مشروعية المسح على الجوربين المعاصرين
هوية بريس – د.محمد بولوز
الناظر في المسح على الخفين يجد أنه لا يمس غير فئة قليلة جدا ممن يحاولون جاهدين إحياء بعض مظاهر حياة السلف من حيث الشكل، فيلبسون الخف لا باعتباره عادة اجتماعية طبيعية، وإنما قصدهم في ذلك إحياء سنة المسح، وخروجا من حرج بعض المواقف الفقهية التي ترفض تجويز المسح على الجوربين اللذين عم استعمالهما أمم الأرض، وإلا فإنه لا تخفى صعوبة استعمال الخفاف مع مقاسات الأحذية المعاصرة والتي لا يبقى بينها وبين جلد الرجل غير ما يسع ثوب الجوربين.
وأول ما ينبغي تحريره قبل الدخول في النقاش الفقهي هو معاني الألفاظ ، حتى نتكلم لغة واحدة ونعرف ما تيسر عن مواطن تنزيل النصوص والأحكام. فما كان يتداول الناس لباسه في أرجلهم زمن النبوة كثير ومتنوع، أو هو غني في ألفاظه، وإن كان أحيانا يعبر عن معنى واحد أو متقارب، فنجد الخفين والنعلين والجرموقين والموقين والجوربين والتساخين…
قال ابن العربي في عارضة الأحوذي:”الخف: جلد مبطن مخروز يستر القدم كلها” وفي الموسوعة الفقهية الكويتية: الخف: ما يلبس في الرجل من جلد رقيق وجمعه أخفاف.
وقال ابن العربي في المرجع السابق:”والموق: جلد مخروز لا بطانة له” وقال الخطابي هو خف قصير الساق. وجاء في مسند الامام أحمد عن بلال رضي الله عنه قال:” رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الموقين والخمار” قال ابن حجر في الفتح :الموق:هُوَ الْخُفّ , وَقِيلَ مَا يُلْبَس فَوْق الْخُفّ .
والجرموق: خف قصير الساق، عند بعضهم وفي قول آخر: خف على خف” ويقصد بمخروز أنه ليس قطعة واحدة وإنما هو مخيط وليس مجموع الأجزاء يلزق بعضها ببعض، وفي الموسوعة الفقهية: الجرموق بضم الجيم والميم فارسي معرب وهو شيء يلبس فوق الخف لشدة البرد ، أو حفظه من الطين وغيره ، ويكون من الجلد غالبا ، ويقال له الموق أيضا ، والجمع جراميق . وفي اصطلاح الفقهاء هو خف فوق خف وإن لم يكن واسعا .وقد فسره مالك : بأنه جورب مجلد من تحته ومن فوقه.
وقال ابن العربي في الجورب هو: “غشاء من صوف يتخذ للدفء وهو التسخان أو أحد معانيه.” وخلص صاحب تحفة الأحوذي عن الجورب بعد استعراض جملة من الأقوال إلى أن الجورب:لفافة الرجل من أي شيء كان، من صوف أو شعر أو جلد أو غير ذلك. وأورد الألباني بسند جيد أن أنس بن مالك “مسح على جوربين أسفلهما جلود وأعلاهما خز” وفي الموسوعة الفقهية: الجورب ما يلبس في الرجل تحت الحذاء من غير الجلد . وجاء في سنن أبي داود بسنده عن ثوبان قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين” والتساخين الخفاف والجوارب.
وفي الذخيرة للقرافي”كان مالك يقول: يمسح على الجرموقين أسفلهما جلد يبلغ موضع الوضوء مخروز ثم رجع عن ذلك، قال صاحب الطراز: والجرموقان على ظاهر الكتاب: الجوربان المجلدان، قال ابن حبيب: هما الخفان الغليظان لا ساق لهما وهذا الذي قاله ابن حبيب هو المعروف ونقل ابن بشير هما خف على خف”
قال ابن العربي في عارضة الأحوذي:” و الذي عندي أن الخف و الجرموق و الجلد المخروز و الجورب المخروز عليه بجلد يجوز المسح على ذلك كله لأنه خف أو في معنى الخف من كونه جلدا مخروزا يوضع على القدم يسترها الي الكعبين، و أما المسح على النعلين “فإنما المعنى فيه أن الجوربين اذا كانا مخروزين الي الكعبين كانا شبيهين بالنعلين فهو جورب باصله كالنعل بما انضاف اليه من الجلد المخروز .”
ومن خلال هذه النصوص وغيرها يظهر التداخل الجلي بين معنى الجورب وغيره مما كان يلبس زمن عصر النبوة والسلف الأول، وأخشى أن نتداول الكلام اليوم في لفظ يختلف معناه بين زماننا وزمان أسلافنا، فالجورب عندنا معروف من ثوب أو من كتان أو قطن أو صوف أو ما في حكم هذه الأشياء، ولا علاقة له بالجلد لا من فوقه أو تحته.
انتهينا لحد الأن من جهة المعنى إلى المباينة الواضحة والفرق البين بين معنى الجوارب قديما والجوارب كما هي معروفة عندنا، فلا يصلح محاكمة هذه إلى تلك والتقيد بشروط الأولى لتجويز أو منع المسح عليها، كما ويظهر لي والله أعلم أن الجوارب كانت أقل تداولا يومئذ، والمعروف المشهور هي الخفاف وما في حكمها وغالبها من الجلد، وتتخذ أيضا للمشي فيها على الرمال أثناء السفر أو نحو ذلك، وهي قريبة من أحذيتنا اليوم وخصوصا منها ما يتجاوز في لبسه الكعبين إلا ما كان من استثناء أسفلها، حيث كان قطعة جلد كما هو الشأن بظاهرها.
وفهمت هذه القلة من قول الباجي في المنتقى:” :” نسَاءَ الْعَرَبِ لَمْ يَكُنْ مِنْ زِيِّهِنَّ خُفٌّ وَلَا جَوْرَبٌ كُنَّ يَلْبَسْنَ النِّعَالَ أَوْ يَمْشِينَ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَقْتَصِرْنَ مِنْ سَتْرِ أَرْجُلِهِنَّ عَلَى إرْخَاءِ الذَّيْلِ” فإذا كان لبس الجوارب في النساء قليل وهن من ” يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ” أي ينبتن ويربين في الزينة وما يقدرن عليه من تنويع الثياب وما يلبس في الأقدام، فما بالك بحال معظم الرجال، ولهذا لا يستغرب ندرة ورود لفظ الجوربين في أحاديث المسح، وإنما الوارد الخفاف لشهرتها وخصوصا عند الرجال.
يتأكد من خلال ما مر بما فيه بيان الفرق بين معنى الجورب قديما وحديثا ذلك أن المجيزين من الفقهاء للمسح على الجوربين بما وضعوه من شروط، تكاد لا ينطبق منها شيء على جوارب اليوم، فمنهم من يشترط صلاحيتها للمشي فيها أي من غير نعل أو حذاء معها، ومنهم من يشترط أن لا يصل شيء من ماء المسح عليها إلى القدمين، بما يفرض أن تكون خفا من جلد أو قريبا من ذلك. ولهذا فالحكم عند جمهورهم هو المنع إذا تعلق الأمر بمثل جواربنا.
يقول ابن رشد رحمه الله في بداية المجتهد:” واختلفوا في المسح على الجوربين فأجاز ذلك قوم ومنعه قوم، وممن منع ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وممن أجاز ذلك أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وسفيان الثوري، وسبب اختلافهم في صحة الآثار الواردة عنه عليه الصلاة والسلام أنه مسح على الجوربين والنعلين واختلافهم أيضا في هل يقاس على الخف غيره أم هي عبادة لا يقاس عليها ولا يتعدى بها محلها؟ فمن لم يصح عنده الحديث أو لم يبلغه ولم ير القياس على الخف قصر المسح عليه، ومن صح عنده الأثر أو جوز القياس على الخف أجاز المسح على الجوربين. وهذا الأثر لم يخرجه الشيخان أعني البخاري ومسلم وصححه الترمذي.
