مفهوم الربا لا و لن يتغير..
هوية بريس – يونس فنيش
المشهد: مواطن من عامة الناس مختص في مجال كرة القدم يعالج قضية “الربا” في إذاعة من الإذاعات الواسعة الإنتشار، مستهلا كلامه بما أصبح يعاد تكراره كالأسطوانة المشروخة من طرف بعض ضيوف البرامج في شتى المنابر بالصوت و الصورة كيفما اتفق كمقدمة لكل المواضيع و لكل موضوع كيفما كان شكله و جوهره، قائلا -ما معناه- بأن “سبب الإستعمار هو التخلف الذي جاء نتيجة منع الفكر و الإجتهاد و التنكيل بالعلماء منذ قرون مضت، و بأن المسلمين اليوم يتبجحون بهؤلاء العلماء المنكل بهم عبر التاريخ”… طيب.
سؤال: من نكل بهم؟ جواب: حكام المجتمع آنذاك طبعا. و لماذا نكلوا بهم؟ لأنهم كانوا يشكلون خطرا على نظام الحكم القائم آنذاك. فهل “منع الفكر و الإجتهاد” آنذاك كان بسبب ديني شامل أو سياسي ضيق؟ الله أعلم. ولكن ألم ينكل حكام النصارى، مثلا، بعلمائهم خلال قرون مضت، و لماذا لم يمنعهم ذلك من التبجح بهم اليوم…؟ حسنا.
هل مفهوم الربا سابقا هو نفس مفهوم الربا حاليا؟ نعم قطعا و بكل تأكيد، لأن كلمة الربا وردت في القرآن الكريم الذي يصلح لكل زمان و مكان إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. فأن تكون شخصا لديك مالا فتقرض مبلغا منه لمحتاج على أن يسدد دينه لك بزيادة ضعف المبلغ المقترض أو أضعافا مضاعفة، مثلا، فهذه ربا بواحة لا تحتاج إلى أي شرح و لا تفسير لا من فقهاء و لا من علماء، و الربا حرام.
و أما و أن شكل المعاملات الإقتصادية و المالية تغير جذريا نظرا للنمو الديمغرافي و التوسع العمراني و التطور الصناعي، أصبح الحديث عن البنوك و مؤسسات القرض التي تمنح قروضا بالفائدة، فهل الأمر يتعلق بالربا أو بشيء آخر؟
هذا سؤال مازال يطرح من حين لآخر و هو السؤال الذي مازال يستدعي الإستئناس برأي الفقهاء و العلماء، يستدعي رأيهم و شروحاتهم و تفسيراتهم سواء كانوا من السابقين أو من المعاصرين، قبل الحكم أو اتخاذ موقف شخصي في هذا الشأن. إذ لابد من الإطلاع على شتى المواقف و الآراء لتتضح الرؤية لمن يطرح على نفسه سؤال هل القروض البنكية ربا أم ليست ربا، علما أنه من الصعب الجزم بأن لدينا إجماع تام حول هذه المسألة… فهناك من يفتي لنفسه أو لغيره حسب نسبة الفائدة المائوية المطبقة، و هناك من له حكم قطعي لا يعتمد النسبية في هذا الأمر، إلى آخره…
الحال أن الناس يحتاجون إلى البنك من أجل ادخار أموالهم و من أجل معاملاتهم المالية، و مقابل هذه الخدمة تتقاضى البنك أجرة. و لما يمر أحدهم بضائقة مالية مؤقتة أو يكون في حاجة لمبلغ ضخم نسبيا، تتطلبه مثلا نفقات التعليم أو الصحة أو السكن مثلا، مبلغ لا يتوفر عليه فلا يستطيع تسديده دفعة واحدة ولكن بأقساط شهرية، يلجأ إلى البنك و يتسلم المبلغ، فهل نعتبر أن الفائدة التي تأخذها البنك “ربا” أو “أجرة مقابل خدمة”، إذا اعتبرنا أن البنك إدارة أو مؤسسة لديها موظفين أو مستخدمين و آلات و آليات و تجهيزات جد مكلفة ضرورية من أجل ضبط حسابات الناس ناهيك عن كونها شركة ربحية…؟
الرأي أن البحث و التحري لإيجاد الجواب لا يمكن إلا أن يقود المرء إلى تكوين قناعة شخصية فقط من أجل راحة ضميره، و ليس من أجل إسقاط قناعته على الآخرين أو فرضها عليهم. و عادة ما ينقسم الناس حول هذه المسألة إلى أربعة أصناف:
1- من يعتبر أن القروض البنكية من الربا فيستغني عنها مهما حصل.
2- من يعتبر أنها ليست من الربا.
3- من يعتبر أن ليس عليه حرج نظرا للضرورة.
4- من يلجأ إليها و يرجو مغفرة من الله دون البحث عن أي تبرير.
و أما بعض الحلول التي اعتمدتها بعض البنوك لتفادي “القرض بالفائدة”، فلقد اتضح و الله أعلم أنها مجرد مناورة غير موفقة أو تحايل ساذج؛ إذ تعمد تلك البنوك في مجال السكن، مثلا، إلى شراء المنزل الذي يريده الزبون و تعيد بيعه له بثمن مضاعف، و قد تتم العملية في نفس اليوم أو في نفس الوقت بحضور جميع الأطراف، على أن يؤدي الزبون ثمن المنزل للبنك في أقساط لمدة معينة “بدون فوائد على القرض”، في مشهد قد لا يختلف كثيرا، و الله أعلم، عن من يلقي بشباكه في البحر يوم الجمعة ليحصل على السمك يوم الأحد، حتى لا يقال أنه اصطاد السمك يوم السبت…
إذا فالقضية بسيطة و واضحة لا تستحق كل هذا الهرج و كثرة الكلام بلا فائدة في الإذاعة و الصحافة، ناهيك عن كونها قضية تتعلق بموضوع لا يمكن الحسم فيه نظرا لكثرة الآراء المختلفة في شأنه، كما أن مناقشته لن تغير النظام المالي العالمي، إلا إن كان من نظرية جديدة أفضل و أنجع في شؤون المال و الإقتصاد، و هذا طبعا ليس في متناول الخائضين من عامة الناس الذين أصبحوا يتحدثون في شتى الإذاعات في كل المواضيع من علم الفلك إلى الحفريات مرورا بالطب النووي؛ و لا حول و لا قوة إلا بالله.
خلاصة : الربا حرام. و أما الفائدة البنكية فكل حسب دنياه، و لن أبدي برأيي في هذا الموضوع، بل لن أحاول أن أقنع أحدا بما يجب فعله لأن العلم علم الله، و كل مسؤول عن إعمال عقله و اتخاذ القرار الذي يراه مناسبا، لن أبدي برأيي على العلن حتى لا أتحمل التبعات في الآخرة إن كنت مخطأ. و الله أعلم و العلم لله الواحد القهار.