مناقشة «معاهدة الحماية» في البرلمان الفرنسيون
هوية بريس – ذ. إدريس كرم
تقديم
سبق لنا القول في أكثر من بحث حول دور الشيخ المكي الناصري في ترجمة عدد من النصوص التأسيسية من الوجهة القانونية والتاريخية لغزو المغرب وبطلان شرعيته، منذ التحاق الشيخ بجنيف مطرودا من مصر، استجابة لطلب فرنسا بعدما قدم تقريرا للمؤتمر الإسلامي المنعقد بالقدس سنة 1931، ومن بين تلك الأبحاث التي نشرها سنة 1932 بمجلة السلام التطوانية، بحث بعنوان: (معاهدة الحماية كما يرويها الفرنسيون)؛ الذي نقدم منه الجزء الخاص بمناقشة المعاهدة في مجلسي النواب والشيوخ لإقرارها مذيلة بـ(ملاحظة أخيرة) على جانب كبير من الأهمية تبين المنهاج الذي سار عليه في دراسته القيمة.
“معاهدة الحماية” كما يرويها الفرنسيون
معاهدة الحماية في مجلس النواب
كانت الحكومة الفرنسية مضطرة إلى عرض هذه المعاهدة على مجلس النواب أولا في قصر (البوربون) ثم على مجلس الشيوخ في (لوكسنبورغ) وبعد موافقتهما يصبح رئيس الجمهورية مأذونا في المصادقة عليها والعمل لتنفيذها.
مجلس النواب:
مرت بعد التوقيع على المعاهدة ثلاثة شهور: أبريل ومايو ويونيو، ولم ينته مجلس النواب من مناقشته لمعاهدة الحماية إلا في فاتح يوليوز، ومن غريب الصدف أن جلسات شهر يونيو الخاصة بالقضية المغربية والمعاهدة الفرنسية كانت كلها أيام الجمع: 14 و21 و28 يونيو، وكان المقرر الذي تكفل بكتابة التقرير الخاص عن المعاهدة هو المسيو موريس لون maurice long، ووافقت لجنة الأمور الخارجية على تقريره بتاريخ 13 يونيو، ومن جملة ما سجله المسيو موريس في هذا التقرير (أن المقيم العام سيضع حمايتنا في طريق التطبيق مع محافظته على تعهداتنا أمام الدول، والتزامه الإخلاص التام بتطبيق الحماية في معناها الخاص المنافي للحكم المباشر كل المنافاة).
والمسيو موريس هذا، هو الباحث الفرنسي الوحيد الذي أفادنا عن (مشروع معاهدة المقري) الواقع في 37 فصلا، الذي لم يحظ بالقبول في عين الخارجية الفرنسية، ولقد كانت جلسة يوم الجمعة الأخيرة (28 يوليوز) جلسة حامية الوطيس، إذ صعد فيها منبر الخطابة النيابية زعيم (الإشتراكية) الكبير المسيو جريس jaures، وكان طلبه الوحيد من فوق المنبر البرلماني، هو إلغاء معاهدة الحماية، وعقد اتفاق جديد، لا على أساس حام ومحمي، ولكن على أساس اتحاد المغرب وفرنسا واتحاد الجمهورية الفرنسية مع السلطان aliance avec le sultan، انتقد كل الإنتقاد سياسة الوزارتين: وزارة موني monis ووزارة كايو caillaux التي أدت إلى الإحتلال العسكري وإعلان الحماية!
وفي هذه الجلسة اقترح رئيس مجلس الوزراء أن ينهي النواب مناقشتهم حول المعاهدة في الجلسة القادمة ليوم الإثنين صباحا، واجتمع مجلس النواب يوم الإثنين فاتح يوليوز 1912، فوافق بأكثرية الأصوات على المعاهدة المنعقدة بفاس يوم 30 مارس 1912، وكانت الموافقة بـ443 صوتا ضد 85 صوتا، والمصوتون للمعاهدة رأوا فيها رمزا محسوسا لإمتداد السلطة الفرنسية في شمال افريقيا، و(تعويضا) كافيا عن التضحيات العديدة التي بذلتها فرنسا في هذا السبيل.
مجلس الشيوخ
ثم دخلت المعاهدة إلى مجلس الشيوخ فكلف لجنة خاصة بدرسها ووضع تقرير عنها، وكان المقرر هو المسيو بودان baudin، وبعدما وافقت اللجنة على تقريره نشرته (الجريدة الرسمية) صبيحة عاشر يوليوز، ومن أهم ما جاء فيه:
القسم الخاص الموضوع عن (المسألة الدينية المسيحية في المغرب وجنسية المبشرين الكاثوليك)، وفي جلسة الشيوخ المنعقدة يوم 11 يوليوز تناقش المجلس في هذه المعاهدة مدة ساعتين، وكان على رأس الخطباء المسيو جينوفريي jenouvrier الذي بحث موضوع: (تنظيم الديانة الكاثوليكية بمنطقة الحماية الفرنسية، وتجديد علاقات الجمهورية مع الفاتكان)، وفي هذه الجلسة نفسها صادق مجلس الشيوخ (بالأيدي المرفوعة) على معاهدة الحماية.
وفي أثناء الجلسة ألقى المسيو بوانكاري poincare تصريحا مليئا بالصراحة مما قاله: (إن القلق السائد في المغرب، والعام بين المغاربة في الوقت الحاضر، إنما هو رد فعل لإعلان الحماية).