ولتردد الجوربين المجلدين بين الخف والجورب غير المجلد عن مالك في المسح عليهما روايتان إحداهما بالمنع والأخرى بالجواز (والمجلد من التجليد وهو ما وضع الجلد على أعلاه وأسفله كليهما)”
والثابت أن المنع هو الذي تأخر عند مالك. جاء في المدونة :” (قال ابن القاسم: كان مالك يقول في الجوربين يكونان على الرجل وأسفلهما جلد مخروز وظاهر هما جلد مخروز انه يمسح عليهما ثم رجع فقال لا يمسح عليهما”.
وهو أمر خالفه بعض المالكية فرجحوا قوله الأول، وكل الكلام بالطبع حول الجورب المجلد، والذي لا يكاد يختلف عن الخف. يقول الإمام أبو الضياء خليل المالكي في مختصره (ص 26) : (( رخص لرجل وامرأة وإن مستحاضة بحضر أو سفر مسح جورب جلد ظاهره وباطنه)).
والمجيزون من المذاهب الأخرى يشترطون أن تكون ثخينة أي غليظة وصلبة بل وتصلح للمشي فيها، وهي أمور لا تكاد تنطبق على جواربنا، قال الترمذي بعد إيراده لحديث المسح على الجوربين:” وهو قول غير واحد من أهل العلم وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق قالوا يمسح على الجوربين وإن لم تكن نعلين إذا كانا ثخينين”.
ولاحظ معي أيضا، أن ابن تيمية من الحنابلة مثلا وإن تحرر من اشتراط الجلد فيه، لم يتحرر من اشتراط المشي فيه، الأمر الذي لا يجعل فتواه تنطبق على جواربنا في هذا الزمان، ففي مجموع الفتاوى (21/214) بعد أن سئل عن المسح على الجورب قال: ( نعم ، يجوز المسح على الجوربين إذا كان يمشي فيهما سواء كانت مجلدة أو لم تكن).
فمذهب المالكية والحنابلة بخصوص شروطهم في المسح على الجوربين، لا يخرج عن اشتراط كونه مجلدا عند المذهب الأول، وكونه ثخينا عند الثاني يصلح للمشي فيه،
وبخصوص الأحناف حكى الطحاوي في شرح الآثار، أن أبا حنيفة لا يرى المسح على الجوربين حتى يكونا صفيقين ويكونا مجلدين فيكونا كالخفين، وجوز صاحباه محمد وأبو يوسف المسح إذا كان الجورب ثخينا يمكن فيه تتابع المشي كالخف أيضا.
يقول الدكتور وهبة الزحيلي في كتابه ( الفقه الإسلامي وأدلته: 1 / 344) مبينا مذهب الأحناف : ( المفتى به عند الحنفية جواز المسح على الجوربين الثخينين بحيث يمشي عليهما فرسخا فأكثر ويثبت على الساق بنفسه, ولا يرى ما تحته (والفرسخ عند الأحناف يساوي 5565 مترا)).
وأما الشافعية فنكتفي منهم بمثال النووي في المجموع (1-564-566) فبعد تضعيفه لحديث الجوربين الذي أورده الترمذي في سننه وحسنه، قال: لو صح لحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه , جمعا بين الأدلة, وليس في اللفظ عموم يتعلق به. ونقل القول بأنه يمكن أن يحمل أيضا على أنه مسح على جوربين منعلين, لا أنه جورب منفرد ونعل منفردة, فكأنه قال : مسح على جوربيه المنعلين. ثم خلص في موضع آخر إلى القول: ( الصحيح من مذهبنا أن الجورب إن كان صفيقًا يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه ، وإلا فلا) .
