مظلة بوعياش.. صورة صامتة تفضح الخطاب الحقوقي

15 ديسمبر 2025 20:27

مظلة بوعياش.. صورة صامتة تفضح الخطاب الحقوقي

هوية بريس – متابعات

ليست كل الصور مجرد توثيق لحظة عابرة، فبعضها يتحول إلى خطاب كامل، بل إلى محاكمة رمزية، لأنها تلتقط ما تعجز عنه البلاغة، وتكشف ما تحجبه الشعارات.

صورة آمنة بوعياش رئيسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان تسير في الشارع، منشغلة بهاتفها، محمية من المطر بمظلة يحملها رجل خلفها، بينما يتلقى هو البرد والماء مباشرة، ليست تفصيلا عاديا ولا مشهدا بريئا، بل صورة مكثفة تختزل مفارقة عميقة بين ما يُقال عن حقوق الإنسان وما يُمارس في الحياة اليومية.

في الصورة، لا نرى عنفا صريحا ولا قمعا مباشرا، لكننا نرى ما هو أخطر: تطبيع اللامساواة. مظلة تحمي جسدا واحدا، وتترك جسدا آخر عاريا أمام قسوة الطقس، في علاقة غير متكافئة، حيث يتحول الإنسان إلى وظيفة، والكرامة إلى أمر مؤجل بحكم الموقع. هنا لا يتعلق الأمر بمنصب أو شخص بعينه، بل بمنطق كامل يحكم ممارسة: من في الأعلى يُحمى، ومن في الأسفل يُطلب منه التحمل في صمت.

المفارقة تصبح أكثر حدّة حين يكون الطرف المحمي مرتبطا، بحكم موقعه العمومي، بخطاب الدفاع عن حقوق الإنسان. فحقوق الإنسان، في معناها العميق، لا تبدأ من القوانين ولا من التقارير الدولية، بل من الإحساس بالآخر، ومن الوعي بأن الكرامة لا تتجزأ، ولا تتوقف عند السائق أو المرافق أو الموظف البسيط.

الصورة تطرح سؤالا صامتا لكنه جارح: كيف يمكن لمن يتحدث عن الكرامة أن لا ينتبه إلى جسد يرتجف خلفه تحت المطر؟

هذه اللقطة تختصر فجوة واسعة بين التنظير والممارسة. ففي القاعات المكيفة تُرفع الشعارات، وتُنظم المناظرات، وتُلقى الخطب الرنانة عن المساواة وعدم التمييز، لكن في الشارع، في لحظة بسيطة وعفوية، ينهار كل هذا البناء الرمزي أمام سلوك يومي يكشف أن بعض الحقوق ما زالت حبرا على ورق، وأن الإنسان القريب غالبا ما يُنسى لصالح الصورة العامة والاهتمام الذاتي.

الصورة أيضا تعرّي منطقا ثقافيا راسخا، لا يخص بلدا بعينه ولا نظاما محددا، بل يمتد حتى إلى المجتمعات التي تقدم نفسها كحارسة كونية لحقوق الإنسان. منطق يرى في بعض الأفراد أدوات خدمة لا ذواتا كاملة، ويبرر الفوارق باسم البروتوكول أو العادة أو طبيعة العمل، متناسيًا أن جوهر الحقوقي الحقيقي يظهر في التفاصيل الصغيرة، لا في البيانات الرسمية والشعارات الجوفاء.

ما يجعل هذه الصورة مستفزة ليس ما تُظهره فقط، بل ما تفضحه دون أن تتكلم. إنها تضعنا أمام سؤال أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا: هل حقوق الإنسان ثقافة نعيشها أم خطاب نستهلكه؟ هل هي ممارسة يومية تبدأ من أبسط العلاقات، أم لافتة تُرفع عند الحاجة ثم تُطوى؟ حين تصبح المظلة حكرا على شخص واحد، يصبح الحديث عن المساواة مجرد ادعاء هش.

في النهاية، لا تحاكم هذه الصورة شخصا، بل تحاكم ذهنية تفصل بين المنصب والإنسان، وتنسى أن الكرامة لا تعرف السلم الإداري.

صورة واحدة تحت المطر كانت كافية لتذكيرنا بأن حقوق الإنسان لا تُقاس بعدد الندوات، بل بقدرتنا على أن نشعر ببرودة الآخر… وأن نمسك المظلة معا.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
12°
16°
الأربعاء
16°
الخميس
16°
الجمعة
16°
السبت

كاريكاتير

حديث الصورة