مسار مادة التربية الإسلامية في المغرب من مواجهة تداعيات الاستعمار إلى تحقيق الذات

13 مايو 2024 18:08

هوية بريس – مصطفى وهال

المقدمة

ارتبطت عملية التعلم والتعليم في المغرب قبل الاستعمار أشد الارتباط بالمسجد، فجل المدارس والمعاهد خرجت من رحم المسجد، ونشأ فعل التعلم مقرونا بعبادة من أهم العبادات وهي الصلاة، صورة من صور اعتناء الإسلام بالمساجد وبالعلم على حد سواء. إذ كان الإسلام ولا يزال باعثا قويا على طلب العلم والمعرفة وتأسيس العقل المنظم الكفيل بتحقيق نهضة الأمم وتقدمها، ومقارنة حال العرب قبل الإسلام وبعده شاهد لذلك، فبعد أن كان عدد القرشيين الذين يحسنون الكتابة لا يتعدى سبعة عشر فردا، صار عددهم عصيا عن الحصر بسبب دعوة الإسلام إلى العلم والإعلاء من شأن العلماء، وفي هذا المعنى يقول أحمد شلبي: “لما جاء الإسلام كان عدد القرشيين الذين يستطيعون القراءة والكتابة سبعة عشر رجلا فقط، ولكن الدين الجديد والنظام السياسي الذي نشأ في أحضانه شجعا الناس على تعلم القراءة والكتابة”.[1]

إن التعليم الديني في المغرب قبل الاستعمار كان يشكل القاعدة التي توجه بمقاصدها ورؤيتها للكون العقل المسلم، وتتأسس عليها كل العلوم والنماذج المعرفية التي تؤطر تصور الإنسان للكون والمصير، فالتربية الإسلامية بمدلولها الواسع تعني العيش وفق منهج الإسلام، قبل أن يضيق مدلولها لتصير مادة معزولة بغاياتها عن بقية المواد، تقاوم التحديات القيمية والعقدية، والمحاولات المتكررة لسلخ المجتمع عن هويته.

لقد كان المستعمر الفرنسي على وعي بصلابة صخرة الدين أمام أطماعه، لذلك كان من الطبيعي أن يعمل على فك الارتباط بين العلم والمسجد، فهذا جورج هاردي مدير السياسة التعليمية في المغرب في عهد الحماية يقر بدور الإسلام في إحداث ازدهار مذهل من المدارس الكبيرة والصغيرة، وأن سلاطين المغرب نظروا إلى تنمية هذه المدارس وصيانتها معتبرين ذلك من أوائل واجباتهم.[2]

وفي هذا البحث الموجز، سأقوم برصد أهم مسارات مادة التربية الإسلامية، مبينا آثار الاستعمار على هذا المسار، سعيا لخدمة المادة وتعزيز دورها داخل المجتمع، وتلك لعمري مهمة من أسمى المهمات التي تحمد عليها الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية، وسأنطلق للإجابة عن هذا الموضوع من إشكال جوهري وهو: ما تداعيات السياسة الاستعمارية على المادة التربية الإسلامية في المغرب، وما أهم محطات الإصلاح التربوي في المادة، ومسار سعيها للخروج من هذه التداعيات تحقيقا للذات؟

وسأجيب عن هذين السؤالين انطلاقا من المحاور الآتية:

المحور الأول: تأثير الاستعمار الفرنسي على التعليم الديني في المغرب

المحور الثاني:  التربية الإسلامية من تداعيات الاستعمار إلى رحلة تحقيق الذات

 المحور الأول: تأثير الاستعمار الفرنسي على التعليم الديني في المغرب

لقد وجد الاستعمار التعليم مرتبطا أشد الارتباط بالمسجد، وكان هذا الارتباط الوثيق مصدر إزعاج له، لذلك استقر رأي المخططين للسياسة التعليمية الاستعمارية في المغرب على ضرورة إجراء إصلاح شكلي على هذا النمط من التعليم، والذي تمثله القرويين، ويقترح المسيو مارتي في كتابه مغرب الغد: “تعيين شخصية فرنسية تتولى التخطيط للإصلاح والإشراف على تنفيذه ومراقبته، وهذه الشخصية يجب أن لا يعلن عنها، بل ينبغي أن تعمل من وراء ستار كمحرك للجنة من العلماء تعين بالاتفاق مع المخزن لهذا الغرض”.[3]