فظهر وكأنه إجماع بين المذاهب المشهورة المعتمدة في الساحة السنية على هذه الشروط المتقاربة في المسح على الجوارب، ولهذا قال الإمام ابن القطان الفاسي في كتابه الإقناع في مسائل الإجماع : المسألة رقم (351) :(وأجمع الجميع أن الجوربين إذا لم يكونا كثيفين لم يجز المسح عليهما ) .
فأقوال الفقهاء تنطبق في الأغلب على الجورب الثخين القوي الذي يمكن متابعة المشي عليه, أو الجورب المنعل الذي وضع الجلد على أسفله كالنعل للقدم ويمكن المشي عليه. وهذا بخلاف الجوارب المنسوجة التي يلبسها عامة الناس اليوم. فوجب على الباحث لإعمال قاعدة التيسير الشرعية التحرر أولا من الشروط الموضوعة للمسح والتي لم يرد في شأنها نص مباشر وإنما هي محض اجتهاد واستنباط، ويبدو أن الشروط المنصوص عليها أو في حكم المنصوص لا تتعدى: اللبس على طهارة، وكذا تحديد الوقت المعلوم، والاستمساك على القدم بحيث لا يسقط لوحده من الرجل من تلقاء نفس، وبقاء الإسم شاملا للممسوح بحيث يغطي القدم ويسترها أو معظمها.
وأرى باستحضار هذه الضوابط، وتخليص حكم المسح على الجوربين المستعملين في زماننا من الشروط الاجتهادية التي بقيت مشدودة إلى صفة الخف من حيث كونه من جلد لا ينفد الماء منه إلى القدم، ومن كونه قويا يمكن المشي فيه من غير نعل، أنه يمكن اعتماد وصف جامع أكثر عمومية بين الجورب المعروف حاليا والخف كما كان معروفا في زمن التشريع وهو كونه: ملبوسا في الرجل يسترها إلى الكعبين فجاز المسح. مستحضرين في ذلك مقاصد التشريع العامة التي تروم التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم.
وإلا فالفتاوى السهلة تميل في الغالب الأعم إلى اعتماد الموجود، وتنزيله على الناس بغض النظر عن ظروفهم وأحوالهم وتغير زمانهم، وما ينبغي أن يكون من حرص على بقائهم في دائرة الشريعة يتنسمون عبير تيسيرها، ويتمتعون بما أباح الله من رخصها من غير تحلل أو انفلات. والناظر في كلام من تغيب عنهم هذه المعاني يدرك مقدار الحرج الذي يدخلونه على العباد.
فمن ينتهي في بحثه إلى تقرير أن شروط المسح على الجوربين كما حددتها المذاهب الأربعة لا تتوفر في جوارب اليوم ثم يمضي إلى النتيجة السهلة عنده وهي بطلان مسح هذه الملايين من المسلمين عبر العالم، وإذا بطل المسح بطل الوضوء بطبيعة الحال، لأن طهارة الرجلين ركن من أركان عبادة الوضوء، ومن بطل وضوؤه بطلت صلاته..فما أدري هل يستحضر صاحب هذا الرأي خطورة مثل هذه النتائج، وخطورة تعطيل شريعة المسح التي شرعها الله لعباده؟ والحال أننا مطالبون بإقامة الدين ومساعدة الناس على ذلك، وليس بتقويض أركانه وتشريعاته والتفنن في التعسير والتشديد واعتبار ذلك من الورع في الدين !
انتهينا لحد الأن إلى ضرورة اعتماد مقاربة مغايرة في سبرنا وتقسيمنا للأوصاف التي أنيط بها حكم المسح على الخفين، واعتماد الوصف الجامع بين الأصل والفرع الذي هو جواربنا اليوم، كون ما نطلب حكمه: ملبوسا في الرجل يسترها إلى الكعبين فجاز المسح، مع العلم أنه ليس مستند الحكم هنا القياس فحسب، على من يقول به، باعتبار قراءة الكسر في “ارجلكم” في آية الوضوء حيث يكون المسح على ما يستر الرجل عزيمة وليس مجرد رخصة ، وإنما دخول جواز المسح على الجوربين كما نعرفها في زماننا، في الأدلة العامة بدءا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة رضي الله عنهم وأقوال ومذاهب العديد من العلماء القائلين بالجواز.
