مناظرة عصيد وطلال لحلو تحت مجهر هابرماس

27 يوليو 2025 09:29

هوية بريس – سعيد الغماز

 مناظرة عصيد وطلال لحلو تحت مجهر هابرماس

في سياق النقاش العمومي حول قضايا الفكر والهوية والتحديث في المغرب، تبرز مناظرة أحمد عصيد وطلال لحلو باعتبارها لحظة نوعية تستحق الوقوف عندها بعمق. لقد استحضرتُ، وأنا أتابع أطوار هذه المناظرة، مقولة للمفكر الألماني يورغن هابرماس، تُعد بمثابة حجر الزاوية في نظريته حول الفضاء العمومي:

“لا يرقى الفكر إلا في الفضاء العمومي، حيث يخضع للنقاش العقلاني والحجج المقنعة.”

وإذا كانت هذه المقولة تعبّر عن جوهر المشروع الحداثي الذي يدعو إليه هابرماس، فإنها تُعد مدخلًا منهجيًا لفهم ما جرى بين المتناظِرين، وتفكيك المشهد الثقافي والإعلامي الذي أحاط بالمناظرة.

نبدأ من الإطار الذي نُظِّمت فيه المناظرة: أحمد عصيد، مثقف بارز ومثير للجدل، يَشغل حيزًا إعلاميًا شبه دائم، حيث يُقدَّم باعتباره “صوت الحداثة والعقلانية”. في المقابل، لا يعرف كثيرون طلال لحلو إلا من خلال هذه المناظرة، رغم تكوينه الأكاديمي المتين وإنتاجه العلمي الوازن.

ولولا تمكن طلال من فرض ذاته في هذه المناظرة، بحكم ثقافته الواسعة وتخصصه العلمي إلى جانب تحليله العقلاني المرتكز على الأرقام والدراسات والبحوث الأكاديمية، لما سمع عنه أحد، ولما استضافه الإعلام العمومي.

هذا التفاوت في الحضور الإعلامي لا يعكس بالضرورة تفاوتا في القيمة الفكرية، بل يكشف عن اختلال في منطق “التمثيل الإعلامي”، ويطرح سؤالا حارقا: هل الإعلام العمومي يُتيح فعلا فضاء ديمقراطيا لتداول الأفكار؟ أم أنه يُعيد إنتاج نخب فكرية بعينها، ويُقصي أخرى قد تكون أقدر على التأثير المعرفي؟

في هذا السياق، تؤكد المناظرة أن إقصاء الأصوات القادرة على المحاججة العميقة، كطلال لحلو، لا يخدم التنوع الفكري، بل يكرِّس فكرا أحاديا يتهرب من الامتحان العمومي.

حين يتحدث أحمد عصيد في برامج إذاعية أو لقاءات تلفزيونية، غالبا ما يُمنح فسحة خَطابية خالية من المُعترِض أو المحاور القوي. هذا النوع من الحضور قد يمنح وهم السيطرة الفكرية، لكنه في الواقع يُضعف القدرة على المحاججة أمام عقل نقدي مستند إلى المعرفة.

مناظرة ميدي1 أخرجت عصيد من “منطقة الراحة الفكرية”، وعرَّضته لاختبار علني أمام مثقف لا يعتمد على الإنشاء، بقدر ما يستند إلى تحليل معرفي عقلاني مُمَنهج. وهنا تتجلى تماما أطروحة هابرماس: “الفكر لا يرقى إلا حين يُمتحن في فضاء عمومي مفتوح، يخضع فيه لقواعد النقاش والحجاج”.

من الملاحظات اللافتة في هذه المناظرة، تلك المتعلقة بالكفاءة اللغوية. جرت المناظرة باللغة الفرنسية، وهنا ظهر التفوق الواضح لطلال لحلو، الذي يكتب ويتحدث بالفرنسية بطلاقة فكرية ومُعجمية متقدمة، بل يُمكن القول إنه يتقنها بدرجة تسمح له بفهم بنياتها الثقافية والفلسفية.

في المقابل، بدا عصيد ضعيفًا لغويا في هذا السياق، مما أثَّر على قدرته في التعبير والدفاع عن أفكاره. وهذا التفاوت لا يتعلق فقط باللغة، بل بالقدرة على التفكير من داخل المنظومة المعرفية الغربية التي يُدافع عنها عصيد. فهل من الممكن أن يُدافع شخص عن فكر لا يُتقن لغته ولا يفكك آلياته وبنياته؟

هابرماس نفسه يعتبر اللغة أداة مركزية في بناء الفضاء العمومي، ويشدد على أن النقاش العمومي يتأسس على كفاءة لغوية تسمح بتداول الأفكار بوضوح، وتجعل البرهان قابلا للفهم والنقد. في هذا الإطار أستحصر مقولة هابرماس “اللغة ليست فقط وسيلة للإعلام، بل فضاء للفهم المتبادل، ولتَكْوِين الرأي والحكم العقلاني”. فاللغة ليست أداة فقط، بل هي البنية التي تساعد على الفهم وتفكيك بنيات المجتمع.

من هذا المنطلق الهابرماسي، يمكننا القول إن إتقان طلال لحلو للغة الفرنسية، ساعده على فهم جيد للمجتمع الغربي، ومكنه من تفكيك بنياته المجتمعية أكثر من أحمد عصيد.

في هذا الإطار، بدا لحلو متفوقا، ليس فقط في التعبير، بل في القدرة على جعل الخطاب مُقنِعا، مُدَعَّما بالدراسات والأبحاث، ومتصلا بجذور الفكر الأوروبي نفسه.