إضافة إلى ذلك عملت السياسة الاستعمارية على تكوين نخبة متشبعة بالثقافة الفرنسية، ومهدت لها سبل الوصول إلى مناصب القرار، وكرست الطبقية وانتصرت للنخبوية على حساب قيم التعميم وتكافؤ الفرص، وعملت على خلق شرعية جديدة للنخب الحاكمة، حيث يرى المؤرخ الفرنسي بيير فيرميرين “Pierre Vermeren” أن الجدارة كانت محدودة في ظل المحميات، بل إنها اتخذت شكل الجدارة الموروثة، “méritocratie patrimoniale”[4]

وعمل جورج هاردي مدير السياسة التعليمية في عهد الحماية على تقسيم التعليم إلى أصناف فئوية، يقـول هـاردي: “علينـا أّلا نفكـر فـي انفتـاح المواطـن المغربـي، أو فـي تحريـر العبـد أو فـي حريـة المـرأة، وعندمـا تتعرفـون علـى الوسـط المغربـي، سـتقتنعون بـأن هـذه الأفكار المبتذلـة تتحـول إلـى أخطـار إذا مـا نقلـت إلـى هنـا ِ(يقصـد المغـرب(.”[5]

فبعد أن اختارت سياسة الاحتلال للأهالي تعليما بسيطا وسطحيا، علم أن التجار الكبار وذوي الثروات الهامة وموظفي المخزن وقضاته وقواد القبائل لا يمكن إقناعهم أن مستقبل أبنائهم في العمل اليدوي، فكان لابد من التفكير إذن في خلق نوع من التعليم يناسب هذه النخبة الاجتماعية، وهو ما تمثله مدارس أبناء الأعيان المقامة في المدن الرئيسية، كما تمثله المدارس العليا الإسلامية في فاس والرباط، وتطابق هذه المدارس بشكل تقريبي ما سمى في فرنسا بالإعداديات الصغيرة (les petits colleges) أو الأقسام الابتدائية في الثانويات، مع احتفاظها بخصوصياتها.[6]

ويذهب الدكتور عبد الهادي التازي إلى أن “ميدان المواجهة بين القصر والإقامة لم يعد شيئا غير مشكلات التعليم. ومن أجل هذا كان تأسيس اللجنة الملكية لإصلاح التعليم الذي قصد بها العاهل التمهيد لإنشاء جامعة عصرية موحدة المناهج”.[7] إنها في العمق مواجهة لسياسة تهدف إلى “إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان”.

ومن الآثار البليغة لهذه السياسة الاستعمارية الغاشمة على المنظومة التربوية المغربية، أن “تم الفصل بين العلوم الاجتماعية والإنسانية، والعلوم البحثة، وبين علوم الشريعة واللغة العربية في مناهج كبريات الجامعات الإسلامية، في فاس، والقيراون، والقاهرة بعد أن كانت المناهج التعليمية في هذه الكليات مندمجة ومتعددة التخصصات، يدرس فيها إلى جانب علوم الشريعة واللغة العربية علوم الطب والفلك والفيزياء والطبيعيات وغيرها”.[8]

المحور الثاني:  التربية الإسلامية من تداعيات الاستعمار إلى رحلة البحث عن الذات

لقد كان من نتائج السياسة الاستعمارية على التعليم الديني أنها أفرزت ثلاثة أنماط من التعليم الإسلامي، مدارس لأبناء الأعيان ومدارس حضرية ومدارس قروية. وكان الهدف المستبطن من هذا التقسيم الطبقي للتعليم، هو تكريس إعادة الإنتاج. كما أنها جففت منابع التطور وشروطه من المدارس الإسلامية التي كانت قائمة، وعزلتها عن واقعها، وفصلت بينها وبين العلوم البحثة، وأضحى التعليم مزدوجا، تعليم ديني وتعليم عصري رسمي أو نظامي، وتعمقت الهوة بين التعليم الديني والعصري وورثت المدرسة المغربية النظامية هذه الازدواجية. إضافة إلى أنها علمنت التعليم وكانت سببا في ظهور سردية ستعرف فيما بعد بالمادة الحاملة للقيم في مقابل المادة الحاملة للمعرفة، وعلى رأس هذه المواد الحاملة للقيم مادة التربية الإسلامية.

