“مقاتلو رفح” يلخصون الحكاية

هوية بريس – الشيخ أبو أمجد الغزي
منذ أن ظهرت أزمة مقاتلي رفح وأجد قلمي يتلعثم ماذا يقول وبماذا يعبر!؛ وذلك لأنَّ سطوةَ المشاعر تسيطر على الأفكار والخواطر.
إنَّ تلك البقعة المسماة برفح من جملة الأرض المقدسة والتي تدخل في نطاق أكناف بيت المقدس ومن جملة الأرض المباركة التي بارك الله فيها للعالمين، وتضم في بطنها أكثر من مائة مجاهدٍ من خيرة المجاهدين على ثرى هذه الأرض الذين تقدموا لقلب المعركة وأهوالها يقاتلون الكيان الصهيوني ومن خلفه النظام الدولي.
لقد تقدموا باختيارهم، ونزلوا في الأنفاق بكامل رغبتهم وهم يعلمون أن الأرض ترجف من تحت أقدامهم، ولا يخفى عليهم أن خبرات البشرية العسكرية تصب في معسكر الكيان، ولكنهم تقدموا وثبتوا وقاتلوا.
حاولت أن أتخيل أحوالهم الآن وهم يرون اليوم تلو اليوم يمضي والأسبوع تلو الأسبوع والشهر تلو الشهر لعل دولةً من دول الأمة أو مُكَوِّنًا فاعلًا منها يستطيع أن يكون سببًا في إخراجهم، ولكنهم صاروا في دائرة النسيان والإهمال بعد أن عانوا سنتين طويلتين من أهوال الإبادة والاستئصال.
إن المجاهدين في الأنفاق يعلمون أن العدو يعمل على تفجير العيون وتشريكها بالمتفجرات وضخ الغاز فيها، ولهم طرائق في مدافعة ذلك لئلا يصل إليهم الغاز القاتل وما أدراك ما الغاز القاتل! ولكنهم إذا فقدوا الطعام فلا بد من الخروج، والجوع إذا طال فإنه ذو سلطانٍ شديد، ولئن صبروا أو تدبروا أمرهم بما يكفيهم من الطعام فماذا يفعلون مع العطش!
وهذا وغيره من ظروف التنقل التي يحمل عليها شكل المعركة في رفح بما في ذلك تتبع العدو لهم لا بد وأن يحملهم على الخروج إلى الأعلى أحيانًا، فإذا خرج الواحد فإنه يعلم أنه قد يتحصل على الماء أو ما يريد، ولكن الخيار الأقوى لديه أنه إما قتيلٌ وإما أسير، والأولى أهون لدى السواد الأعظم من المجاهدين من الثانية.
ربما حام بخاطر أحدهم: هل يا ترى تمثل قضيتنا قضية رأي عام أو تحمل أحد أنظمة الدول العربية والإسلامية على التدخل على نحوٍ يقترب أو يبتعد من ذلك الحراك القوي للدول المحيطة وللوسطاء إزاء جثث الأعداء!
لقد كان الجميع يتحرك لأجل إنجاز هذا الملف بكلِّ قوةٍ وحيويةٍ وفاعليةٍ ويُفتح معبر رفح لإدخال الأدوات والمعدات اللازمة لذلك بعد أن كان مغلقًا في وجوه أهل البلد يُمنَعُون الطعام والدواء ثم يعود للإغلاق من جديد، أما سادتنا في بطن الأرض فلا سائل عنهم ولا مكترث بهم فضلًا عن غيرهم من أهل البلد.
إنَّ الواحد من المجاهدين لو استحضر الأنظمة التي تحيط بنا أو التي تُظهِرُ نفسها بالثوب الإسلامي فلربما أخذ يردد قول الشاعر:
وديني دين عز لست أدري…..أذلة قومنا من أين جاؤوا
إنَّ كلمةً من الكلمات التي تُذكَرُ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تلخص طرفًا مما يجري هذه الأيام، تلك الكلمة التي قالها في ثنايا دعاءٍ جليلٍ خاشعٍ يأخذ بالألباب عقب ما لقي من الأذى في الطائف حين جلس في ظل جدار وأخذ يقول:
“اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تَكِلُنِي إلى بعيدٍ يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبي حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك”.
والكلمة التي أريد والتي يمكن أن تتوقف عندها وتتأمل مليًّا ما الذي كان يختلج بصدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقولها أنه يشكو إلى ربه هوانه على الناس!
