مغالطة التضاد بين العلم والشريعة
هوية بريس – سعيد المرواني
المغالطة والغلط متوقعان ومقبولان من الباحث، لكن هذا القبول يكون في ضوء ما لديه من إحصاءات أو نقولات بعضها يخالف بعضا، مما يدفعه للاجتهاد والترجيح النزيه دون تغليب ميولاته وأفكاره، وقد يغلب ما يشتهيه باستعمال ما لديه من نقل داعم ﻷطروحة أو فكرة أو حتى هوس ما. لكن من غير المقبول الولوغ في العدمية أو السلبية داخل مسألة شديدة الوضوح وبناء نتائج وأحكام مطلقة على الشذوذ.
عندما نسمع دعاوى محزنة (الحزن هنا استغراب من الخطيئة الفهمية) مثل أن سبب التخلف المادي المعاصر في بلاد المسلمين هي عقيدة أهل السنة والجماعة، وأن علماء المسلمين المتخصصين في العلوم المادية “الكيمياء الرياضيات الطب…” على مر التاريخ إما ملاحدة أو فارين من السلطة.
وكأني بالقائل هزيل الحجة ومع ذلك يتجاسر على دعوى هائلة، ومن باب المجادلة بالحسنى لن أتحدث عن نفسية هذا القائل، وبعون الله من خلال بضع نقولات ستظهر الخطيئة الكبرى التي ادعاها وأطلقها إطلاقا.
(أمر الخليفة المأمون عالم الرياضيات المشهور في بغداد الخوارزمي أن يتفرغ لعلم جديد أو وسيلة جديدة لحل المعادلات الصعبة التي تواجه المشتغلين بالحساب. إذ يقول الخوارزمي في مقدمة كتاب “الجبر والمقابلة”: “لقد شجعنا ما فضل به الإمام المأمون أمير المؤمنين مع الخلافة التي حاز له إرثها وأكرمه بلباسها وحلاه بزينتها من الرغبة في العلم وتقريب أهله وإدنائهم، وبسط كنفه لهم ومعونته إياهم على أني ألفت له كتاب الجبر والمقابلة)1.
وشرح الخوارزمي الهدف من هذا العلم الجليل فقال: “لما يلزم الناس من الحاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم وفي مقاسمتهم وأحكامهم وتجارتهم وفي جميع ما يتعاملون بهم بينهم من مساحة الأرضين وكرى اﻷنهار والهندسة وغير ذلك من وجوهه وفنونه..”، وكان الخوارزمي قد بدأ كتابه بالبسملة2.
ماذا يصنع ذاك القائل بهذا النقل الذي من جهة يظهر تناغما بين السلطة وعالم من علماء الرياضيات. ومن جهة أخرى كل من الطالب والمطلوب منه مسلمين؛ فالخوارزمي بدأ كتابه بالبسملة وبين علة التأليف -ما يلزم الناس من الحاجة إليه في المواريث واﻷحكام والوصايا والتجارة-، وما الإرث والأحكام والوصايا وغيرها إلا شريعة أو معاملات مؤطرة بالشريعة، ﻷن المأمون بالرغم من أنه كان متشددا في القول ببدعة “خلق القرآن” إلا أنه كان لديه علم بالحديث وروى عن الناس وروي عنه. قال الذهبي في السير (“كان المأمون عالما فصيحا مفوها”، وعن المأمون “أنه تلا في رمضان ثلاثا وثلاثين ختمة”، وعن الحسين بن فهم، حدثنا يحيى بن أكثم، قال لي المأمون: أريد أن أحدث. قلت: ومن أولى بهذا منك؟ قال : ضعوا لي منبرا، ثم صعد”3.
كان لدى المأمون فقه وعلم، ولم ينقل عنه الذهبي زللا آخر في عقائد أهل السنة والجماعة غير مسألة خلق القرآن. وهل من يختم ثلاثا وثلاثين ختمة في رمضان إلا شخص يعلم أنه وحي من عند الله، وعقائده هي الأصل وأحكامه العمل بها لازم. كما نقلوا عنه أنه كان فقيه النفس.
أما الخوارزمي فرغم قلة النقول في التعريف به وارتباطه بالعلم الشرعي إلا أنه بدأ كتابه بالبسملة على قاعدة علماء المسلمين في افتتاح كتبهم وتآليفهم، إذ هو إمضاء إسلامي. كما أن علة التأليف والتنبيه على هدف هذا العلم بمجمله حسب قوله “هو تسهيل حياة المسلمين في المواريث واﻷحكام والوصايا” تبين حرص العلماء على تيسير إنتاجهم لخدمة الدين الإسلامي وأحكامه المبنية على النقل والتي كانت معتمدة في حكم الدولة العباسية.