وهي تحمل هذه التداعيات الاستعمارية خطّت مادة التربية الإسلامية مسارها في البحث عن الذات، مرورا بمجموعة من المراحل والإصلاحات التي حققت من خلالها خصوصيتها الابستيمولوجية وبيداغوجية والديداكتيكية، وفي ما يأتي أهم هذه المراحل:

1 / مرحلة التدريس بالضامين والمحتويات

بعد الاستقلال كانت المادة تحت مسمى الفكر الإسلامي، في سياق محموم بالصراعات الإيديولوجية حول معالم الهوية المغربية، فكان لابد من وجود المادة في المناهج، باعتبارها حصنا لحماية خصوصية المجتمع المغربي، وأداة للمحافظة على هويته الحضارية والوطنية، في مجتمع حديث عهد بالاستقلال يعرف للوطنية قيمتها، حتى إن وزارة التربية والتعليم كانت تسمى وزارة التهذيب والوطنية، وسمي أقدم كتاب مدرسي للتربية الإسلامية التي كانت  تُدرس آنذاك ضمن كتب مادتي التربية الوطنية أو اللغة العربية باسم التربية الوطنية والذي كان من تأليف إبراهيم حركات وطبع دار السلمى سنة 1957م.[9]

واجهت المادة عدة مشاكل من قبيل عدم استقلاليتها وضعف مناهجها ومعاملها، وعدم ملاءمة دروسها للواقع وللحاجات الدينية الملحة لدى المتعلم، فقد أدرجت “في مرحلة أولى في شكل مادة اختيارية يغلب عليها الطابع التعليمي لمواد التعليم العتيق، موكولة إلى اللغة العربية واعتبرت من بين دروس اللغة العربية فكانت رافدا مهما تلتقي مع بقية المواد في الإنشاء، وكان نصيبها نصف حصة في الأسبوع أي ما يعادل خمسة عشرة حصة في السنة كلها كحد أقصى. وكان يدرسها أساتذة من غير الاختصاص”.[10]

ومن بين الدروس التي كانت تقدم في التعليم الابتدائي هذه المرحلة، ما يوجد في كتاب التربية الوطنية للقسم الابتدائي الثاني وهي: الأسرة، احترام الأبوين ومساعدتهما، معاملة الإخوان والأخوات والأقارب، المدرسة، المدير، المحافظة على القوانين المدرسية، العلم، معاملة الرفاق، المفتش وخلفاؤه، الشارع، المحافظة على نظافة الشارع ..تعظيم الله، الوطن، الملك، العلم المغربي، الحكومة المغربية.[11]

في سنة 1976م تقرر تدريسها في جميع الأقسام ما عدا الشعب العلمية والتقنية وتم تخصيص حصة كاملة لها (ساعة في الأسبوع) وذلك ابتداء من موسم 1976/ 1977م. وتم تعميم ساعة واحدة لكل الأقسام في الإعدادي والثانوي وكل الشعب في فترة لاحقة، وأدرجت في الامتحانات ما عدا امتحان البكالوريا، وأعطي لها معامل واحد بناء على المذكرة 215 الصادرة بتاريخ 16 نونبر1976م إلا أنها لم تكن تدرج في تقرير مجلس التوجيه في السنة الرابعة والخامسة. [12] وكانت المادة في هذه المرحلة تفتقر للأهداف العامة وكانت موضوعاتها فكرية عامة ذات حمولة فلسفية أو أخلاقية بعيدة عن اهتمامات المتعلم.

وفي كتاب التربية الإسلامية لسنة 1977م والذي كان موجها للسنة الثالثة من التعليم الثانوي، كان يضم أكثر من أربعين درسا ووصفها الأستاذ الحاجي بالتنوع والكم المعرفي.[13]

في سنة 1980م عرفت التربية الإسلامية نقطة تحول، حيث كلفت الوزارة مجموعة من المختصين بالدراسات الإسلامية والمهتمين بالشؤون التربوية بوضع كتاب مدرسي للمادة، وأدرجت شعبة الدراسات الإسلامية في الجامعة ابتداء من نفس السنة، مع تعميمها في سائر كليات الآداب والعلوم الإنسانية، وإحداث شعبة الدراسات الإسلامية بالمراكز والمدارس العليا وكلية علوم التربية، فساعدت هذه القرارات على تحسين وضعية المادة، حيث ظهر تأطير وتكوين أساتذة أكفاء متخصصين في تدريس التربية الإسلامية، وفق أحدث الطرق التي أقرتها علوم التربية. وقد تم اعتماد التقسيم الثلاثي للدروس وهي العقائد والعبادات والأخلاق.[14]

