مصرف الزكاة “في سبيل الله” والإعلام الإسلامي
هوية بريس – د.رشيد بنكيران
◆ دلت آية الصدقات الواردة في سورة التوبة على مصارف الصدقة المفروضة، أي الزكاة التي تعد ركنا من أركان الإسلام الخمس، حيث يقول الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ٱلصَّدَقَـٰتُ لِلۡفُقَرَاۤءِ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱلۡعَـٰمِلِینَ عَلَیۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَـٰرِمِینَ وَفِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِۖ فَرِیضَةࣰ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِیمٌ حَكِیمࣱ﴾ [التوبة: 60].
ومن يتأمل في مصارف الزكاة يجد أنها تنقسم إلى قسمين: قسم لسد حاجات المسلمين، وقسم لمعونة الإسلام وتقويته، كما قرره الإمام الطبري في تفسيره. ويقع مصرف “في سبيل الله” ضمن القسم الثاني.
◆ إن عبارة “في سبيل الله” هي تعبير قرآني ورد ذكره في القرآن الكريم أكثر من أربعين مرة، كما ورد كثيرًا في الأحاديث النبوية الشريفة. وتتنوع معانيه لتشمل الجهاد، القتال، الغزو، النفير، الهجرة، الإنفاق، الدعوة، الحج، طلب العلم، وغيرها من المعاني التي تدخل في عموم الخير. ومع ذلك، فقد غلب عند إطلاق هذه العبارة أن تُفهم بمعنى الجهاد وما يرتبط به.
◆ وقد اختلف العلماء قديمًا وحديثًا في تحديد المقصود بمصرف “في سبيل الله” وانقسموا إلى رأيين رئيسيين: الرأي الأول يوسع مدلول هذا المصرف ليشمل جميع أنواع البر والخير والمصالح المشروعة، مثل الجهاد، سد حاجة المحتاجين، بناء القناطر، المساجد، وحفر الآبار ، وتمكين الفقير من أداء الحج، وغيرها من أعمال الخير.
أما الرأي الثاني فيضيق هذا المفهوم ويقصره على الجهاد فقط. لكن حتى بين هؤلاء الذين ضيقوا مدلول “في سبيل الله”، اختلفوا في تحديد صور الجهاد المقصودة. فالبعض قصرها على الجهاد العسكري وما يتطلبه، بينما وسع آخرون مفهوم الجهاد ليشمل جميع صوره الشرعية التي يمكن أن تندرج تحت العبارة الجامعة: “إعلاء كلمة الله”، بحيث يعد كل ما يسهم في تحقيق هذا الهدف جهادًا و”في سبيل الله”.
◆ وهذا الرأي الأخير هو الأرجح والأقرب إلى الصواب، لأنه من جهة لا يميل إلى التوسع في معنى عبارة “في سبيل الله” ليشمل جميع أبواب الخير، مما قد يؤدي إلى التعارض مع التعيين الذي ورد في القرآن بشأن المصارف الأخرى.
فالأصل في الألفاظ هو تأسيس المعاني وليس تأكيدها. وتفسير “في سبيل الله” بأنه يشمل جميع أبواب الخير يدمج مصرف الفقير، ومصرف المسكين، ومصرف ابن السبيل، ومصرف العاملين عليها، ومصرف المؤلفة قلوبهم، ومصرف الغارمين، أي المصارف السبعة الأخرى المتبقية، في مصرف “في سبيل الله”، لأن جميعها تعد من أبواب الخير.
ومن جهة أخرى، لم يضيق أصحاب هذا الرأي مدلول “في سبيل الله” ليقتصر فقط على الجهاد العسكري وما يتوقف عليه، بل وسعوا المفهوم ليشمل صورًا أخرى من الجهاد، وهذا التوسع تشهد له نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، حيث وردت فيهما أنواع متعددة من الجهاد، منها الجهاد بالكلمة، إلى جانب الجهاد بالمال والنفس.
◆ ومن الأدلة على ذلك:
1- قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ ٱلۡكَـٰفِرِینَ وَجَـٰهِدۡهُم بِهِۦ جِهَادࣰا كَبِیرࣰا} [الفرقان: 52]، أي جهادهم بالقرآن. ويكون الجهاد بالقرآن من خلال تبليغه، وبيان حججه، وعرض براهينه، ودفع الكافر بمقتضياته، وهذا هو “الجهاد الكبير” كما أشارت إليه الآية الكريمة.
2- قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لِیَنفِرُوا۟ كَاۤفَّةࣰۚ فَلَوۡلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرۡقَةࣲ مِّنۡهُمۡ طَاۤىِٕفَةࣱ لِّیَتَفَقَّهُوا۟ فِی ٱلدِّینِ وَلِیُنذِرُوا۟ قَوۡمَهُمۡ إِذَا رَجَعُوۤا۟ إِلَیۡهِمۡ لَعَلَّهُمۡ یَحۡذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]. فقد سمى القرآن الذهاب إلى طلب العلم ونشره والدعوة إلى الله “نفيرا”، كما سمى الذهاب إلى الغزو والقتال “نفيرا”. وكلا النفيرين يُعتبر جهادا و “في سبيل الله”؛ فالأول جهاد بالكلمة واللسان، والثاني جهاد بالسلاح والسّنان. وبكليهما يتحقق قوام الإسلام وإعلاء كلمته. كما قال النبي ﷺ: “مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ”. وكذلك من جاهد بالقرآن والعلم والدعوة إلى الله لتكون كلمة الله هي العليا، فهو أيضًا “في سبيل الله”.
3- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: “أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ”. رواه أحمد وأصحاب السنن إلا النسائي، وهو حديث صحيح.
