مصابيح الصيام: (ح3)
هوية بريس – رشيد الذاكر
عادة ما نقوم بالأعمال أو نتركها في حياتنا ليس إدراكا لصحتها أو فسادها، وإنما ذلك بحسب الإلف والعادة التي نعيشها في وسط المجتمع الذي ننتمي إليه، فكثيرة هي المواقف التي اتّخذناها والتصرفات التي صدرت منا: مرجعها ومحركها الخفي الذي لا ننتبه إليه: هو الإلف والعادة، فكل من اعتاد شيئا معينا: فهو يتصرف وفق ذلك المعتاد عليه … وهذا أيضا تجده حتى في العبادات التي يقوم بها الإنسان وكذا المعاملات الشرعية، فنحن نعبد الله تعالى أحيانا كثرة: ليس وفق شرعه، وإنما وفق ما اعتدناه وألفناه.
الشيء نفسه يقال في باب الصيام، وهو المصباح الثالث الذي أضعه بين أيديكم أخوتي القراء: من خلال آيات الصيام في سورة البقرة، لعلها تجلي للمؤمن السائر إلى الله تعالى حقيقة هذا الرقي التعبدي وتكشف له عن المسار الصحيح: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183] والمصباح الجديد ليومنا هذا: مع كلمة (الصِّيَامُ) التي نحن نعيشها في حياتنا بناء على إلف وعادةِ قومنا الذين وجدناهم يصومون.
إن العديد من الناس -وأرجو أن لا نكون منهم- تصوم على أساس الجوع والعطش، فالصوم عندهم مجرد كف عن الطعام والشراب وشهوة الفرج الفعلية دون النفسية والفكرية (ويكره اللمس وفكر سلما).
فهذه حقيقة الصيام المادية، والتي ليس له أثر على نفسية الصائم: لأن الصوم المأمور به في القرآن الكريم وسنة المصطفى الأمين: إنما هو الصوم المؤثر الذي يحدث تغييرا في ذات الإنسان، وليس صوم الجوع والعطش في زمن محدد، ولهذا عبر نبينا صلى الله عليه وسلم في نص صريح: يحيط هذا الباب ويضع السياج التام حول الصوم المطلوب شرعا، «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [صحيح البخاري] وهذا الحديث هو مدخل الصالحين في تصحيح الصيام.
إن علماء الإسلام كانوا دائما يسعون لإيقاظ مصابيح في طريق الصائمين حتى يكون صومهم وفق منهج الله تعالى، فقسموا الصيام إلى دراجات ثلات، على الإنسان أن يسعى جاهدا لأجل الوصول إلى أعاليها، وأن لا ترضى نفسه بالبقاء في الدرجات الدنيا منها، قال الإمام الغزالي رحمه الله (505 هـ) ” اعلم أن الصوم ثلاث درجات صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص، فأما صوم العموم: فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وأما صوم الخصوص: فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام، وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين فإن ذلك من زاد الآخرة ” [كتاب إحياء علوم الدين 1/ 234] والدرجة الأخيرة: هي درجة أهل الإحسان الذين ترقوا في مدارج السلوك لله رب العالمين، فعندما صاموا إنما صاموا بقلوبهم قبل أن تصوم أبدانهم، وصاموا بأفكارهم قبل أن تصوم جوارحهم، وعرفوا حقيقة الدنيا فجعلوا منها مزرعة للأخرة { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [الشورى: 20]
ولأجل فتح الطريق أمام الصائم كي يترقى في هذه المدارج: كان لابد من إشعال المصابيح: وهي عبارة عن شروط ستة توصلك – بإذن الله تعالى- إذا صفا القلب وحسنت النية إلى الدرجات العُليا في الصيام (خصوص الخصوص)
الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله.
الثاني: حفظ اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والفحش والخصومة وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن.
الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه: لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه.
الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام والمحرمات.
الخامس: أن لا يستكثر من الطعام وقت الإفطار حتى التخمة والامتلاء.
السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقا بالله تعالى لعله سبحانه يقبل هذا الصيام، مستحضرا قول الله تعالى{ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] (إنتهى مختصرا من إحياء علوم الدين)
إذا فعلت هذا فقد أدرجت نفسك في سلك الصائمين المنعم عليهم من الله تعالى منذ بداية الخليقة إلى اليوم، وسوف يكون هذا مصباحنا الرابع بإذن الله تعالى.