من الأولى بالاعتبار إحياء الأنفس أم إقامة شعيرة الأضحية؟
هوية بريس – د.محمد عوام
خلال الأسابيع المنصرمة أصدر شيخنا وأستاذنا العلامة أحمد الريسوني حفظه الله فتوى، قال فيها بجواز “بذل ثمن الأضحية لأهل فلسطين” وأن ذلك “مبرئ ومجزئ وزيادة.. وفيه أضحية وتضحية، ونسك وجهاد”.
وأشار إلى الخلاف الذي سبق أن وقع منذ عهد الصحابة والتابعين في أيهما أفضل: إقامة شعيرة ذبح الأضحية أو التصدق بثمنها على المحتاجين” وقد ذكر أن بعض العلماء وخاصة من الصحابة والتابعين ذهبوا إلى تفضيل بذل الصدقة على الأضحية.
هذا لب ما جاء في الفتوى، وقد طلب مني موقع (الاستقلال) التعليق على الفتوى، فقلت: ما ذهب إليه أستاذنا صحيح وسليم في ميزان المقاصد وفقه الأولويات.. ومن الناحية الشرعية تعتبر الأضحية سنة مؤكدة، فهي ليست واجبة،.. وأهل فلسطين أولى بثمن الأضحية من ذبحها” هذا مقتطف مما ذكرت.
وأزيد ما ذكرته توضيحا وبيانا مع رد على بعض الانتقادات المتسرعة، وذلك في ما يلي:
أولا: أن أعظم مقصد شرعي هو حفظ النفس، وكل ما جاء في الشريعة إنما هو من أجل مصالح الإنسان العاجلة والآجلة، ومنها حفظ النفس، وهذا لا يعني البتة التنكر لحفظ الدين، كما قد يظن بعض الناس، وهذا يحتاج إلى تفصيل ليس موطنه هنا، ويمكن الرجوع فيه إلى ما ذكره علماء الفقه والمقاصد أمثال العز بن عبد السلام، وتلميذه القرافي، وابن تيمية، والشاطبي، وغيرهم.
ثانيا: أن الفقه ليس مجرد حفظ للفروع، وتلويك الألسن بها، ما لم يكن مهتديا ومؤسسا على المقاصد، إذ المقاصد هي بوصلة الفقه، وهي سراجه المنير، ومشكاته المضيئة، فإذا افتقد الفقه بوصلة المقاصد تاه في بيداء مقفرة، وفقد رونقه وضاع، وخرج عن منطق الشريعة والحكمة، إلى منطق الضياع، ولله در ابن الجوزي رحمه الله عندما قال: “والفقيه من نظر في الأسباب والنتائج وتأمل المقاصد” (تلبيس إبليس).
ثالثا: الذي ينبغي أن يفهم المنتقدون والمتوجسون أن أضحية العيد ليست واجبة، وإنما هي مندوبة، وقد سبق للعلماء أن ناقشوا مناقشة عميقة ودقيقة وهي أن هناك مندوبات أفضل من بعض الواجبات، وكل ذلك بناء على ما يترتب عليها من مصالح معتبرة، وفي هذا يقول القرافي رحمه الله: “ثم إنه قد وجد في الشريعة مندوبات أفضل من الواجبات، وثوابها أعظم من ثواب الواجبات، وذلك يدل على أن مصالحها أعظم من مصالح الواجبات، لأن الأصل في كثرة الثواب وقلته، كثرة المصالح وقلتها.” (الفروق) وقد ضرب لذلك أمثلة منها: “إنظار المعسر بالدين واجب، وإبراؤه منه مندوب إليه، وهو أعظم أجرا من الإنظار لقوله تعالى: “وأن تصدقوا خير لكم“.
هذا ما قرره القرافي ونصره في ذلك غير واحد من العلماء منهم جلال الدين السيوطي، وابن عابدين، كما خالفه آخرون كابن الشاط، والبقوري، المهم عندي ليس الخلاف في ذاته، وإنما هو ميزان المقاصد، فقد يحتم علينا اليوم أمام ما يقع في غزة وفلسطين، لا سيما عندما تشتد بهم المحن، وتعتصرهم النكبات، فتحصد الصهيونية المجرمة أرواحهم ظلما وعدوانا، ولا يجدون المعين والنصير إلا قليلا، فلا شك عندي أن إحياء أرواحهم بكل ما يمكن من الدعم، مقدم على غيره، ومن جملة ذلك بذل ثمن الأضحية لهم، إحياء لأنفسهم، ودعما لجهادهم، وليس في ذلك أي غضاضة أو منقصة في الدين إن لم يضح الناس نصرة لإخوانهم الفلسطينيين، المرابطين في أكناف المقدس والأرض المباركة، وإلا الواجب الذي تركته الدول الإسلامية هو تجييش الجيوش، وإعداد العدة لتحرير أرض المسلمين من أيدي الصهاينة المجرمين، وحلفائهم الصليبيين، قبحهم الله جميعا ولعنهم لعنا كثيرا.
