مفاتيح الخير
هوية بريس – د.محمد ويلالي
تعتري المسلم في هذه الدنيا حالات اختبار عديدة، يترقى فيها في درجات الإيمان، والصبر، والشكر، واليقين، ما يؤهله لدخول الجنة، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقا. وهذا يقتضي معرفة أبواب الخير، ومعرفة مفاتيح الخير.
وقد تعترض طريقه مجموعة من المعيقات، التي تجره إلى الأسفل، تثبط عزيمته، وتطفئ جذوة إيمانه، وتزين له اللذات والشهوات.. وقد تهوي به في حمأة المعاصي، ودوامة الذنوب والخطايا، فهو بين خير وشر، بين إقبال على الله وإدبار منه، بين طاعة وعصيان، والمعصوم من عصم الله، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ” البخاري.
ونبيا صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى تركنا على المحجة البيضاء: ليها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فبين لنا طريق الخير وأمرنا باتباعه، كما بين لنا طريق الشر، وحذرنا من انتهاجه. قال صلى الله عليه وسلم: “إنَّهُ ليس شيءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى الجنةِ إلَّا قد أَمَرْتُكُمْ بهِ، و ليس شيءٌ يُقَرِّبُكُمْ إلى النارِ إِلَّا قد نَهَيْتُكُمْ عنهُ” الصحيحة.
وعلمنا صلى الله عليه وسلم أن خيرنا وأفضلنا، من أجرى الله عليه يديه مفاتيح الخير، وأغلق على يديه مفاتيح الشر، فقال صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ، مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ. وَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ” صحيح سنن ابن ماجة.
وهذا ما جعل بعض الصحابة الكرام يتحرى أن يعرف الشر ومداخله، حتى يتقيه ولا يقع فيه، كما قال حذيفة بن اليمان t: “كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ، مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي” متفق عليه.
وأبواب الخير التي دلنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة، منها:
ـ تحقيق النفع للناس. قال صلى الله عليه وسلم: “المُؤمِنُ يألَفُ ويُؤلَفُ، ولا خيرَ فيمَنْ لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ. وخيرُ النَّاسِ، أنفَعُهم للنَّاسِ” الصحيحة.
ـ ومنها: أن يطول العمر في طاعة الله والعمل الحسن، فلا خير في مائة سنة يعيشها أحدنا، وصحيفته من الخير خاوية، ومن العمل الصالح فارغة. وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن خير الناس فقال: “مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ”، وسئل عن شر الناس فقال: “مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ“ صحيح سنن الترمذي. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي”.
إِذَا مَا مَضَى يَوْمٌ وَلَمْ أَصْطَنِعْ يَدًا * وَلَمْ أَقْتَبِسْ عِلْمًا فَمَا هُوَ مِنْ عُمْرِي
وهذا أبو بكر بن حبيب ـ رحمه الله ـ لما أدركته الوفاة، قال له أصحابه: أوصنا. فقال: “أوصيكم بثلاث: بتقوى الله ـ عز وجل ـ، ومراقبته في الخلوة، واحذروا مصرعي هذا، فقد عشت إحدى وستين سنة، وما كأني رأيت الدنيا”.
ـ ومنها: أن يحسن المسلم أمانة المعاملات المادية، من بيع، وشراء، وإجارة، وقرض، وقضاء.. فعن أبي رافع أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا (الفتي من الإبل) وَقَالَ: “إِذَا جَاءَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ، قَضَيْنَاكَ”. فَلَمَّا قَدِمَتْ قَالَ: “يَا أَبَا رَافِعٍ، اقْضِ هَذَا الرَّجُلَ بَكْرَهُ”. قال: فَلَمْ أَجِدْ إِلاَّ رَبَاعِيًا فَصَاعِدًا (أي: أكبر من الجمل الذي استسلفه النبي صلى الله عليه وسلم)، فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: “أَعْطِهِ، فَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ، أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً” صحيح سنن ابن ماجة.
