ممرّض في حَيْصَ بَيْصَ والطّبيب الصّغير (ج3)
هوية بريس – عبد العزيز غياتي
بين الذّاتي والموضوعي تاه عن جبّته الأصليّة التي اختار ثوبها وألوانها بمحض إرادته، وخاطها على ذوقه ومقاسه، ولبس جبّة غيره اختيارا تارة وغصبا أحايين أخرى، شلّت إرادَته قوّة الواقع وحدّثته نفسه وأوحى إليه شيطان يسكن درجات السلّم أنّه جار له وأن لا خوف عليه إن لبس جبّة غيره مجاهرا أو مستخفيا عن النّاس.
ممرّض، فرملي، طبيب، طبيب صغير، هذه في الغالب هي الألقاب التي منحها المجتمع للممرّض المغربي والتي استحقّ عليها وعيُ المجتمع وإلمامه بمهنة التّمريض من حيث التّكوين والوظيفة والمهام، تنقيطا يراوح بين 2 و5 من عشرين نقطة، يعني بين 20/2 و20/5، هذا الهزال والضّعف في الإلمام بوظيفة اجتماعيّة وحيويّة مثل هاته لا يُلام عليها المواطن و الممرّض ولا الدّولة والوزارة منفردين، بل تقع عليهم مسؤوليّة ذلك جميعا مجتمعين، تُسأل الدّولة عن وعي المواطن والمجتمع وتُساءل الوزارة عن تدبير وظيفة هي وصيّة عليها، ويُلام المواطن على تنازله عن حقّه في الوعي والمعرفة ويلام الممرّض على الاستسلام لأمر واقع يستمدّ قوّته من التّاريخ، وعلى غضّ الطّرف و التّماهي مع إشكاليّة إداريّة نفسيّة، اجتماعيّة اقتصاديّة غير سليمة.
حين يصرّح وزيرٌ للصّحّة سابقٌ رحمه الله ما معناه إنّ سفينة القطاع تسير على الرّغم من أنّ هناك من يقوم بمهام غير تلك التي أوكلت إليه بحكم القانون والتّكوين والتّدريب، وحين يُجمع كلّ الوزراء الذين توالوا على رئاسة القطاع أنّ الميزانيّة والموارد البشريّة المخصّصة له لا تكفي للنّهوض به، فإنّهم يقرّون أنّ السّفينة مهدّدة بالتّوقّف وربّما الغرق في عرض اليمّ، ومن بين أسهل الحلول التي تبدو ماديّا أقلّ تكلفة، وعمليّا أيسر تطبيقا، وإداريا أقلّ أثرا على الوزارة، هي الاستمرار في التّعويل على الممرّض للقيّام بمهام الطّبيب حين يقتضي الأمر ذلك، إضافة إلى مهامّه مضاعفة ومهام أخرى، ومن أجل ذلك دأبت الوزارة ألّا تحاسب الممرّض على انتحال صفة طبيب بل تيسّر له كلّ الوسائل لذلك مادام المواطن والمجتمع راض عن هذا الواقع والهيئات المدنيّة تصفّق للسّيد الذي يقوم بكلّ شيء ((monsieur fait tout، بل قد تكيّف النّصوص لفرض ذلك عليه إن رفض، مع العلم أنّه قد يُحاسب بجريمة انتحال صفة حين يجدّ الجدّ وتدخل هيئات قضائيّة على الخطّ لهذا السّبب أو ذاك، وتلك هي الحيص بيص التي يقع فيها الممرّض، والمطرقة والسّندان التي يتلوّى بينهما دون أن ينتبه إلى أنينه أحد.
وحين تُجمع الدّولة وسلطتاها التّنفيذيّة والتّشريعيّة على ضرورة إيلاء اهتمام خاص بقطاع اجتماعي كالصّحّة، ولكن دون توفير كلّ المقتضيات اللّازمة لذلك لِعلّة في التّشخيص أو عِلّة في الموارد الماليّة، أو لأسباب أخرى لاتزال تحبل بها جعبة القطاع والقطاعات الأخرى ذات الصّلة، وحين يسوّق الإعلام صورة غير الواقع أو يسكت عن نقل هذا الأخير إلى المتابع والمشاهد، فلن يُنتظر من مواطن، مكبّل بالحاجة ومدفوع بفطرة العجلة، غير الرّغبة والإصرار على الحصول على أغلب الخدمات الصّحيّة بأقلّ تكلفة ماديّة ومن أقرب مؤسّسة صحيّة لبيته ومن لدن من توفّرت عليه هذه المؤسّسات ومن حضر من مهنيّي القطاع، بل والاحتجاج بكلّ الوسائل للحصول على ما أصبح يعتبره حقّا مكتسبا، وتلك هي المعادلة المحيّرة الصّعبة التي وضعها من وضعها وسوّق لها من سوّق لها ودافع عنها من دافع عنها لحاجات في نفس يعقوب، ويُطلب من الممرّض أن يحلّها ويشتغل على أساسها؛ يُطلب منه أن يُقدّم من خلال المستوصف القروي مثلا إضافة إلى الخدمات الأصليّة المسطّرة، خدمات المستعجلات الطبيّة والجراحيّة و الكشف الطبّي والجراحة، وخدمات مختبر التّحليلات البيولوجيّة، والمساعدة الاجتماعيّة وخدمات أخرى تدلّ بالفعل أنّ المواطن ينظر إلى قطاع الصحّة عموما من زاوية مشوّشة.
هي إذن مسرحيّة عنوانها “ما يطلبه المرتفقون”، وكلّما اندمج الممرّض في الدّور وهو على الخشبة وتحت حرارة تصفيق شديد لجمهور متنوّع متقمّصا شخصيّة الطّبيب، رهبة أو رغبة، محترفا أو هاويا؛ إلّا وزاد من تكريس النّمطيّة التي يراد له أن يسوّقها عن نفسه وعن مهنته، وأمعن في تعطيل عجلة التّطوّر التّلقائي الذي تعرفه كلّ المهن، مع العلم أنّه ليس قدر الممرّض أن يُجهد نفسه ويُهدر طاقته في محاولة إقناع الناس أنّ هذه الخدمة الصّحيّة مثلا من اختصاص مهنيّ آخر أو تعرض في مصلحة أخرى، وليس عليه إطفاء غضب المواطنين على حساب صحّتهم، وعلى حساب مستقبله الشّخصي والمهني، وعلى حساب مستقبل القطاع عموما سواء ما تعلق بالخدمات الصّحيّة أو المهن المتعلّقة بها، وليس عليه أن يُستعمل كرقعة في يد الرّاقع لرتق الرّقاع التي راكمها القطاع على مدى سنوات خلت، ولكنّ الواجب عليه أن يكون ممرّضا وكفى.
للبيت الصحّي مسؤول يداويه وللأمن الاجتماعي مسؤول يحميه، قد يساهم الممرّض في إصلاح القطاع أو يُستشار، ولكن عليه أن يتحمّل المسؤوليّة فقط في حدود ما هو مسؤول عنه، وأن يُحمِّل مسؤوليّة الباقي إلى من هم مسؤولون عن ذلك من أهل الدّار، يقاوم إغراء لبس جبّة الغير ويناضل ضدّ طغيان واقع ورّثه السّلفُ الخلفَ، وعادات عشّشت وفرّخت في دواليب المصالح من قبيل خدمات (بلاسيبو) على غرار الأدويّة الوهميّة، واقع صيّرته قوّة الزّمانة أقوى من المشروعيّة ذاتها.