وهذا المعنى تعمه أدلة المسح بدءا من كتاب الله عز وجل، إعمالا لقراءة الجر لحرف اللام في “أرجلكم” من قول تعالى:” وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ”، حيث قال البعض إن قراءة الجر تدل على المسح، فننزلها على حالة القدم المستورة بالجورب كما يفعل بالخف فيكون فرضها المسح .علما بأن قراءة النصب تنزل على حالة القدم المكشوفة فيجب فيها الغسل . فضلا عن عموم الآيات الواردة في رفع الحرج واعتماد التيسير كقوله تعالى:” يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ” وقوله سبحانه:” وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ” وغيرها من الآيات الكثيرة، ولا شك أن منع الناس من المسح على جوارب اليوم فيه حرج واضح، ولا يجادل أحد في وجود فرق بين الأخذ برخصة المسح أو عزيمة حتى، وحرمان الناس منها، فالفقيه يستحضر آلاف الموظفين والعمال والجنود ورجال الأمن والدرك والوقاية المدنية وغيرهم دوامهم، تحضرهم الصلاة وليسوا على وضوء وقد لبسوا جواربهم على طهارة كيف سيقتصدون بالمسح: الوقت والماء ويحافظون على صحة أقدامهم بحيث لا تتولد فيها فطريات بغسلها من غير تنشيف وخصوصا عند ذوي الحساسيات الجلدية، ويشعرون بيسر الدين وسهولة التزام الصلاة في أوقاتها، في حين يكون في إلزامهم نزع جواربهم وغسل أقدامهم نقيض تلك المقاصد.
ومن جهة السنة نستحضر في جواز المسح على جوارب اليوم ما جاء في سنن أبي داود ومسند أحمد وصححه الألباني واللفظ لأحمد بسنده عن علي رضي الله عنه قال: كنت أرى أن باطن القدمين أحق بالمسح من ظاهرهما حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهرهما” ويقصد علي رضي الله عنه مسح ما يغطي القدمين، إذ لا يعقل أن يقصد الغسل الذي يعم كامل القدم، فبق الحكم متوجها للخف وما في حكمه كالجورب بمعناه القديم ومعناه المعاصر.
ومن ذلك حديث أحمد بن حنبل الذي روى بسنده في مسنده وصححه الألباني عن ثوبان رضي الله عنه قال:” بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين” والمقصود بالعصائب :العمائم وكل ما يعصب به الرأس، وفي شأن معنى التساخين جاء في عون المعبود شرح سنن أبي داود”قال ابن رسلان في شرحه: يقال أصل ذلك كل ما يسخن به القدم من خف وجورب ونحوهما” فتدخل جواربنا المعاصرة في هذا المعنى لأن تسخين الأقدام من مقاصد لبسها.
ومن جهة السند قال الشيخ الألباني في هذا الحديث:” الإسناد متصل، وأن إعلاله بالانقطاع مردود لأنه قائم على مذهب من يشترط في الاتصال ثبوت السماع . وهو مرجوح”.
والأكثر وضوحا حديث الترمذي في سننه بسنده عن المغيرة بن شعبة قال: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم ومسح على الجوربين والنعلين” قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح . فإذا كانت جواربنا يمكن أن تدخل في معنى الخفاف، فهي من باب أولى يشملها حكم جوارب أسلافنا، وبخصوص ما وجه من نقد لحديث الترمذي هذا، نقول: من النقاد أيضا من آزر الترمذي في تصحيحه الحديث، منهم قديما ابن حزم ومن المعاصرين الشيخ جمال الدين القاسمي والشيخ أحمد محمد شاكر والشيخ الألباني رحم الله الجميع.
