز.ة على أعدائهم من الصها.ينة ومَن حالفهم.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.