عرفت المرحلة على المستوى الاقتصادي أزمة خانقة شهدتها البلاد ورافقها إصلاح يعرف بالمخطط الخماسي الرابع، ووصف وضعها المكي المروني بالوضع المتردي على المستوى الاجتماعي.[15] وهي نفسها المرحلة التي أصدرت فيها الوزارة ميثاقا وطنيا للتعليم، وتبنت استراتيجية محو الأمية، وبدأ تدخل البنك الدولي في السياسة التعليمية بما سمي بالتقويم الهيكلي، واعتمدت الحكومة سياسة التقليص من ميزانية القطاع التعليمي، وبداية التأسيس لمرحلة جديدة تمكن للتعليم الخاص، لكن مادة التربية الإسلامية عرفت تقدما على المستوى الديداكتيكي، إذ أضحى جل مدرسيها من أهل الاختصاص، بخلاف ما كان سائدا بشكل تنتج عنه انزلاقات بيداغوجية مضرة.

2 / من المضامين والمحتويات إلى بيداغوجيا الأهداف

دخلت المادة في إطار الإصلاح الشامل لسنة 1985م منعطفا آخر، سواء على مستوى الوثائق التربوية أو الخبرة المتخصصة أو على مستوى تحقيق التوافق بين الإطار المرجعي والاختيارات المنهجية والتوجيهات التربوية، وبين أولويات واختيارات المجتمع، أو على مستوى زيادة حصصها، وهي المرحلة التي انتقل فيها المغرب إلى العمل ببيداغوجيا الأهداف ذات النزعة البراغماتية، والمستمدة من النظريات السلوكية.

في هذا الاتجاه، عمد القائمون على تنظيم المادة وإعادة هيكلتها؛ إلى حمل مفهوم التربية الإسلامية على المفهوم العام للمعرفة الإسلامية، فوضعوا لها مكونات تختص بالقرآن الكريم والحديث الشريف وتمتد لتشمل مختلف العلوم الشرعية؛ باعتبارها مجالات أساس في المعرفة الشرعية،كما سطّروا لها أهدافا عامة وأخرى خاصة.

بدأت في سنة 1986م مرحلة التدريس بالمكونات وفق بيداغوجيا الأهداف، تتويجا للإصلاح السالف، وأُعلنت مادة التربية الإسلامية مادة مستقلة بشكل رسمي ضمن المنهاج الدراسي، بكتاب مدرسي مقرر، وفي السنة الدراسية 1987م 1988م تم إدماج المادة ضمن مواد امتحان البكالوريا في سياق نظامها الجديد، لكن المادة شابها ضعف على المستوى الديداكتيكي مما كرس تبعيتها للمادة الحاضنة لها سابقا وهي اللغة العربية.[16] وهي المرحلة نفسها التي انطلق معها التدريس وفق المكونات، ويقصد بالمكونات المباحث الشرعية باعتبارها مجالات أساس في المعرفة الشرعية، يتعلق الأمر بمكون القرآن الكريم ومكون الحديث الشريف والأخلاق و العقيدة والعبادات والمعاملات.

صدر عن المادة وثيقة البرامج والتوجيهات التربوية بالسلك الثاني من التعليم الأساسي لسنة 1990م، والتي وضعت الأهداف العامة للمادة على غرار بقية المواد، وتنزيلا لبيداغوجيا الأهداف صنفت هذه الأهداف حسب مستويات ثلاث: الهدف المعرفي والوجداني والسلوكي. وحددت مكونات وحدة المادة المتمثلة في القرآن الكريم والحديث الشريف والعقائد والعبادات والأخلاق والسيرة، ووضعت لكل مكون أهدافه النوعية، ثم حددت الأهداف الإجرائية.[17]  وكانت وثيقة التوجيهات التربوية هذه بمثابة منهاج، لكنها لم تُعد منهاجا بالمعنى الخاص.