ـ ومنها: أن يكف أذاه عن الناس، وأن لا يمشي بينهم إلا بالحسنى. قال صلى الله عليه وسلم: “خَيْرُكُمْ مَنْ يُرْجَى خَيْرُهُ، وَيُؤْمَنُ شَرُّهُ. وَشَرُّكُمْ مَنْ لاَ يُرْجَى خَيْرُهُ، وَلاَ يُؤْمَنُ شَرُّهُ” صحيح سنن الترمذي. وقد سأل رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ فقَالَ: “مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ” متفق عليه. قال ـ تعالى ـ: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
ـ ومنها أن يكون على خلق حسن، وسلوك طيب، فلا ينعته الناس إلا بالكلام الطيب، وصدق السيرة، وسلامة السريرة. قال عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا، وَلاَ مُتَفَحِّشًا. وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: “إِنَّ خِيَارَكُمْ، أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا” متفق عليه.
ـ ومها: أن يكون المسلم سليم الصدر تجاه إخوانه، لا يحمل لهم غلا، ولا ضغينة، ولا حسدا، سهل عليهم لين، يؤمن جانبه، وتسهل عشرته. فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خيرُ الناسِ، ذُو القلبِ المخمُومِ، واللسانِ الصّادِقِ“. قِيلَ: ما القلبُ المخمُومِ؟ قال: “هو التَّقِيُّ، النَّقِيُّ، الذي لا إِثْمَ فيه، ولا بَغْيَ، ولا حَسَدَ“. قِيلَ: فَمَنْ على أثَرِهِ؟ قال: “الَّذي يَشْنَأُ الدُّنيا، ويُحِبُّ الآخِرةَ“. قِيلَ: فمَنْ على أثَرِهِ؟ قال: “مُؤمِنٌ في خُلُقٍ حَسَنٍ” صحيح الجامع.
ـ ومن هذه الخيرية ـ أيضا ـ أن يكون كريما، يطعم الطعام، ويكرم المحتاجين، ويشبع جوعة المعوزين. قال صلى الله عليه وسلم: “خيرُكُمْ مَنْ أَطْعَمَ الطعامَ، وردَّ السلامَ” صحيح الجامع. ولاحِظْ أنه صلى الله عليه وسلم قرن خصلة الكرم بخصلة إفشاء السلام ورد السلام، لما في ذلك من نشر الأمن والأمان، ونزع فتائل الضغينة والعدوان.
أمرُّ بصاحبي أُلقي السَلاما * أميلُ إليهِ حُبًّا واحتراما
فما أصفى القلوبَ إذا تآخَتْ * وأشقاها إذا شُحِنَتْ خِصاما
إنها بعض أبواب الخير التي دلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مفاتيحها، لتكون لنا ميدانا للمسارعة والمنافسة، وفي مقابلها أبواب الشر التي حذرنا منها وما يقرب إليها. فالطريق طويل، والعمر قصير، والزاد قليل، والناس اليوم تتساقط حوالينا في كل غمضة عين، بسبب الأمراض، والأوبئة، والجوائح، لا يصطحبون معهم إلى قبورهم أموالهم، ولا أولادهم، ولا ألقابهم. ومن جميل كلام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه القيم: “حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح”: “وهذا باب عظيم من أنفع أبواب العلم، وهو معرفة مفاتيح الخير والشر، لا يُوفَّق لمعرفته ومراعاته إلا من عَظُم حظه وتوفيقه؛ فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ جعل لكل خير وشر مفتاحا وبابا يُدخَل منه إليه“. ثم قال: “فينبغي للعبد أن يعتني كل الاعتناء بمعرفة المفاتيح وما جعلت المفاتيح له”. ثم عَدَّدَ ـ رحمه الله ـ أمثلة لمفاتيح الخير، ومفاتيح الشر، سنحاول أن نأتي على بعضها في مناسبات قادمة إن شاء الله ـ تعالى ـ.