وهل القائل يعتبر أن القول بخلق القرآن هو الفرقان بين التقدم والتخلف؟ ماذا عن كليات العقائد المتفق عليها بين الطوائف؟ وماذا عن أصل الاستسلام لله ورسوله الذي تسلم به كل الطوائف بمختلف أفهامها واختياراتها؟ وماذا عن اعتبار الطوائف أن النقل أصل تشريعي سواء من القرآن أو السنة؟ وهل سيقبل العمل بما كان عليه الحاكم والمحكوم من مذاهب فقهية إسلامية خلال عهد العباسيين وغيرهم -المذهب الحنفي أو المالكي أو الشافعي أو الحنبلي-؟
وهذا نقل آخر حول عبد الملك بن زهر الفقيه الطبيب رحمه الله، فبعد أن درس عبد الملك الأدب والفقه وعلوم الشريعة، تعلم الطب على والده “أبي العلاء”.
وقد عاصر ابن زهر المرابطين والموحدين في الأندلس، وعايشهم مبقياً مسافة كافية بينه وبين سياسات كلتا الدولتين؛ فقد كان رفيع المكانة عند المرابطين هو وأبوه أبو العلاء، حتى إنه ألف كتاب “الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد”، ويسمى أيضاً “الزينة”، بطلب من أمير مرابطي، ثم علا شأنه عند الموحدين بعدهم. وكان الملوك، وإن اختلفت نظمهم ودولهم، يعلون شأن العلماء، ولو كانت لهم صلات حميمة برؤساء الدول السابقة.
كما ألف “الترياق الخمسيني” للمنصور أبو يوسف يعقوب الموحدي4.
يقول ابن زهر في آخر كتابه “التيسير في المداواة والتدبير”: “وإذ قد أتيت من القول ما أردت إتيانه، فأنا قاطع القول إذ استتممته وبالله التوفيق”، وقال في المقدمة: “إني والشاهد الله”5.
فعائلة ابن زهر كانت أهل فقه وطب، عاصرت دولتي المرابطين والموحدين، فاﻷولى غلب عليها الفقه بشكل عام، والثانية غلب عليها الحديث بشكل عام، وابن زهر معلوم إسلامه وسنيته.
ومما قيل عن قيمة التراث المعرفي لابن زهر، ما قاله الباحث الفرنسي “كولان” في دراسته عن حياة ابن زهر6: “ونجد في آثار ابن زهر، لا نظريات أصيلة فحسب، ولكن نجد أيضا ابتكارات مستحدثة لم يسبق إليها أحد،..”.
علماء الطب والهيئة كانوا يحظون بمنزلة لدى الحكام ومنهم الفقيه والمحدث.
قال المستشرق الفرنسي سارتون “إن ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة، بل أعظم علماء الطبيعة في القرون الوسطى، ومن علماء البصريات القليلين المشهورين في العالم كله”7.
وقال العالم الفرنسي لوتير فياردو: “إن كبلر أخذ معلوماته في الضوء ولا سيما فيما يتعلق بالانكسار الضوئي في الجو من كتب ابن الهيثم”8، أما ماكس مايرهوف فقال: “إن عظمة الابتكار الإسلامي تتجلى في البصريات..”9.
أما ابن الهيثم نفسه فقد قال في مخطوطة الحركة المتعرجة “مما قاله الشيخ الجليل، فمن الواضح أنه يعتقد في كل ما يقوله بطلموس، دون الاعتماد على إثبات أو دليل، ولكن عن طريق التقليد الخالص، وهو مما لا يجوز إلا في اتباع سنن اﻷنبياء عليهم السلام، لا مع المختصين بالرياضيات”.
مما يستنتج من قول ابن الهيثم العالم الكبير في البصريات أنه يسلم للأنبياء بوجوب اتباعهم وتقليدهم حتى في حالات عدم إدراك العقل لمقصد حكم شرعي أو سنة، وهل بعد هذا تسليم وتوحيد وتصديق عند من ذكر فيه المستشرقون مقولاتهم الخالدة، وأثنوا على علمه وابتكاراته، وأكد المؤرخان ضياء الدين سردار و لورانس بيتاني أنه سني؟!
ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع الحقيقي، قال فيه عالم الاجتماع الشهير جمبلوفتش: “لقد أردنا أن ندلل على أنه قبل أوجست كونت، بل قبل فيكو الذي أراد الإيطاليون أن يجعلوا منه أول اجتماعي أوروبي، جاء مسلم تقي، فدرس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأتى في هذا الموضوع بآراء عميقة، وإن ما كتبه هو ما نسميه اليوم علم الاجتماع”10.