إن النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء لإنقاذ الناس من النار وإدخالهم إلى الجنة يشكو إلى ربه هوانه على الناس حتى إنه ليُترَك ويؤذى ويُلاحق ويُسَفَّه، صلوات الله وسلامه عليك يا حبيبي يا رسول الله.
ومن الفارق أن المكان الذي جلس فيه يستظل كان جدارًا بالطائف -مركز السياحة يومئذٍ- لاثنين من ألد أعدائه: عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وحين رأوا ما نزل به تحركت الرَّحِمُ في صدورهما وأرسلا غلامًا لهما نصرانيًّا اسمه عدَّاس وقالا له: خذ قطفًا من هذا العنب واذهب به إلى هذا الرجل، فذهب وانتهى الأمر بإسلام عداس!
واليوم نماذج عداس كثر من الغرب والشرق الذين تحركوا لنصرة هذا البلد في مظاهراتٍ صادقة واجتهدوا أن يمدوا هذا البلد بما يحتاج، وانتهى الأمر بإسلام بعضهم.
وأبناء الأمة الإسلامية كثيرٌ كثير منهم تغلو صدورهم ويتابعون الحدث وهم يرون ساسة أنظمتهم لا يلقون لهذا بالًا، وإذا تحركت مشاعر قائدين من قادة مكة لإطعام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يُؤذَى وهو عدوٌّ لهما فهذا يجعل لبيت الشعر المتقدم وجاهة حتى بتنزيله على العرب بالمنظور القومي حتى لقائلٍ أن يقول:
ونسبي نسب عز لست أدري….أذلة قومنا من أين جاؤوا
إنَّ المجاهدين اليوم يحملون الخير للأمة جمعاء، وهم يدافعون عن دينهم وعن مسرى نبيهم صلى الله عليه وسلم ويدافعون عن هذا البلد وعن دول المنطقة التي لا يُخفِي العدو ضمن مشروع إسرائيل الكبرى أنه يريد أن يلتهم جزءًا ضخمًا منها، من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق وتركيا والسعودية وربما أبعد من ذلك في بعض التقادير، ومع ذلك فهم يشكون إلى ربهم هوانهم على الناس.
إنهم كالسراج الذي يحترق ليضيء للسالكين الطريق.
يقف المجاهد من مدة طويلةٍ ثابتًا في خندقه والأمة واقفة في خندق العجز ومن كان ذا قدرةٍ منها ولم يفعل شيئًا فهو مرابطٌ في خندق الخِذلان، وأما الأنظمة الحاكمة فهي مرابطةٌ في خندق التآمر والكيد.
ثلةٌ كريمةٌ عظيمةٌ تدافع عن الأمة ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم وهي مرابطةٌ في الأرض المقدسة ثم تُخذل وتُهمل.
إنَّ المشهد من حيث الإجمال يقص علينا حكاية الأمة، ويعلن أن الاحتلال بالوكالة أشد لعنةً من الاحتلال المباشر.
ومع ما بالنفس من ألم وما بالصدر من نفثات الهم إلا أنَّ وجود هذه الصفوة من المجاهدين ثابتة في ثغور المعركة المتقدمة على مدار سنتين طويلتين دليلٌ حيٌّ على أنَّ العزة في أهل الإسلام لا تموت، وأن الثبات في مواطن الأهوال لا ينتهي.
إنهم يعانون الهوان على الناس، ولكن كم من مُهانٍ في الأرض مُعظَّم في السماء، ووجوههم هي هناك جهة العلي الكبير المتعال، فما يضرهم رواج حكم العبيد، ولهذا ما فكروا في الاستسلام بل هم باقون على جادة البأس وحمل الحديد، ولسوف تنتهي الدنيا ونصير إلى القيامة فهناك المقر والمستقر وهناك الجزاء والعطاء ولقاء الله، {وما عند الله خيرٌ للأبرار}.
اللهم بارك في رفح ومجاهديها ورجالها، اللهم أعظم الأجر والمثوبة لهم واجعل لهم لسان صدقٍ في الآخرين، وتقبل من قضى نحبه منهم ونجِّ من ينتظر ليواصل الطريق حتى يلقاك.
والحمد لله رب العالمين.
تحريرًا عشية الاثنين 10-6-1447هـ الموافق 1-12-2025م.