ورغما عن مصادقة المجلسين على معاهدة 30 مارس، فإن أنصار المعاهدة في مجلس النواب ورئيس المجلس نفسه مققرر لجنة الأمور الخارجية المسيو موريس قد تنبأوا بما وراء هذه المعاهدة في المستقبل من (أخطار منتظرة)، بل إن رئيس مجلس الوزراء نفسه في خطبته القصيرة التي خطبها بمجلس الشيوخ في جلسة 11 يوليوز لم يهمل الإشارة إلى ما يلزم فرنسا من تضحيات عظيمة في سبيل مشروعها الخطير: مشروع الحماية المغربية.
وبعد أربعة أيام من مصادقة مجلس الشيوخ صدر قانون loi يأذن فيه رئيس الجمهورية باعتبار عقد الحماية والمصادقة عليه نهائيا، والعمل لتنفيذه في أقرب وقت ممكن، وهذا القانون يحمل تاريخ 15 يوليوز 1912.
ملاحظة أخيرة
ومن المناسب أن نذكر هنا ملاحظة أخيرة لها قيمتها بالنسبة لزملائنا العارفين باللغات الأجنبية، الملمين بتفاصيل (القانون الدولي العام)، ذلك أنه وقع الخلاف بين المؤلفِين الفرنسيين هل توجد في معاهدة 30 مارس كلمة protectorat أو كلمة protection فمنهم من يثبت وجود الكلمة الأولى (بروطوكطورا)، ويسجل ورودها في الفصل الرابع من فصول المعاهدة، وطبقا لهذا الرأي وضعنا ترجمة الفصل الرابع، لأنها المسجلة في النص الرسمي الفرنسي الذي ترجمنا منه، والقائلون بهذا الرأي يعلل أن اختيار الحكومة الفرنسية لهذه الكلمة الصريحة، وإدخالها ضمن فصول المعاهدة، بأنها أرادت أن تحتاط من الوقوع في مشكلة مع الحكومة المغربية، مثل ما وقع لها من قبل مع الحكومة التونسية بالنسبة للمعاهدة الأولى التي وقعها باي تونس في 21 مايو 1881 باسم معاهدة الضمانة traite de garantie والتي اضطرت فرنسا أن تتبعها بحملة عسكرية جديدة، وتبدلها بمعاهدة ثانية لبسط الحماية على تونس بشكل أصرح من الأولى وهي معاهدة المرسى المنعقدة في 8 يونيو 1883، وعلى هذا الرأي ذهب المسيو كولفان goulven الدكتور في الحقوق ورئيس مكتب الإقامة العامة سابقا بالرباط.
ومنهم من ينفي ورود هذه الكلمة في المعاهدة نفيا قاطعا، ويعلن أن الكلمة التي كانت موضوعة في الفصل الرابع إنما هي كلمة protection لا غير، ولا شك أن هذه الكلمة هي أخف لفظا ومعنى من سابقتها، وهؤلاء يعللون ذلك بأن واضعي المعاهدة فضلوها على الأخرى ليتقوا أمرين: أولا ألا يجرحوا إحساس المغاربة، ثانيا أن لا يثيروا أحقاد المنافسين الأجانب… لا سيما والكلمة الموجودة في الإتفاق الفرنسي الألماني المنعقد بين فرنسا وألمانيا في 4 نونبر1911 إنما هي كلمة protection وكلمة controle أما كلمة (الحماية) الإصطلاحية فلا وجود لها في ذلك الإتفاق أصلا.
والمدافع عن هذا الرأي والمحامي ذونه هو السياسي الكبير والأكاديمي الشهير المسيو لويس بارطو louis barthou صديق الجنرال ليوطي الحميم! وهكذا تكون كلمة حماية protectorat الإصطلاحية موضوعة بين النفي والإثبات.
هذه هي قصة معاهدة الحماية كما يرويها الفرنسيون، عرضناها هنا بطريقة وصفية تاريخية علمية بقدر ما نستطيع، ونحن نعلن أننا لم نستعمل في هذا البحث أية رواية من الروايات المغربية المحلية، لأن غرضنا هنا هو أن نعرض ما يتحدث به الفرنسيون في أوساطهم الخاصة، العلمية والسياسية، في هذه القضية التي هي أخطر قضية بالنسبة لحياتنا القومية في العصر الحديث…
نعم يلذ لي أن أختم هذه القصة بكلمة قيمة كتبها القانوني الفرنسي العظيم المسيو ديسبانيي despagnet أستاذ القانون الدولي العام في جامعة (بوردو) والعضو بمجمع القانون الدولي institut de droit international، فلقد قال هذا القانوني المختص في موضوع (الحمايات): (إن معاهدات الحماية لا يمكن بحكم طبيعة الأشياء أن تكون لأجل غير مسمى، ولوقت غير محدود، لأنها لا تنظم حالة ثابتة مستقرة بطبيعتها، الحماية عثرة طارئة في حياة الشعوب وشيء عارض في القانون الدولي، الحماية حالة شاذة، وهي حتما مؤقتة، ويمكن أن يقال: “إن كل معاهدة من معاهدات الحماية هي بحكم موضوعها تحمل في خلاياها جرثومة الموت والفناء”).
أبو الفداء: المكي الناصري.