نقل ابن خلدون عن بعض مشايخه “شرح صحيح البخاري دين على الأمة” وحث ابن خلدون اﻷمة على مزيد شرح لصحيح البخاري وهذا تدليل صريح على سنيته، ولا يخفى على الناس أن صحيح البخاري يحتوي على مجمل عقائد أهل السنة والجماعة بل من الكتب المؤسسة لاتباع المنقول والبحث فيه واستخراج الأحكام والعمل بالصحيح منها.
وهذا ابن القاضي (960هجرية) المغربي كان متضلعا في العلوم الشرعية كالفقه والحديث عالما باﻷدب والتاريخ بارعا في الحساب والفرائض، ومن كتبه كتاب “غنيمة الرافض في طبقات أهل الحساب والفرائض”، وكتاب “مدخل إلى الهندسة”.
ولم يكن مطاردا أو مبعدا بل بالعكس لقد أسرته سفن اﻹفرنج وفداه السلطان أبو العباس المنصور الذهبي السعدي بمال كثير.
هذا المثال الأخير يبين مدى سطحية القول بأن علماء المادة أو حتى المنطق والفلسفة كانوا مطاردين من قبل السلاطين أو مجرد ملاحدة.
وهذا ابن غازي أيضا (858هجرية) كانت له مشاركات في الرياضيات، وكان شيخ الجماعة بفاس، وكان أستاذا ماهرا مبرزا في القرآن الكريم والعربية والفقه والحديث، من بين كتبه “منية الحساب في علم الحساب”.
أما قطب الدين الشيرازي (634هجرية)، فله كتب في الفلك والحساب والهندسة والطب، وكانت علاقته بالملوك جيدة، وفي آخر حياته وضع بعض المؤلفات في الحديث والقرآن.
وشرف الدين الطيبي (743هجرية) من علماء الحديث والتفسير والبيان، كانت له ثروة طائلة من الإرث والتجارة أنفقها في وجوه الخير حتى افتقر، وكان ملازما لتعليم الطلبة والإنفاق على ذوي الحاجة، وله كتاب اسمه “مقدمات في علم الحساب”.
وإذا انتقالنا إلى ابن حمزة المغربي من علماء القرن العاشر للهجرة وواضع أصول اللوغاريتمات أقام مدة في استنمبول حيث درس العلم، ثم عاد أواخر القرن العاشر للهجرة إلى بلاد الجزائر، ومنها توجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج؛ وبحوثه في المتواليات كانت الأساس الذي بني عليه فرع اللوغاريتمات في الرياضيات، ولديه ما يسمى المسألة المكية، فالحج من أسباب اجتماع المسلمين من مختلف بقاع العالم، حيث أن حاجا هنديا سأله مسألة في الإرث عجز علماء الهند على إيجاد حل مرض لها، فوضع لها بن حمزة حلا مبتكرا رياضيا يدل على فطنته وذكائه في مسائل المتواليات، وعلى قوة عقله في حل المسائل الرياضية.
وهذا يبين كيف أن مسائل الفرائض الدقيقة والصعبة دفعت علماء الرياضيات من المسلمين لابتكار حلولها والاجتهاد في البحث والتدقيق، وأن الدين هو محرك لإبداع العقل خصوصا في المسائل الفقهية، وبالأخص علم الفرائض.
هذه بعض الأمثلة، وما زال هناك الكثير يترك للبحث في مصادره؛ ولعل من يطرح إشكالات لا ترِد على ديننا الإسلامي ابتداء وانتهاء، قد تبين له خطأ فرضياته المصطنعة، وعليه بمزيد بحث ليتأكد من أن ليس هناك تضادا بين الشريعة والعلم المادي بمفهومه المعاصر ولا حتى مع العلوم الانسانية خصوصا المتزن منها، وحتى التصادمات التي وقعت ليست أصلا بل عوارض تمر ويستمر العلماء في الجمع بين العلوم الدينية السنية والعلوم المادية بل حتى الفلسفية المتزنة منها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (2) الجبر والمقابلة.
(3) سير أعلام النبلاء.
(4) ويكبيديا.
(5) التيسير في المداواة والتدبير.
(6) منشورات كلية اﻵداب الجزائر العاصمة، مجلد 44 باريس 1911.
(7-8-9) “السبق العلمي لعلماء العرب والمسلمين.. في الرياضيات-الفيزياء-الكمياء-الفلك” لسمير محمد عثمان الحفناوي.
(10) “الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع.. الدواعي والإمكان” لمنصور زويد المطيري.
جزاك الله خيرا
مقال يقيم الحجة على المتشككين القائلين بالفصل بين الدين والعلم وغيرهم من القائلين بأن المسلمين لم يقدموا.