مشاعر من مقبرة!!

18 سبتمبر 2025 20:23

هوية بريس – عبد الحميد بنعلي

حضرت قبل يومين جنازة لرجل من الجيران رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته.

وفي تلك المقبرة المتواضعة التي ليس على قبورها كتابات، أو بناء، أو أي أشكال من الزخارف والورود والنباتات (وهكذا يجب أن تكون القبور لأن مقصودها التذكير بالاخرة لا الترغيب في الدنيا).

ازدحمت في قلبي المشاعر وأنا أتأمل تلك القبور المكشوفة، فيها الشباب والشيبان، الكبار والصغار، الذكور والإناث، الأصحاء والمرضى.

الموت لا يفرق بين أجناس بني آدم أو أحوالهم، إنه يجهز على من حل أجله كيفما كان حاله وسنه وجنسه، حتى ليظن الغر أن الأمر كما قال زهير بن أبي سُلمى:

رأيت المنايا خبط عشواءَ من تصب
تمتهُ ومن تخطئ يعمر فيهرمِ

والشاعر غير صادق فيما ذكر، فلا عشوائية في عمل الموت، بل هي آجال موقوتة، لكنه يكشف الموت على حقيقته وطبيعته، وهذا يجعلك أيها الإنسان لا تأمنه، ويجرك إذن إلى الاستعداد له حتى تعيش كما قال عبد الله بن عمر: “إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك”.

بين تلك القبور وأصحابها: تتصاغر الآمال، وتقصر الآجال، فالحياة مهما طالت فهي قصيرة، ففي المقبرة من عمّر وتجاوز المائة، وهاهو اليوم متوسد للثرى رهين بعمله وما كسبته يداه، وما دامت الشمس تشرق عليك وتغرب فذلك لا يعني الا نقصان عمرك، وأفول شبابك، وقرب موتك، والمسافر ما دام سائرا فهو واصل لا محالة ولو كان بطيئا في سيره.

هدوء المقبرة يبعث في نفسك السكينة والطمأنينة، تكاد ترى -لولا غلظ الحجاب- الموتى وهم منعمون في قبورهم، قد أنجاهم التوحيد من مصائر المشركين، ويبقى الحساب في يد أرحم الراحمين، والخطب فيه يسير إن شاء الله {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز}.

هذا الهدوء يجعلك تستروح للموت، وتشتاق له، ولولا ما جاء من النهي عن تمنيه لتمنيتَه، ولولا أن طول العمر فيه خير للمؤمن لزيادة عمله لكان مشروعا أن يدعى بتقصيره.

لو كُشف الحجاب لزائر المقابر لعلم ما هو فيه من غبن فاحش حيث يفني كل يوم عمره في غير فائدة، (جلوس في المقاهي بالساعات، وتسمر طويل أمام الشاشات، والخوض فيما لا يبلغه علمه، والاغترار بالآمال وطول الآجال، والمنافسة الشرسة على دنيا فانية وحطام زائل) كل هذا وهو موقن بقدومه الحتمي على الموت، وأنه سيكون رهينة عمله وما قدمته يداه، وسوف يظل في قبره أحقابا من الزمن قد تصل ملايين السنين {ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}.

في المقبرة يا عزيزي: تدرك أن الغني حقاً ليس من جمع الدنيا لوارث، أو كان ذا منصب دارث، إنما الغني حقا من اصطحب معه زادا لا ينفد يكون معه في قبره إلى يوم البعث، قرآن ينير قبره، وقيام ليل يضيء وجهه، وصدقات تفسح قبره، وأعمال صالحة تثقل ميزانه، وما سوى ذلك فلهو ولعب ومتاع الغرور.

كما ستدرك -وأنت ترمي ببصرك نحو الشمال واليمين بين مقابر الموتى-.

لماذا حقر القرآن الكريم من شأن هذه الدنيا، وكيف سفه أحلام الذين اطمأنوا بها وغفلوا عن مصائرهم، كيف آثروا الفاني على الباقي، والعاجل على الآجل، إنهم حقا في ظلام دامس، وفي غيهم يعمهون {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون}.

وحين قربت من الوصول إلى باب المقبرة مودعا أهلها أشفقت على حال (الظلمة)، فكل موحد يرجى له الخير وترجى له النجاة إلا الظالمين، كيف غفلوا عن هذا المصير، كيف باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، كيف اطمأنوا الى حلم الله وإمهاله ونسوا أن الله تعالى لا يغفل عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم لهذا اليوم حيث تشخص أبصارهم ويحل أجلهم، فما أشد غفلتهم، وأما أظلمهم لأنفسهم.

ركبت سيارة صديقي والمشاعر تتزاحم على قلبي، وفجأة انتابني شعور أهل غزة العزل وهم يُذبحون ويبادون بدون ذنب ولا خطيئة إلا أن يقولوا ربنا الله، هناك همست في أذن صاحبي: “تالله ما نعم بالموت مثل من قتل في سبيل الله، تالله ما يستوي عند الله من مات على فراشه، ومن مات في ساحته، من مات في سبيل الدنيا، ومن مات في سبيل الآخرة”.

بصرني الله وإياكم بحقيقة الدنيا قبل فوات الأوان، وأطال الله في أعمارنا على طاعته وبلوغ مرضاته، وختم لنا بالحسنى. اللهم آمين، اللهم صل على محمد وآله.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
14°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة