مشكلة التعليم المزمنة (الجزء 1)
هوية بريس – زوهير النبيه (باحث في العلوم الاجتماعية)
يرتبط تاريخ التعليم بالمغرب بمصطلح الإصلاح. ويظهر هذا الارتباط بقوة في مرحلة دخول فرنسا إلى الأراضي المغربية بموجب ما سمي بالحماية، أي مرحلة الاستعمار. واستمر مصطلح الإصلاح متداولا في الحقل السياسي أكثر منه في الحقل التربوي حتى ظهور تعبير “إصلاح الإصلاح”. ولمساءلة هذه المفاهيم والبحث في الواقع الذي تحاول الإمساك به، سنحاول ملامسة بعض القضايا التعليمية من خلال مقاربة سوسيولوجية.
يدفعنا البحث في الظواهر الاجتماعية إلى النظر في تاريخها والتعمق فيه والحفر على قدر المعرفة المتاحة، وذلك بغية تشكيل ترابط منطقي بين الظواهر الأسباب أو على الأقل العوامل الأكثر فاعلية، والظواهر التي نعتبرها أثرا، ومن تم ربطها مع بعضها بعلاقات العلية الممكنة من جهة، للتمكن من ربط الماضي بالحاضر من جهة ثانية. وتطبيقا لهذا المنطلق المنهجي سنحاول تقسيم تاريخ المسألة التعليمية بالمغرب إلى حقبتين أساسيتين للوقوف على المشكلات المزمنة التي يتخبط فيها قطاع التعليم. وستكون الحقبة الأولى مرحلة الماضي، مرحلة الاستعمار التي سميت ب “الحماية”، والتي فرضتها فرنسا على المغرب. أما الحقبة الثانية فستمتد من فجر الاستقلال إلى اليوم مع الإشارة إلى أهم المنعطفات التي عرفتها قضية التعليم في المغرب.
بعد توقيع معاهدة فاس سنة 1912 بين فرنسا والمغرب، بدا واضحا اهتمام السلطات الفرنسية بالتعليم. ففي البند الأول من معاهدة تنظيم الحماية في المملكة الشريفة يتم الحديث عن “إصلاح التعليم”. ويروم الإصلاح المزعوم توفير تعليم يقوم على مبدأ إثني وعقائدي. فللطائفة المسلمة تعليم يختلف عن ذلك الذي يتلقاه اليهود واللذان يختلفان عما يتلقاه الأوروبيون. وتبدو السياسة التعليمية في ظاهرها تحترم معتقدات وقيم ومعايير المتعلمين، لكنها في الواقع تحافظ على الوضع القائم، أي الفصل بين أبناء الأعيان وأبناء الشعب. حيث يحصل الأولون على تعليم يمكنهم من خدمة المستعمر وخدمة مصالحهم الخاصة، والأخيرون على تعليم أولي وحرفي. وتتجلى هذه الهندسة متغيرة الأبعاد في سياسات مدير التعليم العمومي جورج هاردي الذي أقامته الحماية الفرنسية، والذي كان بمثابة وزير التعليم. ويقول هاردي في أحد لقاءاته “… إن التعليم الموجه لهذه النخبة تعليم طبقي يهدف إلى تكوينها تكوينا منظما في ميادين الإدارة والتجارة، وهي الميادين التي اختص بها الأعيان المغاربة، أما النوع الثاني، وهو التعليم الخاص بالجماهير الفقيرة والجاهلة جهلا عميقا، فيتنوع بتنوع الوسط الاقتصادي. في المدن يوجه التعليم نحو المهن اليدوية، خاصة مهن البناء، وإلى المهن الخاصة بالفن الأهلي. أما في البادية فيوجه التعليم نحو الفلاحة… وأما في المدن الشاطئية فسيوجه نحو الصيد البحري والملاحة”.
يقدم ج. هاردي في هذا الخطاب “الإصلاحي”، السياسة التعليمية التي تبنتها فرنسا لتطبيقها في مستعمرتها الجديدة. وبذلك يؤسس لنموذج ملموس للمدرسة التي تقوم على الأصل الاجتماعي والتمايز العرقي الإثني، مدرسة الاقصاء الاجتماعي بامتياز. فالتعليم الذي يحصل عليه أبناء الأعيان سيمكنهم من الحفاظ على موقعهم في المجال الاجتماعي، موقع النخبة التي تتحدث اللغة الفرنسية بطلاقة، وتتشرب الثقافة الفرنسية، وتفهم دون عناء ما يأمر به المستعمر. والتعليم الذي يحصل عليه أبناء العامة لن يعدو أن يكون تعليما أوليا موجها في عمومه نحو الحرف. كما يظهر في الخطاب إقصاء مجالي يستتر خلف “تسمية الوسط الاقتصادي”، في حين إنه تمييز في العرض التربوي بين المجالين القروي والحضري، قائم على المعطيات الجغرافية وليس على الحق في تعليم يراعي مبدأ المساواة بين أفراد ينتمون إلى نفس المجتمع.
اختلط ما هو سياسي بما هو بيداغوجي في قطاع التعليم بالمغرب خلال فترة الحماية. وكل السياسات التعليمية التي وضعها المستعمر، نجد خلفها أهدافا سياسية. وبما أن فرنسا خرجت على وقع التسويات المرحلية، فإن المغرب لم يتمكن من القطع مع هذه الممارسة، لكي يبعد قطاع التعليم عن “المضاربة” السياسية… يتبع