ففي الاستدلال عن مشروعية المسح على الجوربين المتداولة في زماننا، بدأنا بدليل القرآن الكريم ثم دليل السنة النبوية الشريفة ومنها حديث الترمذي في الجوربين والذي قال فيه الشيخ جمال الدين القاسمي:” وبالجملة فقد اجتمع في حديث الجوربين الصحتان معاً : صحته من حيث السند كما صرح به الترمذي وابن حبان وكما حققناه من درء الشذوذ المزعوم فيه ، وصحته من غير السند ” ويقصد من غير السند تلقي عدد من العلماء وأئمة المذاهب له بالقبول ، و ما عضده من عمل الصحابة عليهم رضوان الله ، وموافقته لآية الوضوء على قراءة الجر، واندراجه تحت قاعدة رفع الحرج ، وموافقته مسح الخف.
وقال فيه الشيخ أحمد محمد شاكر” وقد قلت في شرحي للترمذي ( ج 1 ص 168 ) : ( الصواب صنيع الترمذي في تصحيح هذا الحديث ، وهو حديث آخر غير حديث المسح على الخفين . وقد روى الناس عن المغيرة أحاديث المسح في الوضوء ، فمنهم من روى المسح على الخفين ، ومنهم من روى المسح على العمامة ، ومنهم من روى المسح على الجوربين وليس شيء منها بمخالف للآخر ، إذ هي أحاديث متعددة ، وروايات عن حوادث مختلفة . والمغيرة صحب النبي صلى الله عليه وسلم نحو خمس سنين ، فمن المعقول أن يشهد من النبي صلى الله عليه وسلم وقائع متعددة في وضوئه ويحكيها ، فيسمع بعض الرواة منه شيئاً ، ويسمع غيره شيئاً آخر . وهذا واضح بديهي ) .
وقال فيه الشيخ الألباني في تعليقه على كتاب جمال الدين القاسمي: الحديث صحيح الإسناد ، وما أعلُّوه به مردود ” إلى أن قال: ورحم الله الشافعي إذ قال : وليس الحديث الشاذ أن يروي الثقة ما لم يرو الثقات ، وإنما أن يروي ما يخالف فيه الثقات” . وقال في تمام المنة في التعليق على فقه السنة (1|112) “والواقع أن رواة هذا الحديث كلهم رواة ثقات وإسناده صحيح على شرط البخاري وقد قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في ” الإمام ” : ” ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس ( راويه عن هذيل ) على كونه ليس مخالفا لرواية الجمهور مخالفة معارضة بل هو أمر زائد على ما رووه ولا يعارضه ولا سيما أنه طريق مستقل برواية هذيل عن المغيرة لم يشارك المشهورات في سندها “وهذا هو تحقيق القول في الحديث حسبما تقتضيه قواعد علم الحديث فلا تغتر بما ينقل عن بعض العلماء من تضعيفه فإنه مبني على علة غير قادحة كما بينا “.
وعلى فرض وجود كلام في حجية هذا الحديث، ففيما سبق قبله، وفي قياس الصحابة رضوان الله عليهم جواربهم على الخفاف، ما يعطينا مشروعية قياس جواربنا أيضا على الخفاف المتواتر مشروعية المسح عليهما، إن لم تكن جواربنا أحق بالمسح من بعض الوجوه باعتبار أننا لا نمشي فيها إلا على البسط فتكون أنظف.
وبخصوص فعل الصحابة رضي الله عنهم نجد من ذلك الشيء الكثير، مثل فعل أنس الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلا، قال الشيخ أحمد محمد شاكر في تقديمه للمسح على الجوربين للشيخ محمد جمال الدين القاسمي” فإن هناك حديثاً آخر عن أنس بن مالك صريحَ الدلالة صحيح الإسناد : روى الدولابي في الكنى والأسماء ( ج 1 ص 181 ) ، قال : ( … حدثنا الأزرق بن قيس ، قال : رأيت أنس بن مالك أحدث فغسل وجهه ويديه ، ومسح على جوربين من صوف ، فقلت : أتمسح عليهما ؟ فقال : إنهما خفان ، ولكنهما من صوف).