جانب آخر ميَّز لحلو هو اعتماده على أدوات التحليل العلمي، وعلى الأرقام والمعطيات المدروسة، فيما بقي خطاب عصيد أقرب إلى الإنشاء والتوصيف المعياري.

مثلًا، عندما تحدث عصيد عن حرية المرأة في الغرب، لم يستند في طرحه إلى أية دراسة، بل اكتفى بإطلاق الأحكام بأسلوب لا يخرج عن التوصيف الأدبي. في المقابل، فَنَّد لحلو هذا الطرح انطلاقًا من مقاربات اقتصادية وسوسيولوجية، اعتبرت أن المرأة الغربية صارت أداة إنتاج في السوق الرأسمالي، وأن خطاب “التحرر” مجرد واجهة.

لحلو يعتبر أن ادعاء الغرب لتحرير المرأة، إنما هو لإخفاء توظيفها في آلة رأسمالية لتحقيق المزيد من الأرباح، في عالم رأسمالي يبحث عن الربح بأي طريقة، ولو باستغلال جسد المرأة الغربية، بعد جعلها أكثر جمالا وإغراء، بفعل مساحيق التجميل وشعارات المُودَة.

هذا التباين يُحيلنا إلى إشكالية العلاقة بين المعرفة والسلطة الرمزية في الإعلام: من يحظى بالبروز المكثف في الإعلام العمومي كما هو حال عصيد، لا يعني بالضرورة أنه يمتلك الحقائق أو يعكس الحقيقة. بل إن غياب المنافسة الفكرية الجدية يجعل الأفكار سائلة، عاجزة عن اختبار ذاتها أمام النقد.

المناظرة كانت، من وجهة نظر سوسيولوجية، تمرينا مُهِما على النقاش العمومي. التفاعل الكبير مع المناظرة على وسائل التواصل الاجتماعي، وبلوغها أرقام مشاهدة فاقت تلك المسجلة لحفلات موسيقية، يُبيِّن تعطشا حقيقيا داخل المجتمع المغربي لنقاش جاد، يبتعد عن سطحية الترفيه ويقترب من جوهر الأسئلة المجتمعية.

الأرقام لا تكذب وتعكس الحقيقة كاملة. في الموقع الإلكتروني لقناة ميدي1 الذي بث المحاضرة، وصل عدد المشاهدات إلى حدود كتابة هذا المقال رقم 231.000. وإذا أخذنا بعين الاعتبار مشاهدي القناة التلفزية مدي1، وتقاسم الحسابات للمناظرة في وسائل التواصل الاجتماعي، فإننا نكون أمام رقم يتجاوز بكثير المليون مشاهدة.

أذكر على سبيل المثال قناة رحلة TV التي وصل فيها رقم المشاهدات 464.000 متفوقا على قناة ميدي1. الصفحة الرسمية لأحمد عصيد على الفايسبوك، بلغ فيها الرقم 25.000 مشاهدة إلى حدود كتابة هذا المقال، وبلغ الرقم على صفحة طلال لحلو 546.000 مشاهدة. أي أن المشاهدات على صفحة طلال لحلو بلَغَت 22 مرة عدد المشاهدات على قناة أحمد عصيد. وهو رقم بالغ الأهمية، أترك للمحللين والمتخصصين في علم الاجتماع تحليله وسبر أغواره.

علما أننا أمام متناظِرَيْن، الأول يجد أبواب الإعلام العمومي مفتوحة أمامه بالمطلق، والثاني لا يكاد يظهر في هذا الإعلام العمومي. لكن وسائل التواصل الاجتماعي تعكس الحقيقة بالمطلق، وتتنافى مع الحقيقة الناقصة في الإعلام العمومي.

ثقافة المناظرة لا تعني الانتصار أو الهزيمة، بل اختبار الأفكار أمام بعضها، وتحرير النقاش من الاستقطاب الأيديولوجي. وفي هذا السياق، فإن دور الإعلام العمومي لا يجب أن يكون دعم طرف فكري على حساب آخر، بل توفير أرضية تعددية تسمح للأفكار بالتفاعل، وللرأي العام بالاختيار عن وعي.

لقد كشفت مناظرة عصيد وطلال لحلو عن الحاجة الملحة لإعادة النظر في السياسة الإعلامية والثقافية بالمغرب. لا يتعلق الأمر بمن انتصر أو انهزم، بل بالسؤال التالي:

هل نُريد فضاءً عموميا ناضجا، تُتاح فيه الفُرَص المتكافئة للأفكار كي تُختَبَر بالحجة لا بالشهرة؟ أم أننا سنستمر في إنتاج نخب إعلامية تُستثنى من المحاسبة الفكرية؟

في ضوء أطروحة هابرماس، يمكن القول إن رقي المجتمع مرهون برقي نقاشه، وإن الفكر لا يصبح أداة للتغيير إلا حين يغادر أبراجه العاجية، ليُواجه محك العقل العمومي.

عند إقصاء بعض الأصوات من الإعلام العمومي، كما هو الحال مع طلال لحلو مقارنة بأحمد عصيد، فإننا نفرغ الفضاء العمومي من معناه الهابرماسي. وأختم حديثي بالقول “عندما يُحتكر الحديث من طرف واحد، ويغيب التفاعل الحجاجي العقلاني، فإن ما يُقدَّم ليس فكرا حقيقيا، بل رأيا مُغلفا بالشرعية الإعلامية الزائفة”. ففتح الإعلام العمومي لجميع الآراء، بما في ذلك أفكار طلال لحلو، ضرورة في مجتمع له طموح تنموي ورؤية في الإقلاع الاقتصادي.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
14°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة