«مقالة الأبدعية» لأبي حامد الغزالي بين ابن عربي الحاتمي وطه عبد الرحمن
هوية بريس – ذ. طارق الحمودي
من مشتهرات الأقوال المنتمية ظاهرا إلى الدرس الكلامي الأشعري ما نسب إلى الغزالي من القول بـ”استحالة إمكانية وجود كون أبدع وأحسن من الكون الموجود“، وممن وجهها توجيها كلاميا مناسبا السيوطي في رسالته “تشييد الأركان” -وهو مطبوع- ردا على “تهديم الأركان” للبقاعي -وهو مخطوط- على حسب علمي.
ومن نصوصه الدالة على هذا قوله في الإحياء: “ليس في الإمكان أصلا أحسن منه، ولا أتم ولا أكمل، ولو كان ادخره مع القدرة، ولم يتفضل بفعله، لكان بخلا يناقض الجود، وظلما يناقض العدل، ولو لم يكن قادرا لكان عاجزا يناقض الإلهية“.
وقد جعل الدكتور طه عبد الرحمن -وفقه الله- لهذه القضية جزءا من مباحث كتابه “اللسان والميزان أو التكوثر العقلي” ممهدا له بوقفات منطقية ظهر له أنها تساعد على فهم مقالة الأبدعية، وهو أمر لا شيء فيه بادي الرأي، وقد حصر الدكتور طه عبد الرحمن المتناولين لها نقدا بإطلاق في فرق ثلاثة، فرقة شككت في صحة نسبتها إليه، وهو ما رده عليهم بشاهد الوجود، وفرقة وجهت كلامه بعيدا عن ما قد يبدو من ظاهرها من نفي قدرة الله تعالى على خلق ما هو أفضل من الموجود الآن، بما هو متوافق مع النسق الفكري العام للغزالي، وربما استطرفه، وفرقة أنكرت عليه ذلك بل ربما طعنت في عقيدته.
ولكن حصر طه عبد الرحمن كان ربما بعيدا عن تحقيق شرط الاستقراء، فثم توجيه آخر لنظرية الغزالي لم يذكره الأستاذ طه عبد الرحمن الذي ينتمي إلى المدرسة الصوفية المغربية، ولعل هذا التوجيه الذي لم ينتبه له كان أكثرها طرافة…وخطورة.
لم يكن ما أغفل الأستاذ طه حضورَه أو غفل عنه هنا سوى العقل الذي انتصر له وقدمه على غيره، العقل الذي وصفه بالمؤيد، ويقصد العقل الصوفي، وهو ما يثقل جهة اللوم عليه، فقد كان أولى به أن يستحضره هنا، خصوصا أن نظرية الغزالي كان لها بعد آخر بعيدا عن الدرس الكلامي، إذ كانت عند هذا الطرف الرابع ..من عمق …الدرس الصوفي…ومن منتوجات العقل المؤيد!
متابعةً للأستاذ طه عبد الرحمن، سأقدم بمقدمة ممهدة متعلقة بنظرية وحدة الوجود عند الصوفية المتأخرين، وسأخص ابن عربي بالاستشهاد لأنه حلقة الوصل بين التصوف المشرقي والمغربي، وبين التصوف الغزالي والفلسفي، وسأجعل هذه المقدمة في نقطتين:
1- كان هذا الكون ولا يزال ثابتا وهباء وهيولى في ظلمة و”مياه الإمكان” على قول النص الهرمسي، ثم تجلى الله فيه بنوره عن طريق وساطة الأسماء الإلهية بنسب مختلفة، فظهر الله في هذه الممكنات فكانت مظاهر له، فهي صور له على مرآة الإمكان، كظهور الشمس في مرآة القمر.
2- أفضل تجليات الله في زعمهم كانت في “الإنسان الكامل” في موافقة غريبة للفلسفة الطاوية الصينية وغيرها، أو الحقيقة المحمدية، إذ خلقه الله تعالى على صورته هو سبحانه وتعالى، ولذلك يصف الصوفية النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نسخة الأكوان، وليس هذا موضع البسط في بيان نظرية الإنسان الكامل الفاسدة عند الصوفية المتاخرين.
واضح جدا بشاعة هذا القول وقبح هذه العقيدة، فهي عقيدة إلحادية بامتياز، استفادها الصوفية المتأخرون من المذاهب الشرقية في العراق وفارس والهند ومصر، فعقيدة وحدة الوجود عقيدة هرمسية غنوصية وثنية إلحادية فاسدة، تقرب من القول بقدم العالم عند الفلاسفة أهل العقل المجرد، تسربت إلى ثقافة المسلمين للأسف عن طريق هؤلاء، والذي عليه المسلمون أن كل ما سوى الله تعالى مخلوق له، هو أبدعه من “العدم الطلق“، وفطره من “لا شيء“.