ثم قال الشيخ أحمد محمد شاكر فيما قال بأن هذا الحديث موقوف على أنس من فعله وقوله . ووجه الحجة فيه أنه لم يكتف بالفعل ، بل صرح بأن الجوربين ( خفان ولكنهما من صوف ) . وأنس بن مالك صحابي من أهل اللغة قبل دخول العجمة واختلاط الألسنة . فهو يبين أن معنى ( الخف ) أعم من أن يكون من الجلد وحده ، وأنه يشمل كل ما يستر القدم، فالخفاف كانت في الأغلب من الجلد فأبان أنس أن هذا الغالب ليس حصراً للخف في أن يكون من الجلد ، وأزال الوهم الذي قد يدخل على الناس من واقع الأمر في الخِفاف إذ ذاك . ولم يأتِ دليل من الشارع يدل على حصر الخفاف في التي تكون من الجلد فقط.
وكان أبو مسعود الأنصاري كما ذكر صاحب عون المعبود يمسح على الجوربين له من شعر ونعليه، وكان ابن عمر يقول كما جاء عند الألباني في المسح على الجوربين وصححه: “المسح على الجوربين كالمسح على الخفين”.
وكذلك فعل الصحابة فمسحوا على جواربهم قياسا على خفافهم إن لم يكونوا أخذوها سنة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، قال أبو داود في سننه :”ومسح على الجوربين علي بن أبي طالب وابن مسعود والبراء بن عازب وأنس بن مالك وأبو أمامة وسهل بن سعد وعمرو بن حريث وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وابن عباس. وذكر ابن حزم في المحلى أكثر من هذا العدد، وزاد عددا غفيرا من التابعين والأئمة.
ففي كل ما سبق أدلة بينة على جواز المسح على الجوربين كما نعرفها اليوم، من الكتاب والسنة وفعل عدد كبير من الصحابة رضي الله عنهم لذلك، وما ينبغي علمه أن الأمر تجاوز في ممارسة الصحابة الجورب بمواصفاته القريبة من الخف إلى الجورب الرقيق القريب في معناه من جواربنا، قال النووي في المجموع ج1ص527 :” وحكى أصحابنا عن عمر وعلي رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقا وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود”.
ولهذا اطمأن ابن حزم رحمه الله إلى استنتاجه في مسألة المسح على الجوربين فقال في المسألة 212:”والْمَسْحُ عَلَى كُلِّ مَا لُبِسَ فِي الرِّجْلَيْنِ مِمَّا يَحِلُّ لِبَاسُهُ مِمَّا يَبْلُغُ فَوْقَ الْكَعْبَيْنِ سُنَّةٌ , سَوَاءٌ كَانَا خُفَّيْنِ مِنْ جُلُودٍ أَوْ لُبُودٍ أَوْ عُودٍ أَوْ حَلْفَاءَ أَوْ جَوْرَبَيْنِ مِنْ كَتَّانٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ وَبَرٍ أَوْ شَعْرٍ كَانَ عَلَيْهِمَا جِلْدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ أَوْ جُرْمُوقَيْنِ أَوْ خُفَّيْنِ عَلَى خُفَّيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ عَلَى جَوْرَبَيْنِ أَوْ مَا كَثُرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ هَرَاكِسَ. وَكَذَلِكَ إنْ لَبِسَتْ الْمَرْأَةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَرِيرِ , فَكُلُّ مَا ذَكَرْنَا إذَا لُبِسَ عَلَى وُضُوءٍ جَازَ الْمَسْحُ عَلَيْهِ لِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَلِلْمُسَافِرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهِنَّ”.