ومحل الشاهد في الحديث واضح، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف قول كلمة الحق عند انتشار الاستبداد والجور والطغيان بالجهاد، بل جعله أفضل أنواع الجهاد، فلا شك أنه يدخل في معنى “في سبيل الله”.
4- عن أنس، أن النبي ﷺ قال: “جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ”.
وهذا حديث تتراوح درجته بين الضعف والحسن، وقد حسنه بعض الحفاظ كابن حجر وغيره، ولكن بصرف النظر عن درجته معناه صحيح.
والشاهد هنا واضح، فإذا كانت الدعوة إلى الجهاد بالمال والنفس مقررة في القرآن على وجه القطع واليقين وأنها تدخل ضمن الجهاد “في سبيل الله”، فإن توظيف اللسان – بما يشمل استخدامه في بيان الحجج وتوضيح الحق ودفع الشبهات عن الدين – كذلك يدخل ضمن الجهاد “في سبيل الله” وإعلاء كلمة الإسلام.
◆ وإذا كانت عبارة “في سبيل الله” تشمل جميع صور الجهاد المتنوعة، كما تم توضيحه سابقًا، فإن مصرف الزكاة المخصص لها يجب أن يغطي كافة أنواع الجهاد المختلفة. لذلك، يُنفق من هذا المصرف على من ينفر في طلب العلم وتعليمه، وعلى المؤسسات التي تعتني بذلك. كما يُنفق على من ينطق بالحق وعلى أسرته إذا تعرض للأذى أو الضرر نتيجة قوله للحق، فهو في مظنة الهلاك أو الأسر مثلما يحدث مع الغازي والمقاتل. كذلك، يُنفق على الدعاة إلى الله والمتفرغين للحسبة، وعلى المؤسسات التي تقوم بهذه المهام. ففي الوقت الحاضر، لم يعد من الممكن تحقيق المدافعة المطلوبة ضد الأعداء ومحاربي الإسلام إلا من خلال عمل مؤسسي متقن يدعم هؤلاء العاملين والمنخرطين فيما شُرع لأجله مصرف “في سبيل الله”.
◆ ومن المستحقين لمصرف “في سبيل الله” في زماننا ما يُعرف بالسلطة الرابعة، أي الإعلام الإسلامي الهادف. فلا يخفى على أحد اليوم الدور الكبير الذي يلعبه الإعلام في تشكيل الوعي، ودفع شبهات الإلحاد والزندقة، ومحاصرة خطاب التطرف والغلو، بالإضافة إلى مواجهة دعوات الإباحية والشذوذ. كما يسهم الإعلام في تبليغ الدين، وفي محاسبة المفسدين، ورفع صوت المظلومين، وتقريب العلماء الربانيين والدعاة والمصلحين من عموم المسلمين. هذه الأدوار بلا شك تندرج إما ضمن المقاصد الشرعية لمصرف “في سبيل الله”، أو أنها وسائل ضرورية لتحقيق تلك المقاصد، إذ أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
◆ وبناءً على ذلك، يجب على المزكّين تخصيص جزء من أموال زكواتهم لتمويل الإعلام الإسلامي الهادف، بما في ذلك إنشاء القنوات الفضائية وغيرها من وسائل الإعلام الأخرى. فبها يمكن مواجهة الإعلام الفاسد والمنحرف، والسعي لتحقيق الكفاية في هذا المجال. ويُعد الإعلام الهادف من فروض الكفاية في هذا الزمان، بحيث إذا لم تتحقق الكفاية منه، يتحمل الجميع الإثم بسبب غيابه أو ضعفه. وليس بعيدًا أن يكون تقديم مصرف “في سبيل الله” بالطريقة التي شرحناها على باقي المصارف الأخرى من الفقه النفيس في تحديد الأولويات ومراتب الأعمال. ويتبوأ الإعلام الإسلامي الهادف المرتبة الأولى بين المستحقين لمصرف “في سبيل الله”، ومن ينفق أموال الزكاة في هذا المجال ينال أجر المزكّي، وأجر المجاهد بماله، وأجر حسن الفقه في الدين، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين.
♦ خلاصة:
▪︎ يتضح من خلال هذا المقال أن مصرف “في سبيل الله” هو أحد المصارف الثمانية للزكاة التي شرعها الله تعالى، وقد اختلف العلماء في تحديد مدلول هذه العبارة. ورغم تعدد الآراء، فإن الرأي الأرجح هو أن “في سبيل الله” يشمل جميع صور الجهاد الشرعية التي تهدف إلى إعلاء كلمة الله، سواء كان ذلك جهادًا بالمال، أو الكلمة، أو النفس. ويجب أن تشمل هذه المصارف دعم العلماء والدعاة وطلبة العلم، والمؤسسات التي تعمل على نشر الدعوة الإسلامية، والدفاع عن الدين.
▪︎ وفي عصرنا الحالي، يعد الإعلام الإسلامي الهادف من أهم الوسائل لتحقيق هذه الأهداف، فهو يقوم بدور حيوي في مواجهة الأفكار الهدامة، وتوضيح الحقائق، ونشر القيم الإسلامية. ولذلك، ينبغي أن يُخصص جزء من أموال الزكاة لدعم هذا الإعلام، باعتباره وسيلة أساسية لإعلاء كلمة الله في مواجهة الإعلام المنحرف. إن تمويل الإعلام الإسلامي الهادف يعد من فروض الكفاية، وإذا لم يتحقق فيه الكفاية فإن الإثم يشمل الجميع. وفي ذلك تحصيل للأجر من الله، وأداء لواجب شرعي في سبيل تعزيز الدين الصحيح ودحض الباطل.