أذكر الآن هذا المذهب الرابع الذي لم يرد ذكره في عرض الأستاذ طه عبد الرحمن، وهو المذهب الذي تحمله ابن عربي الحاتمي باعتباره من أفضل قارئي التراث الصوفي العالمي باعتبارات كثيرة، والذي أسسه على قراءة باطنية لنظرية الغزالي، وعرضها بطريقة مثيرة ومحرجة، فما فعله كان بدون شك إحراجا واختبارا، فإما أنه أخطأ وتكلف أو كذب، وهو الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر عند ناصريه، وهو أعلم بالطريق الصوفي ومذاهب أهله، وعارف مكاشف من “أهل التأييد” كما يسميهم، كان يتنزل عليه “الروح المؤيِّد القدسي” كما يدعي، أو أنه أصاب وأخطأ من لم ينتبه لما انتبه هو له، أو أنهم يبطنون ما أظهره!!
لست أجزم بكون الدكتور طه عبد الرحمن قد قرأ الفتوحات المكية لابن عربي كلها كما ينبغي، وإن كنت أرجح قراءته لها، ولذلك لن أدعي أنه تجنب القراءة الحاتمية، وإن كنت لا أستطيع أيضا نفي ذلك حتى لا أنقص من قدر قراءاته الصوفية، ولكن الأمر الذي أعرفه أن الفتوحات كانت موضع هذه القراءة الصوفية لنظرية الغزالي في أكثر من موضع، ومع ذلك، فقد استوقفتني عبارة مثيرة للأستاذ طه، قد تحمل ما يرفع هذا التردد، وتفصح عن ما يمكن أن يكون حرجا معرفيا حاول الأستاذ تجنبه، فإنه قال: “لن نبسط الكلام في المواقف التي اتخذت من هذه المقالة،على طرافة بعضها وبعد النظر في بعضها الآخر“، على أنها بصيغتها هذه فتحت الباب على المصراعين على سؤال أطرف وهو، إن كان الأستاذ وقف على قراءة ابن عربي، فهل عدها من الطرافة أو من النظر البعيد ؟! وأحلاهما مرُّ !!
لن أطيل كثيرا، فها هو قول ابن عربي معلقا على كلمة الغزالي في الفتوحات المكية: “صدق قول الإمام أبي حامد، ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم، لأنه ليس أكمل من الصورة التي خلق عليها الإنسان الكامل، فلو كان لكان في هذا العالم ما هو أكمل من الصورة التي هي الحضرة الإلهية»!!!!! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
واضح جدا أن ابن عربي يوجه نظرية الغزالي في عمقها باعتباره عارفا بمذهبه وطريقته، وتأصيله واضح لا يحتاج إلى تكلف في التفكيك والفهم، فقد تجاوز ظاهر المقالة إلى المقصد الباطن للغزالي منها، فالغزالي وفق ابن عربي يرى أن الكون لا يمكن أن يكون ثم أبدع من صورته الآن لأنه في حقيقة أمره صورة الله تعالى في مرآة الإمكان تعالى الله عن هذا علوا كبيرا، وإذ إنه عندهم تجلى عن طريق أسمائه الحسنى الكاملة، فتجليه هو أحسن التجلي وأكمله في زعمهم، وهذا يقتضي أن الغزالي كان يقول بنفس ما كان يقول به ابن عربي الحاتمي… وهو أحد نوعي وحدة الوجود والعياذ بالله، وهو ما انتبه إليه البقاعي في “هدم الأركان” فوصف كلام الغزالي بأنه مأخوذ من “كلام بعض الفلاسفة القائلين بالوحدة المطلقة“، وأنكر العمق الصوفيَ فيها القاضيَ بقدم العالم مسميا “ابن عربي وابن الفارض” ومَن وصفهم بـ”أنظارهم“، بل أنكرها على الغزالي وخطأه فيها معتقدا أنها زلة منه، مع وافر التوقير والتقدير له، وهذا موضوع آخر يحتاج إلى مزيد بحث بعيدا عن التعصب أو التحامل من الناقد أو عليه.
ومن فروع “إهمال” الأستاذ طه عبد الرحمن لهذه القراءة المباشرة والصادمة أنه انساق ظاهرا مع التوجيه الكلامي على طريقة العقل المجرد، فصار يحلل العبارة ويستخرج أصولها، رادا لها إلى أقيسة منطقية، بناها على مفهوم القدرة الإلهية الظاهر من كلام الغزالي، والقارئ الآن بين موقفين، إما أن يخطِّئ العقل المؤيد عند ابن عربي العارف بالله والشيخ الأكبر والكبريت الأحمر، وإما يخطِّئ العقل المسدد عند الخائضين في هذه القضية من زاوية نظر كلامية بحتة، وفيهم الأستاذ طه عبد الرحمن، وليس ثم إمكانية لتكلف التأليف بين ما لا يتآلف، وليس في أحده الاختيارين أية إشكالية، فكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المرسلون.