مصعب بن عمير رضي الله عنه.. مثال لاستبدال نعيم الدنيا بنعيم الآخرة
هوية بريس – د.محمد ويلالي
أحد أعظم أبطال شباب المسلمين، ممن كان لهم جليل التأثير في رسم حياة أهل المدينة النبوية قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها. شاب لا كباقي الشباب، وبطل لا كباقي الأبطال، ومعلم للقرآن لا كباقي المعلمين، وحكيم في الدعوة إلى الله لا كباقي الحكماء. أول من رحل من هذه الأمة ليُقْرِئَ القرآن، وليبلِّغ العلم خارج بلده، وأول إمام بالناس في المدينة النبوية.. إنه مصعب بن عمير رضي الله عنه.
كرِّرْ علـيَّ حديثهم يا حـادي * فحديثُهم يجلو الفؤادَ الصادي
كان في صغره وقبل إسلامه شابا غنيا، جميلا، مدللا، منعما، حسن الوجه، يلبس من الثياب أغلاها، ومن النعال حَضرميها، وكان يستعمل من العطور أنفسها، حتى إن شوارع مكة تشهد بمروره بها، بسبب رائحة العطر الثمين الذي يستعمله. وكان أبواه من أغنى أغنياء مكة، يحبانه حبا عظيما، ولا يردان له طلبا، وبخاصة أمه، التي كانت مليئة كثيرة المال، بلغ من شدة كَلَفها به أنه يبيت وقَعْبُ الحَيْس (تمر وأقط وسمن، تخلط وتعجن) عند رأسه، فإذا استيقظ من نومه أكل.. إنها حياة نعيم ودلال.
ولما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام في دار الأرقم بن أبي الأرقم، دخل عليه، فصدق به، وأسلم، وخرج كاتما إسلامه، لكن بلغ الخبر أمه وقومه، فأخذوه وحبسوه، فلم يزل محبوسًا حتى خرج إلى أرض الحبشة في الهجرة الأولى.
لقد اختار مصعب حياة الشظف في ظل هداية الإسلام، على حياة النعيم في جلباب الشرك. لم يكن من الشباب المتكسرين، الذين تغريهم الشهوات وملذات الدنيا، ورغد العيش، المنشغلين بالتفاهات ورخص الأمور، بل كان ذا همة عالية لا تنكسر، وعزيمة قوية لا تلين، يُتحمل في سبيلها وعورة المسير، ويستسهل في طريقها كل عسير.
لقد رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومًا فقال: “انظروا إلى هذا الرجل الذي نوَّر الله قلبه، لقد رأيته بين أبوين يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، ولقد رأيت عليه حُلةً اشتُريت له بمائتي ألف درهم، فدعاه حبُّ الله ورسوله إلى ما ترون”.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: “لقد رأيته جَهَدَ في الإسلام جهدًا شديدًا، حتى لقد رأيت جلده يتحشَّف (يتطاير) تَحشُّفَ جلد الحية عنها، حتى إن كنا لنعرضه على قَتَبِنا فنحمله، مما به من الجهد”.
وما كان الله ليضيع أجر المؤمنين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئاً لِله ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ، إِلاَّ بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ” رواه أحمد.
لقد اختاره الله ـ عز وجل ـ إلى مَهمة لا يقدر عليها إلا الشباب العظماء، رفع الله بها قدره، وخلد بها ذكره، وأعلى بها مكانته.
لقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة اثنتي عشرة سنة يدعو إلى الله، ولم يؤمن له إلا قليل، فأخذ صلى الله عليه وسلم يتأهب للهجرة إلى المدينة، وكان لا بد من تعبيد الأرض في المدينة، بأن يدخل القرآن الكريم كل بيت بها، وأن يتعرف الناس ـ هناك ـ هذا الدين الكريم، بعد أن كانت العلاقة بينهم ـ أوسا وخزرجا ـ متوترة مضطربة، حتى إن الحروب بينهم استمرت أكثر مِن مائة سنة، آخرها يوم بُعاث. فوقع الاختيار على مصعب بن عمير، الذي كان عليه أن يقوم بمهمته في ظرف سنة، وقد كان زاده في ذلك ما معه من القرآن الكريم، حفظا، وأداء، وتمثلا.
قال البيهقي: “بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه مع النفر الاثني عشر الذين بايعوه في العقبة الأولى إلى المدينة يُفَقِّهُ أهلَها، ويقرئهم القرآن، وكان منزله على أسعد بن زُرارة، وكان إنما يسمى بالمدينة “المقرئ”.. وكان أولَ من جمَّع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يَقدَمها رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ولقد أسلم على يديه اثنان من عظماء الصحابة: أسيدُ بن حضير، وسعدُ بن معاذ ـ الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عرش الرحمن اهتز لموته ـ سيدَا قومهما من بني عبد الأشهل، اللَّذين سمعا من مصعب آيات من القرآن الكريم، فشرح الله صدرهما، وتحولا عن الشرك إلى الإسلام، وأسلم بإسلامهما بنو عبد الأشهل عن بكرة أبيهم. يقول سعد بن معاذ رضي الله عنه لقومه بعد إسلامه: “يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ؟”. قَالُوا: “سَيِّدُنَا، وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً”. قَالَ: “فَإِنَّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَبِرَسُولِهِ”. قَالَ مصعب وأسعد بن زرارة: “فَوَاَلله مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إلّا مُسْلِمًا وَمُسْلِمَةً”.
ثم رجع مصعب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سنة، يبشره بنجاح المهمة على أكمل وجه، لينطلق حدث الهجرة إلى المدينة النبوية.
إذا لم تحاول فـي شبابك غايـة * فيا ليت شعري أيَّ وقت تحاول؟
لقد كتب الله أن يعيش مصعب بن عمير رضي الله عنه أربعين سنة، منها ست سنوات في الإسلام فقط، حيث قتل شهيدا في معركة أحد.
قال خباب بن الأرت رضي الله عنه: “هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَبِيلِ اللهِ، نَبْتَغِي وَجْهَ اللهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللهِ: فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلَّا نَمِرَةٌ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ، خَرَجَتْ رِجْلاهُ، وَإِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رِجْلَيْهِ، خَرَجَ رَأْسُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “ضَعُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ الْإِذْخِرَ”. وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهْوَ يَهْدِبُهَا” متفق عليه.
وفيه وفي شهداء أحد نزل قول الله ـ تعالى ـ: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
ولقد عَرف كبار الصحابة لمصعب قدره ومكانته. فهذا عبد الرحمن بن عوف ـ وهو من العشرة المبشرين بالجنة ـ، أُتِيَ بِطَعَامٍ، وَكَانَ صَائِمًا، فَقَالَ: “قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي، كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ، إِنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ، بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ. وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهُوَ خَيْرٌ مِنِّي. ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ تَكُونَ حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا. ثُمَّ جَعَلَ يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ” رواه البخاري.
أولَئِكَ آبائي فَجِئنـي بِمِثلِهِم * إِذا جَمَعَتنا ـ يا جَريرُ ـ المَجامِعُ