أعقبت هذه الوثيقة الأيام التربوية لفائدة الأساتذة العاملين في السلك الثاني من التعليم الأساسي، وتضمن وثائق تربوية خاصة بمادة التربية الإسلامية سنة 1991م، عالجت إشكالية دور الكتاب في التدريس وعرفت بالبرنامج والتوجيهات ومنهجية تدريس القرآن الكريم وفصل في الحديث عن بيداغوجيا الأهداف وقدمت بعض النماذج لجذاذات نمطية حسب البيداغوجيا، وقدمت درسا تجريبيا عن صلاة “القصر” وختمت بأساليب التقويم والاختبار.[18]

في سنة 1996م صدر عن قسم البرامج والمناهج والوسائل التعليمية منهاج خاص بالمادة، وهو منهاج التربية الإسلامية بالتعليم الثانوي، الذي جاء مسايرة للمستجدات التربوية التي عرفتها الساحة التعليمية، وتضمنت مفردات البرامج وتوزيعها على سنوات التعليم الثانوي الثلاث، وعرفت مكونات وحدة التربية الإسلامية وأهدافها النوعية وأسس ومنطلقات هذه البرامج، كما تضمنت “الكراسة” المنهجية العامة لتدريس المادة على مستوى  التخطيط والتصميم ثم على مستوى التنفيذ والإنجاز، مع اقتراح منهجية عامة كذلك لتدريس نصوص المطالعة والاستثمار. وكانت مكونات هذه المرحلة خمسة وهي: العقائد وعلوم القرآن الكريم وعلوم الحديث الشريف والأحوال الشخصية (الميراث) وفقه السيرة ثم الأخلاق.[19]

هذه المرحلة يمكن اعتبارها مرحلة استقلال حقيقي للمادة، تجلى في تجاوز التدريس بالمضامين والمحتويات وبداية العمل بالمكونات وفق بيداغوجيا الأهداف، هذه البيداغوجيا التي يحسب لها أنها أخرجت العملية التعليمية التعلمية من العشوائية إلى التدريس الهادف، كما يحسب عليها أنها تعاملت مع المدرسة بمنطق المقاولة وركزت على التعليم بدل التعلم. كما يعاب عن هذه المرحلة أن منطق المكونات فيها افتقر للانسجام ذلك “أن كل مكون مستقل بذاته عن باقي المكونات شكلا ومضمونا، وكأننا أمام مواد دراسية عوض مكونات، ولا يوجد أي رابط بين هذه المكونات، مما كان يطرح إشكالات ابستيمولوجية وديداكتيكية أثناء معالجة مفردات المقررات وتنفيذ المنهاج.[20]

3/ مرحلة التدريس بالوحدات والمجزوءات والمداخل وتبني مقاربة الكفايات:  من ميثاق 2000م إلى منهاج 2016م

تبنت المنظومة التربوية مقاربة الكفايات ولم تقطع مع الأهداف بل بقيت هذه المقاربة جزءا من عملية التعليم والتعلم، إلا أنها تجاوزت نقائص هذه المقاربة واعتمدت مدخل القيم كمنطلق أساس لبناء الشخصية المتوازنة والمتشبعة بثقافتها وهويتها الحضارية، كما أعادت هذه المقاربة الاعتبار للمتعلم وجعلته محور العملية التعليمية التعلمية، وفتحت له المجال للتعلم الذاتي عبر الأنشطة الموازية، وتوجه تعليم التربية الإسلامية في مرحلة ما بعد الميثاق إلى التدريس بالوحدات والمجزوءات بدل المكونات (تم الاحتفاظ بالمكونات في الابتدائي فقط)، وتم تطعيم الكتاب المدرسي بصور ورسوم داعمة للتعلم مرتبطة بواقع المتعلمين.

أعقب هذه المرحلة أحداث عجلت بتأطير الشأن الديني، وإخضاعه لمزيد من الرقابة والتوجيه، يتعلق الأمر بأحداث 11 شتنبر 2001م التي استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية، وأحداث الدار البيضاء الإرهابية في 16 ماي سنة 2003م والتي استهدفت فندق فرح وأودت بحياة مجموعة من المدنيين.

أحداث لا يمكن تجاوزها، لتأثيرها في توجيه مسار الإصلاح الديني، سيما أنها خلفت ردود أفعال لا يزال صداها ممتدا إلى يومنا هذا، بين استغل الفرصة لربط الإسلام بالإرهاب والتطرف، فحارب بموجب ذلك كل ما يمت للإسلام بصلة، وبين من رأى ضرورة مراجعة البرامج والمناهج الدراسية المرتبطة بالشأن الديني.

