معظم النار من مستصغر الشرر… عن احتجاجات المغرب وأسئلتها الصعبة

29 سبتمبر 2025 20:43

هوية بريس – شريف السليماني

في شوارع المغرب خرج شبابٌ بلا قيادة حزبية، ولا نقابية، ولا مظلة تقليدية. خرجوا بتلقائيةٍ صادقة، قد تبدو للبعض فورةً عابرة. لكن التاريخ يعلّمنا أن معظم النار من مستصغر الشرر: شرارةٌ صغيرة يُستهان بها، فإذا بها تشعل ما لا يُطفأ.

هذه التلقائية لها وجهان متلازمان:

وجهٌ إيجابيّ: صدق المطالب ونقاؤها، بلا ركوب حزبي ولا أجندات خفية.

وجهٌ خطير: غياب التأطير يجعل المظاهرات بلا بوصلة واضحة؛ من يفاوض باسمها؟ من يضبط مسارها؟ ومن يضمن ألّا تُختطف أو تنفلت؟

وما لا يقل خطورةً هو أن أطرافًا اعتادت ركوب مثل هذه الأمواج قد تلتحق لاحقًا بالحراك لتصفية حساباتها، فتُحرّفه عن مطالبه الأصلية: الصحة والتعليم والكرامة.

ماذا يريد هؤلاء؟ ولماذا يتظاهرون؟

الاحتقان ليس وليد اليوم، بل حصيلة سنوات من غلاءٍ ينهك الجيوب، وبطالةٍ تُغلق الأبواب، وفقدان ثقةٍ بين المواطن والمسؤول. في قلب المطالب كلمتان بسيطتان: الصحة والتعليم. فحين لا يجد المريض سريرًا ولا دواءً، وحين يكتظ القسمُ بتلاميذ بلا أساتذة، تصبح الكرامةُ اليومية على المحك.

أكتب وأنا أشتغل في قطاع الصحة ببلجيكا. قرأت اليوم خبرًا جعلني أقف مذهولًا: أحد المستشفيات افتتح قسمًا خاصًا لاستقبال الأصحّاء -نعم، أناس بلا أعراض- فقط لإجراء فحوصات وقائية. هنا يدخل الناس المستشفى طلبًا للطمأنينة قبل المرض. أما في بلداننا، فكثير من المرضى -نساءً ورجالًا- لا يجدون سريرًا ولا موعدًا قريبًا، وقد يفقدون حياتهم عند أبواب المستشفيات. أي فجوة هذه؟

يزيد من المرارة اختلال أولويات الإنفاق: مليارات تُضخّ في الملاعب والبنى التحتية الرياضية والتحضيرات للبطولات، بينما الصحة والتعليم -أساس العمران- يُتركان لمصير الغرف المتهالكة والأقسام المكتظة. ما جدوى ملعب فاخر إذا كان جسد المواطن عليلًا وعقله مُهمَلًا؟

لكن الأخطر في المشهد هو غياب ثقافة الإنصات. الناس لا يطلبون المعجزات، بقدر ما يطلبون من يسمعهم ويشاركهم همومهم ويقول لهم: نحن نشعر بكم ونبحث عن حلول معكم. غير أن السياسي حين يبقى في برجه العاجي، يضاعف الفجوة ويزيد الضجيج.

وهنا يبرز تحول آخر لا يقل أهمية: هذه الأجيال الجديدة ليست كالأجيال السابقة. في الماضي، كان مجرد ظهور عنصر من القوات المساعدة كافيًا ليجعل الناس يهرولون خوفًا، أما اليوم فشباب في سن المراهقة يواجهون رجال الشرطة ويغامرون بلا رهبة. جيل الأمس كان أكثر ميلًا إلى الدبلوماسية في التعبير، يختار ألفاظه بعناية ويتجنب تسمية الأشياء بأسمائها الصريحة.

أما جيل اليوم فقد كسر هذه الحواجز، وصار أكثر جرأة في لغته، وأعلى في سقف مطالبه. بل قد يوجّه خطابه مباشرة إلى الملك نفسه، في سابقة تعكس جرأة غير معهودة. وإذا لم يُنصت إليه أحد، فقد يفاجئ الجميع بلهجته العالية وسقفه غير المسبوق.

نتذكّر هنا ما قاله القذافي للثوار: «من أنتم؟». لم يكن سؤال استفهام، بل سؤال تبخيس وازدراء. وحين يُجابَه الغضب الشعبي بالاستخفاف بدل الإصغاء، يكون أول حجر قد وُضع في طريق الانفجار.

السؤال الخطير الآن: كيف ستنتهي هذه المظاهرات؟ كيف ستستجيب الدولة لمطالب الشباب؟ ومتى – وكيف – سيرضون؟
لكن السؤال الأعمق هو: من هو الحزب أو التيار أو الشخص القادر فعلاً على تقديم بديل أفضل من الوضع الراهن؟ وكيف نضمن أن أي تغيير لن يجرّ البلاد إلى مغامرة تُضيّع الاستقرار بدل أن تحافظ عليه؟

ولعلّ من أهم أسباب فقدان الثقة اليوم أن كل الأحزاب تقريبًا قد جُرِّبت، وكل الشخصيات البارزة استُهلكت في مواقع المسؤولية، ومع ذلك ظلّت نفس الأزمات قائمة. وهنا يبرز سؤال جوهري: كيف نضمن أن الذي فشل في الأمس سينجح غدًا؟ وكيف نقنع الناس أن التغيير لن يكون مجرد إعادة تدوير للوجوه والشعارات؟ إنها أسئلة لا بد من الوقوف عندها بجدية قبل أن نغامر بتجارب جديدة.

إن ما لا نريده هو أن ندور في حلقة مفرغة: نرفع شعار التغيير، لنكتشف بعد سنوات أننا في نفس المكان أو تراجعنا إلى الوراء. التغيير الذي يستحق أن يُغامر الناس من أجله هو ذلك الذي يجمع بين شرطين أساسيين: الحفاظ على الاستقرار، وضمان الأفضل في الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية.

هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن تُطرح بجرأة. أما الأجوبة، فهي ما سيحدد إن كانت هذه الشرارة ستنطفئ سريعًا… أم تتحول إلى نارٍ لا تُبقي ولا تذر.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
9°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة