ملاحظة حول التعليم الأدبي بكوليج أزرو (1950م)..
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
تقديم المترجم
قدم هذا العرض من قبل “برثون” الأستاذ بكوليج أزرو، في الأسبوع البيداغوجي المنظم بالكوليج سنة 1950 لمناقشة موضوع “دراسة المجال”، بعدما كان قد أقيم مثيل له سنة 1947 لمناقشة “المبادرة” بمساعدة نقابة المعلمين بالمغرب والذين جاؤوا بنظرية جديدة في التعليم، نظرية تتوافق مع الوسط، لتكوين عقلية حيوية نشيطة حرة منضبطة، ولن تكون كذلك إلا إذا انطلقت من معرفة ملموسة من الواقع وليست مبنية على الفراغ (أنظر مقدمة كتاب “Semaine pedagogique”).
وقد اخترنا تقديم بعض ما جاء في العرض الذي تقدم به “برثون” لتعرضه لهذه النظرية التي تريد من المعلم أن يكون رائدا في تقديم النموذج الفرنسي لاستنبات العقلية المبشر بها، والتي تستند على المقارنة بين معتقدات التلاميذ ذات المرجعية الدينية والقيمية، ومرجعية معلميهم المادية التي تجعل التلاميذ يقارنون بين المسألة الواحدة من قواعد التأدب الإسلامي مثلا، حيث يطرحونها شفويا للنقاش وفق قوانينهم الدينية والعرفية، ويقترح معلمهم قواعد التعامل الفرنسية في نفس المسألة، ويقوم المعلم بقيادة التلاميذ في مناقشة الطرحين والتصورين لكلا الثقافتين، بغية الوصول للمشترك بين الحضارتين انطلاقا مما سيستفيد منه الفرد، بعد إفهام التلاميذ بأن قيمة المبادرة بالحركة التي يقول “جرمان”: “أن المسلم يحكم بالكفر والإلحاد على الجهد البشري الفعال، بالرغم من أن المسلم -يُرى مظهريا- يصارع ضد احتقار العمل اليدوي، ويبذل كثيرا من الجهد والدعاء والتسبيح لنجاح ذلك العمل الذي لا ينتظر منه فائدة ومنفعة شخصية، مما يكوِّن هوة عميقة بين الحضارتين مختلفتي المرجعية، وعليه يجب ربط تلامذتنا تعليميا بالقيمة الحقة للفرنسية لأنها قاطرة الحضارة الأوربية” (ص184 وما بعدها).
جاء في عرض “برثون”:
حُوِّلت المدرسة البربرية الفرنسية بأزرو إلى كوليج سنة 1934، ومنه يذهب التلاميذ المتفوقون إلى ليسي (بويميرو) بمكناس.
الكوليج هو الوحيد بالمغرب الذي يلجه أبناء الجبال البربرية من دمنات إلى تازة، التعليم بالفرنسية مقبول من التلاميذ الذين يناهزون 200 تلميذ داخلي، ونحن نتطلع لإحداث كوليج آخر مسقبلا.
منذ 1940 وأنا أشتغل بالكوليج، وسأقدم بعض متابعاتي لذهنية التلاميذ متسائلا عن الهدف من تعليمنا والوسائل المستعملة للوصول للهدف المرجو منه في الوسط الاجتماعي، من خلال الملاحظات المستخلصة من ردود أفعال تلاميذنا المسلمين بشكل عام، بعدما قدمت لهم أقصى ما يمكن من التوضيحات.
التعليم والتربية
إن إنسانا متعلما ليس بالضرورة إنسانا جيدا، وإن إنسانا جاهلا ليس بالضرورة إنسانا سيئا، بل يكون أحيانا مع الأسف يحدث العكس حيث يسخر المتعلم معارفه فيما هو ضار، فعلينا أن نبعد من جهة الميل نزعات خاصة بالبرابرة وهي قطعا متناقضة المظهر، والمعلم لم يقو على النجاح دائما في جعل التلاميذ يقتنعون بما يقدم لهم من أفكار وتعاليم، وأعطي مثلا:
قدمت هذا الموضوع للمناقشة
“رصدنا على قبر امرأة رومانية هذه الكتابة: “غزلت الصوف ومكثت في بيتها”، أكتب ما تراه حول هذا، وهل تراه مناسبا للمرأة المغربية في المستقبل؟
كتب تلميذ: (المرأة يجب أن تبقى في البيت محجبة كما يقول القرآن)، تغزل الصوف وتهتم بدارها وأولادها، أعرف أن التلميذ صاحب المقولة لم يعبر عما في نفسه، هو يعرف أن المرأة عندهم ليست محجبة، ولم تقرأ القران، فالتلميذ يمثل فكرا أجنبيا.
يقول أحد تلامذتنا في القسم الثالث، طرح عليهم موضوع (المرأة المفكرة)، فلم يلتفتوا لدراسة الموضوع المطروح، لكن عبروا عن تفكيرهم الشخصي، قال أحدهم:
“مسار حياة المرأة البربرية قاسية، فمنذ ولادتها تبقي حيث تقيم، تغزل وتنسج، حافية القدم، سيئة اللباس، تحلب الأبقار وتطحن الحبوب وتنقي الحقول من الأعشاب وتجمع الحطب من الغابة، وفي المساء تعود وهي ترزح تحت حزمة الحطب، والخلاصة أنها تروح عند موحا حيوانا في المجمل أكثر منها امرأة”.
إذن طلب من تلاميذنا البرابرة بتعليم المرأة المغربية لتكون أحسن وتصير معتبرة من قبل زوجها وتعتني بنظافتها وصحة أبنائها، حتى إذا ما مرضوا أخذتهم لدكتور، وليس للضريح، أو تذبح لهم ديكا أسودا.
وقد تحدث تلميذ عن المرأة المتعلمة، فوصفها بكونها تباشر عملها بسوء، إن كانت مثلا معلمة أو أستاذة، فمنذ دخولها للفصل تبقى معلقة بالها بساعة الخروج لتعود لمنزلها، وهو أمر عادي بالنسبة للمرأة خاصة إذا كان لها رضيع، فإن بالها يبقى معلقا به مما يبعدها عن القسم وتلاميذه.
وعن موضوع (تحدث عن بعض المعتقدات في قبيلتك)، فقد أثار تقزز التلاميذ ونفورهم منه، فتحدثت معهم نصف ساعة لأبين لهم بأن إقليمي الذي أنتمي له في فرنسا ما تزال به أعراف حية، وذلك قصد تحفيزهم ومساعدتهم على تقبل مناقشة الموضوع المطروح ومعالجته بشكل يبين شكل الحياة البربرية التي يعيشها ذووهم ومعارفهم، من قبة الضريح المقدس المحلي الموجود قرب العين أو الشجرة المقدسة، إلى شعائر الأعمال الفلاحية والخصوبة والزواج التي تتخذ شكلا خاصا، تبين أن المرأة عند البربر لم تكن محجبة، وأن بركة الأموات وقوة العفاريت (آباؤنا يراقبون، فالتلميذ رغبته مرتبطة بشعائرهم المقدسة المتمثلة في ضريحهم الذي هو إلاههم الحق).
آخر يقول ( أتأسف بأن أرى اختفاء بعض المعتقدات).
كل الردود تقول نحن البربر لا نريد أن تعتقد أننا ببقائنا مرتبطين بهذه المعتقدات أو نحرص على ممارستها حالا واستقبالا، نحن نريد الظهور في أعين الأوربيين وإخواننا في الدين من المسلمين متحررين منها لنماثل سكان المدن.
والبعض قال (أسلافنا العرب)، قال لي أحد التلاميذ: (السيد برثون، نحن فخورين بكوننا بربر بيننا وفي بيئتنا، لكن في المدينة، نتضايق أمام العرب حيث نبدوا أقل تحضرا منهم في محيط مدني ناذرا ما يظهر البربري أصله).
هذه الحشومة محيرة بالنسبة للعقل الفرنسي، لكنه أمر لا يعاين” ص182.
خطورة هذا الموقف الفكري الرافض ينسحب على تلاميذنا عندما يخرجون من الكوليج، إنه ينسى أصله والهدف الأساسي من وجوده في الكوليج والمدرسة قبله، ودور ذلك في التطور العصري للمغرب، ويصير متشائما وسلبيا.
“ستجدون قصبات مدمرة قديمة، أكتب عن إحساسك وردود فعلك الإحتجاجية”.
وإليك ما قاله أحدهم: “أه إنها قصبة جميلة تبين مكان انتصارات المقاتلين الشجعان من جنسنا الذين لا يهابون المخاطر من أجل الوصول للنصر، لا أحد يتحدث عنك ما عدا كبار السن عندما يمرون بك”.
(M berthon؛ Semaine pedagogiqu 1950).