مع توالي الكوارث والأحداث الإجرامية، والسلوكات الطائشة، وتنوعها كما وكيفا، وارتكابها من فئات مختلفة من المجتمع، يطفو على السطح الحديث عن القوانين والعقاب والإجراءات التي ينبغي أن تتخذ للقضاء على الظاهرة، أو الحد من انتشارها، وفي كل مرة يتم إقرار مجموعة من القوانين سواء تنظيمية أو عقابية، تظهر كوارث ربما أشد من سابقتها، ويعود النقاش من جديد.
لكن المحير في القضية برمتها، أن من يسهر على التنظيم والتشريع ويقرر في مثل هذه القضايا، لم يطرح السؤال الجوهري والمهم في كل عملية إصلاح. وهو أين المشكل بالضبط؟ هل هو في القوانين والتشريعات التنظيمية أو العقابية؟ أم في شيء آخر؟
أعتقد أن الشيء الآخر وهو مشكل الأخلاق، هو جوهر المشكل والحل، لكن لن يتم الالتفات إليه، لأن مشكل الأخلاق والقيم التي فسدت ففسد معها الذوق والسلوك والفكر وتعكر صفو الحياة، إنما كان منشأ فساده من لدن بعض من يتصدى -أو هكذا يظهر- لمعالجة المشاكل الأمنية، ومظاهر الفساد في قطاعات الدولة المختلفة.
ومن تم فالسؤال مغيب ما دام أن هناك إرادة لإفساد الأخلاق.
ومن تم فإن ما يعانيه المجتمع من مشاكل وكوارث لا حصر لها، والتي لا تريد أن تتوقف عن الزحف، بل في كل مرة يظهر في المجتمع ما لم يكن بالحسبان؛ ستبقى ما بقيت الإرادة الحقة غائبة عن دعوى الإصلاح، وما دام الطبيب بعيدا عن سبب الداء مكتفيا بعلاج الأعراض. ولن تزول ولو جئنا بكل قوانين الدنيا، ما دام النفوس البشرية ركبت بالشر والانحراف من خلال ما تتلقاه كل يوم من قيم عنوانها الرداءة والانحلال والتجرؤ على رب العالمين.
إن الأصل في الإنسان أن يكون على خلق حسن، يجعله يكف عن ارتكاب ما لا يليق لا شرعا ولا عقلا ولا إنسانيا. لذلك كان شعار النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعوا البشرية جمعاء إلى الله “إنما بعثث لأتمم مكارم الأخلاق” وعلى ذلك ربى أصحابه، فكون مجتمعا فاضلا يراقب أفراده أنفسهم ويمنعونها من ممارسة الإجرام صغيرا كان أو كبيرا، بل يتركون حتى التفكير فيها، لأن التربية على الأخلاق طهرت النفوس من نوازع الشر والانحراف، فسلم مجتمعهم من كل الآفات. أما القوانين العقابية فلم تنزل في التشريع الرباني إلا آخر الأمر بعد مسيرة طويلة للتربية على القيم الفاضلة، لتكون بمثابة الردع الاستباقي لكل من تسول له نفسه الخروج عن الجادة والتشويش على سلامة المجتمع.
عندما نتحدث عن منهج التربية على الأخلاق والقيم، إنما نتحدث عن منهج رباني ارتضاه الله لخلقه، إذ هو الذي خلقهم وهو أعلم بهم وبما يصلحهم. فكل خروج عن هذا المنهج فهو ابتعاد عن الطريق الصواب في كل عملية إصلاح ومعالجة.
فأخلاق الإسلام هي الكفيلة وحدها ووحدها فقط، في إصلاح ما أفسد الناس، لكنها اليوم تحارب وبشدة فكيف يستقيم الظل والعود أعوج، حتى المدرسة التي هي فضاء للتربية والتعليم أضحت مرتعا لكل مظاهر الانحراف السلوكي والإجرامي الخطير. فكيف حال ما سواها من القطاعات والفضاءات.
لربما يعترض أحدهم بواقع الغرب الذي لا يدين بدين الإسلام لكنه لا يعيش واقعا امنيا متدهورا ولا انحرافا إداريا مثل ما تعيش كثير من بلاد الإسلام. والحقيقة أن هذا الكلام يصدر عن جهل بالحقيقة، فالانحرافات نراها أبلغ من أمنية وإدارية وخدماتية، غير أن الرغبة في صلاح الدنيا وهم عليها أحرص يجعلهم يلتزمون بأخلاق مكنتهم من تحقيق مبتغاهم، تلك الأخلاق في حقيقتها هي أخلاق إنسانية لكن الإسلام أعطاها صبغة شرعية يرتب عليها الجزاء في الدنيا والثواب في الآخرة. وعليه فإن الغرب لذكائه استغل هذه القيم التي جاء بها الإسلام والتي كانت هي سر تفوق المسلمين في زمن غير بعيد، فوظفها لتحقيق نهضة دنيوية مع حفاظه على فساد أخلاقه وقيمه التي لها ارتباط بآخرته.
المشكلة أننا اليوم لم نتمسك بأخلاق الإسلام التي تحقق صلاح الدنيا، ولم نتمسك بأخلاق الإسلام فنخشى أن نفوت صلاح الآخرة إن لم يكن الأمر كذلك، فلا نحن حافظنا على قيم الإسلام الشمولية، ولا نحن كنا كالغربيين أصلحنا دنيانا.
لكن المتقرر في الحقيقة التاريخية أن العرب خصوصا لن يتحقق لهم من رقي وازدهار إلا بالتمسك بدين الإسلام.
وفي الختام، وبالمثال يتضح موضوع المقال، وأن أزمتنا أزمة أخلاق وقيم وليست قوانين، أذكر بقصة أمريكا لما منعت الخمور سنة 1933 بعد أن أنفقت أموالا طائلة على الدراسات والأبحاث والمنتديات، خلصت إلى تغيير الدستور وإصدار قرار المنع صنعا واستيرادا وبيعا. لكنها اضطررت إلى التراجع عنه بعد هذا الذي وقع.
حيث “انتشرت الحانات الخفية، وأخذت تنمو تجارة الخمور وتكبر، حتى أصبحت كلمة عصاباتها نافذة في الحكم، وانتشر الإجرام بين هذه العصابات، كما بينها وبين العصابات المنافسة لها، وبطريق العدوى تجاوز الإجرام دائرة تجارة الخمور إلى الإجرام في نواح أخرى كالاختطاف والسلب والنهب… عندها أيقن الرأي العام فشل التجربة النبيلة فشلاً محزناً، وأعلن المستر فرانكلين روزفلت أن من مبادئه إلغاء التحريم من نفس السنة بعد موافقة ست وثلاثين ولاية على إلغاء التعديل الثامن عشر للدستور”.
إنها الأخلاق وليست القوانين التي تصلح الأفراد والمجتمعات.