ثم قال في الشروط التي أضافها جمهور العلماء ( اشتراط التجليد خطأ لا معنى له لأنه لم يأت به قرآن ولا سنة ولا قياس صاحب , والمنع من المسح على الجوربين خطأ لأنه خلاف السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلاف الآثار ولم يخص عليه الصلاة والسلام في الأخبار التي ذكرنا خفين من غيرهما ) (المحلى 1/324).
ونجد من المعاصرين كثيرا من العلماء ممن يقول بالمسح على الجوربين المعاصرين منهم العلامة جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى الذي اختار جواز المسح على الجورب الرقيق ، وأيد الشيخ الألباني في تعليقه على كتاب جمال الدين في الموضوع هذا الاختيار فقال:”وهو الحق .” ومنهم الشيخ ابن باز والشيخ يوسف القرضاوي وغيرهم.
من خلال كل ما مر من أدلة وبراهين يظهر جواز المسح على الجوربين كما نعرفها اليوم، ومن الدين الأخذ بهذه الرخصة والتمتع بها في سائر الأيام وبخاصة في أيام البرد وأوقات السفر وحالات المرض أو تشقق القدم أو تورمها مما يعرض المسلم للمشقة لو غسل الرجلين،
وأما قول البعض بأن الرخص لا يقاس عليها، بحيث يرفضون قياس جوارب الناس اليوم على خفاف السلف، فمردود عليه من جهة أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها بل فيها تفصيل كما قال القرطبي رحمه الله حيث تحتمل التَّفْصِيلَ بَيْنَ أَنْ لَا يَظْهَرَ لِلرُّخْصَةِ مَعْنًى فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا وَبَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ فَيُقَاسُ ، ولهذا قال الإمام الشافعي في الأم:” وَلَا يُقَاسُ إلَّا مَا عَقَلْنَا مَعْنَاهُ” ولا شك أن المسح على الخف مما يفهم من معناه تسخين الرجل وسترها وتفادي الحرج الناجم عن نزعها عند كل وضوء وطلبا لليسر وقبول ما تصدق به الشرع من رخصة، ويدخل في كل هذه المعاني وغيرها الجوارب المعاصرة. فيكون حكمها حكم الخف.
وينبغي الانتباه لمن يأخذ بهذه الرخصة ويمسح على الجوارب إلى الفرق بين النجاسة يطأ عليها بالخف فتمسح أو تغسل ولا يصل إلى الرجل منها شيء، وبين النجاسة تتشربها الجوارب فيجب حينها غسل الجورب والقدم معا ، ولا يكتفى بمسح الجورب أو غسله.
كما أنه إذا كان للجوربين رائحة كريهة ، يتأكد نزعهما ، وغسل القدمين ، حتى لا يؤذي المومنين بها ، ويؤثر على سجاد وبساط المساجد بما يضيع فيها مقاصد النظافة ويذهب عن الناس خشوعهم واطمئنانهم في الصلاة.
وبخصوص المسح عليهما فرغم أن الراجح في المذهب المالكي هو المسح على الظاهر والباطن في الخفين والجوربين المجلدين أي بإمرار اليد من فوقهما وتحتهما، فإني أرى والله أعلم الاكتفاء بمسح الظاهر من جواربنا ولمرة واحدة تقليلا للبلل والماء الذي يمكن أن يصل إلى القدمين من خلال المسح، ففرقنا في الحكم هنا لوجود الفرق من جهة إمكان نفود الماء من عدمه.
كما أن انقضاء مدة المسح للمقيم والمسافر لا تنقض الوضوء إلا بحدث يوجب حينها نزع الجوارب ثم الوضوء واستئناف المسح بوقته من جديد. هذا ما تيسر من القول في الجوربين فما كان من صواب فمن الله تعالى وما كان من خطإ فمن نفسي ومن الشيطان، وإلى الله الملجأ ليمن بالتوبة والغفران، ولنا طمع في الأجر والثواب من الكريم الرحمان.