ألقى عقب هذه الأحداث وردود الأفعال المتباينة، الملك محمد السادس حفظه الله يوم 10 ربيع الأول 1425،الموافق لـ 30 أبريل 2004 بالدار البيضاء، خطابا ساميا، أمام المجلس العلمي الأعلى والمجالس العلمية الإقليمية، تناول فيه أمره السامي بإعادة هيكلة الحقل الديني. أما ما يخص المناهج والبرامج الدراسية فيقول الخطاب الملكي “وعلما منا بأن الوظائف التأطيرية المنوطة بهذه الهيئات، ستظل صورية، ما لم تقم على الركن الثالث الأساس، المتمثل في التربية الإسلامية السليمة، والتكوين العلمي العصري، فإننا، مواصلة للجهود الرائدة التي بذلها والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، قدس الله روحه، نصدر تعليماتنا لحكومتنا، قصد اتخاذ التدابير اللازمة، بأناة وتبصر، لعقلنة وتحديث وتوحيد التربية الإسلامية، والتكوين المتين في العلوم الإسلامية كلها، في نطاق مدرسة وطنية موحدة. وفي هذا السياق، حرصنا على تأهيل المدارس العتيقة، وصيانة وحفظ القرآن الكريم، وتحصينها من كل استغلال أو انحراف يمس بالهوية المغربية، مع توفير مسالك وبرامج للتكوين، تدمج طلبتها في المنظومة التربوية الوطنية، وتجنب الفكر المنغلق، وتشجيع الانفتاح على الثقافات”.[21]

أصدرت الوزارة على إثر ذلك التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة التربية الإسلامية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي في نونبر 2007م، ثم بعدها توجيهات خاصة بالثانوي الإعدادي سنة 2009م، ووضعت الوثيقة بين يدي الفاعلين التربويين المنطلقات العامة للإصلاح والمواصفات المرتبطة بالمتعلمين، والأهداف الأساسية، وبينت الأسس البيداغوجية والديداكتيكية التي بنيت عليها البرامج، والمفاهيم الأساسية لمكونات مادة التربية الإسلامية، ونوعت في الدروس بين النظري والتطبيقي والأنشطة إضافة إلى التقويمات، وحددت كفايات المنهاج الأساس والكفايات النوعية المرتبطة بكل مستوى تعليمي، ثم المهارات الأساسية وختمت بالحديث عن التقويم والوسائل التعليمية والدعامات البيداغوجية”.[22]

وقد ترجمت الكتب المدرسية هذه التوجيهات التربوية، ففي مقرر الثانوي التأهيلي، اعتمد الكتاب وحدتين:

ـ وحدة التربية الاعتقادية: وتغطي الدورة الأولى كاملة، وتضم ستة عناوين دروس، تحت كل عنوان درس نظري تخصص له ساعتان ودرس تطبيقي ساعة واحدة ونشاط تعليمي تعلمي تخصص له ساعتان.

ـ وحدة التربية التعبدية: وتضم كذلك ستة عناوين دروس، تحت كل عنوان درس نظري تخصص له ساعتان ودرس تطبيقي ساعة واحدة ونشاط تعليمي تعلمي تخصص له ساعتان.[23]

استمر العمل بتلك التوجيهات إلى حين صدور أول منهاج للمادة يعتمد المداخل باعتبارها مقاربات سيكوبيداغوجية، وهو منهاج التربية الإسلامية لسنة 2016م، ويعتبر هذا المنهاج تجسيدا لاستقلالية المادة بيداغوجيا، مستفيدا ديداكتيكيا من التراكمات التي حققتها المادة عبر تاريخ تدريسها، وهو أول منهاج يقدم تعريفا للمادة بأنها “مادة دراسية تروم تلبية حاجات المتعلم (ة) الدينية التي يطلبها منه الشارع، حسب سيروراته النمائية والمعرفية والوجدانية والأخلاقية وسياقه الاجتماعي والثقافي. استنادا إلى المبدأ: ضرورة الاستجابة للحاجات الدينية الحقيقية، والغاية: اكتساب القيم الأساسية للدين المتمركزة حول قيمة “التوحيد”،  والمداخل: “التزكية” و”الاقتداء” و”الاستجابة” و”القسط” و”الحكمة”.[24]

وعلى سبيل الختم نقول إن التربية الإسلامية أعطت ولا تزال، وكانت ولا تزال الحصن المنيع الذي يحفظ للأمة خصوصيتها الثقافية، والمناعة التي تصون الأسرة المغربية من التفكك، والصخرة الصلبة التي تتحطم عليها كل أحلام المستعمر وأذنابه، ومحاولاته المستمرة لسلخ الأمة عن هويتها، والمادة التي تقدم للمتعلم النموذج المعرفي المتكامل للإسلام، والمنظار الذي ينظر من خلاله لعلاقته بالله والنفس والغير، والبوصلة التي توجه النظر للكون والإنسان والمصير وتحفظه من التيه والعدمية، من هنا كان من المفيد للوطن الاعتناء بالمادة،  وتقديم يد العون لكل من يقوم بخدمتها، ولا يفوتني في خاتمة هذا البحث أن أتقدم للجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية بالشكر الجزيل على قيامهم بهذه المهمة النبيلة، والله ولي التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

لائحة المصادر والمراجع

  1. أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي، خالد الصمدي وغيره، ضمن حوارات القرن الجديد، دار الفكر، دمشق الطبعة الآولى 2007م.
  2. الإصلاح التعليمي بالمغرب 1956م 1994م، منشورات كلية الآداب الرباط، الطبعة الأولى 1996م.
  3. أضواء على مشكل التعليم لمحمد عابد الجابري، دار النشر المغربية الدار البيضاء، الطبعة الأولى سنة 1973م.
  4. أوجه تكامل وانسجام مداخل مادة التربية الإسلامية بين الرؤية المنهاجية والتنزيل الديداكتيكي دراسة نظرية ميدانية للأستاذين: بوبكر كميري وكريت الجيلالي. مطبعة أنفوـ برانت، الطبعة الأولى 2019م.
  5. البرامج والتوجيهات الخاصة بمادة التربية الإسلامية، المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مطبعة المعارف الجديدة 1990م.
  6. تاريخ التربية الإسلامية لأحمد شلبي، دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، 1954م.
  7. التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة التربية الإسلامية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي في نونبر 2007م، عن مديرية المناهج، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي.
  8. جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، دار نشر المعرفة الطبعة الثانية 2000م الرباطـ ـ المغرب.
  9. جذور المدرسة العصرية في مغرب الحماية، 1912/1938م، مقال البشير تامر ضمن كتاب المدرسة المغربية، المدرسة والديمقراطيةـ العدد 7/8 نونبر 2017م، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي.
  10. مداخل منهاج التربية الإسلامية من التصور الابستمولوجي إلى التوظيف الديداكتيكي: دراسة نظرية ميدانية للأستاذين الكاتبين، المهدي رامي وحسن بوحبة، مطبعة آنفو، الطبعة الأولى 2019م..
  11. مسار التربية الإسلامية من خلال كتبها المدرسية منذ 1957 إلى تعديلات 2016م، دراسة وتوثيق ومقارنة نماذج، لعبد الوهاب الحاجي، مركز مداد، الطبعة الثانية، سنة 2020م.
  12. مقرر الجذع المشترك، في رحاب التربية الإسلامية للتعليم التأهيلي للآداب والعلوم الإنسانية والعلوم والتكنولوجيا، تأليف الدكتور توفيق الغلبزوري والدكتور مصطفى الصمدي، تمت المصادقة عليه في يونيو 2009م، وطبعته الدار العالمية للكتاب ومكتبة السلام الجديدة في نفس السنة.
  13. منهاج التربية الإسلامية بالتعليم الثانوي، قسم البرامج والمناهج والوسائل التعليمية، المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية مديرية التعليم الثانوي، مطبعة المعارف الجديدة، 1996م.
  14. منهاج التربية الإسلامية بسلك التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي العمومي والخصوصي المملكة المغربية وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني مديرية المنهاج يونيو 2016م.
  15. وثيقة الأيام التربوية، المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية مديرية التعليم الثانوي قسم البرامج، مطبعة المعارف الجديدة 1991م.
  16. La renaissance du Maroc, Dix ans de protectorat 1912/1922, Dessins de Henri Avelot et autres, résidence général de la république française au Maroc, Rabat, Paris, 21, Rue des Pyramides.
  17. À propos de l’ouvrage de: Pierre Vermeren, École, élite et pouvoir
  18. Pierre Giraudbit, 2003. Https://journals.openedition.org/cres/1544?Lang=en
  19. الخطاب الملكي، موقع وزارة الأوقاف، http://www.habous.gov.ma/2012-01-26-16-08-52/801-

 

 

[1]  تاريخ التربية الإسلامية لأحمد شلبي، دار الكشاف للنشر والطباعة والتوزيع، 1954م، ص20.

[2]  La renaissance du Maroc, Dix ans de protectorat 1912/1922, Dessins de Henri Avelot et autres, résidence général de la république française au Maroc, Rabat, Paris, 21, Rue des Pyramides, Page 198.

[3] أضواء على مشكل التعليم لمحمد عابد الجابري، دار النشر المغربية الدار البيضاء،  الطبعة الأولى سنة 1973م  ص11، وانظر كذلك الإصلاح التعليمي بالمغرب 1956م 1994م، منشورات كلية الآداب الرباط، الطبعة الأولى 1996م. ص15.

[4] À propos de l’ouvrage de: Pierre Vermeren, École, élite et pouvoir

Pierre Giraudbit, 2003.  Https://journals.openedition.org/cres/1544?Lang=en

[5] جذور المدرسة العصرية في مغرب الحماية، 1912/1938م، مقال البشير تامر ضمن كتاب المدرسة المغربية، المدرسة والديمقراطيةـ العدد 7/8 نونبر 2017م، المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي. ص31.

   [6] La renaissance du Maroc Dix ans de protectorat 1912 /1921 Page   202.

[7]  جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، دار نشر المعرفة الطبعة الثانية 2000م الرباطـ ـ المغرب، ج3 ص767.

[8] أزمة التعليم الديني في العالم الإسلامي، خالد الصمدي وغيره، ضمن حوارات القرن الجديد، دار الفكر، دمشق الطبعة الآولى 2007م ص20.

[9]  مسار التربية الإسلامية من خلال كتبها المدرسية منذ 1957 إلى تعديلات 2016م، دراسة وتوثيق ومقارنة نماذج، لعبد الوهاب الحاجي، مركز مداد، الطبعة الثانية، سنة 2020م، ص18.

[10]  مداخل منهاج التربية الإسلامية من التصور الابستمولوجي إلى التوظيف الديداكتيكي: دراسة نظرية ميدانية للأستاذين الكاتبين، المهدي رامي وحسن بوحبة، مطبعة آنفو، الطبعة الأولى 2019م. ص29.

[11]  مسار التربية الإسلامية من خلال كتبها المدرسية، ص19.

[12]  مداخل منهاج التربية الإسلامية من التصور الابستمولوجي إلى التوظيف الديداكتيكي، ص30.

[13]  مسار التربية الإسلامية ص44 و45.

[14]  مداخل منهاج التربية الإسلامية من التصور الابستمولوجي إلى التوظيف الديداكتيكي، ص31.

[15]  انظر الإصلاح التعليمي، ص202.

[16]  مداخل منهاج التربية الإسلامية من التصور الابستمولوجي إلى التوظيف الديداكتيكي، ص31.

[17]  البرامج والتوجيهات الخاصة بمادة التربية الإسلامية، المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية، مطبعة المعارف الجديدة 1990م، ص 3و6.

[18]  وثيقة الأيام التربوية، المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية مديرية التعليم الثانوي قسم البرامج، مطبعة المعارف الجديدة 1991م ابتداء من ص4.

[19]  منهاج التربية الإسلامية بالتعليم الثانوي، قسم البرامج والمناهج والوسائل التعليمية، المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية مديرية التعليم الثانوي، مطبعة المعارف الجديدة، 1996م، ص4 وما بعدها.

[20]   أوجه تكامل وانسجام مداخل مادة التربية الإسلامية بين الرؤية المنهاجية والتنزيل الديداكتيكي دراسة نظرية ميدانية للأستاذين: بوبكر كميري وكريت الجيلالي. مطبعة أنفوـ برانت، الطبعة الأولى 2019م. ص25.

[21]   انظر الخطاب الملكي، موقع وزارة الأوقاف، http://www.habous.gov.ma/2012-01-26-16-08-52/801-

[22]  التوجيهات التربوية والبرامج الخاصة بتدريس مادة التربية الإسلامية بسلك التعليم الثانوي التأهيلي في نونبر 2007م، عن مديرية المناهج، وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي. ص4 وما بعدها.

[23]  مقرر الجذع المشترك، في رحاب التربية الإسلامية للتعليم التأهيلي للآداب والعلوم الإنسانية والعلوم والتكنولوجيا، الذي تمت المصادقة عليه في يونيو 2009م وطبعته الدار العالمية للكتاب ومكتبة السلام الجديدة في نفس السنة، وهو من تأليف الدكتور توفيق الغلبزوري والدكتور مصطفى الصمدي.

[24]  منهاج التربية الإسلامية بسلك التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي العمومي والخصوصي المملكة المغربية وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني مديرية المنهاج يونيو 2016م.  ص7.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M