رابعا: مما تشتد غرابتي منه، ولا أكاد أستسيغه، أن يسكت بعضهم دهرا، واليوم ينطق هرطقة، حينما يجعل الفتوى من اختصاص الجهات الرسمية، وأن ليس لأي عالم “أن يصدر فتوى تهم جميع المسلمين”، هذا المنطق لا أخاله إلا منطق فرعون “لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”، ولم يكن هذا في الصدر الأول، ولا قال به العلماء، وكانت حرية الإفتاء هي السائدة، والناس يعرفون من يثقون فيهم من أهل الفتوى والدين، وإنما التحجير على المفتين هو ديدن ذوي السلطان، ومن يدور في فلكهم، يريدون التحجير على العلماء، وإلجامهم عن الكلام. ولقد كلمني أحدهم حينما أصدر شيخنا سيدي أحمد الريسوني حفظه الله فتواه المتعلقة بالقروض التي منحتها الدولة لمساعدة الشباب، قائلا: ما كان على الأستاذ الريسوني أن يتكلم، فهناك جهات معينة مخول لها الإفتاء. فقلت له: هل هذا كلام معقول أن نقول لأستاذنا العالم المقاصدي الشهير، والأصولي النحرير عليك أن تسكت وتتفرج ولا تتكلم فالكلام في حقك محرم؟. وإن عجبي لا ينقضي، وغرابتي لا تتوقف من هؤلاء، لا يتكلمون في قضايا الأمة المصيرية وإنما همهم فقط أن يحاربوا ويتصدوا لكل متكلم، بل إنهم سفهوا حتى بالأموات من العلماء.
من حق الدول أن تنصب المفتين، ولكن ليس من حقهم أن يحجروا على العلماء، وإلا بهذا المنطق السقيم ينبغي التحجير على المثقفين، فلا يتكلمون إلا بإذن وزارة الثقافة، والاقتصاديين فلا يقررون ويدرسون إلا بإذن وزارة الاقتصاد، وهذا لا جرم خروج عن حد العقل. فكل عالم من حقه أن يفتي إذا كان أهلا لذلك، ويتحمل مسؤوليته الدينية والأخلاقية، والمتجرئ على الفتوى متجرئ على النار. والذي غفل عنه صاحبنا أنه عندما تعين الدولة المفتي فيما سلف من الأزمان، فليس معناه التحجير على غيره، وأكبر دليل على ذلك هو ما تركوا لنا من تراث فقهي وفتاوى كثيرة ومهمة، صارت مصدرا نفيسا للعلماء والباحثين.
خامسا: الأضحية شعيرة من شعائر الله، لا ينكر ذلك إلا جاهل، وتعظيم شعائر الله تعالى من تقوى القلوب، وشرع الله تعالى كله شعائر وشرائع يستوجب التعظيم، ليس فقط في مناسبات محدودة، وأيام معدودة، وإنما ذلك طيلة السنة، وعلى مدار الأيام، وفي كل وقت وحين، ومن زعم أن “كثيرا من الناس ينتظر هذه المناسبة طيلة السنة لتعظيم الشعيرة…” فإنه جاهل بواقع الناس، وليس له فيه لا نقير وقطمير، وإنما الواقع يشهد أن أغلب الناس إنما يقيمون “الزردة” وتوابعها. ونحن لا ننفي أن هناك طائفة -وإن قلت- حريصة على هذه الشعيرة، ولكن إحياء الأرواح، ونصرة الجهاد، ودحر الأعداء مقدم على شعيرة الأضحية، ومن جمع بينهما فذلك الأفضل. فالفلسطينيون عامة وأهل غزة خاصة هم أولى الناس بالدعم والنصرة. ومن أراد أن يعظم شعائر الله فليعظمها طيلة السنة، وليس في عيد الأضحى، ومن تعظيم شعائر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا السكوت والتكلم بمنطق “مخزني” حتى المخزن يستحيي منه، فهذا لا يليق بأولي النهى والأحلام.
سادسا: فتوى أستاذنا الريسوني معتبرة في ميزان الشرع، ومبنية على منطق المقاصد بناء محكما، لا يسع التفصيل فيها في هذه العجالة، فإحياء أنفس الفلسطينيين، خاصة الذين في الخنادق وأيديهم على البنادق، والذين يعيشون الجوع ويموتون بسببه، أولى من إقامة شعيرة الأضحية.
وبالله التوفيق.