من المتبوع المسدَّد، إلى المسلوب المهدَّد
هوية بريس – د. محمد ويلالي
شهد التاريخ أن حقيقة الشخصية الإسلامية شخصية عزة وكرامة، لا شخصيةَ هوان وملامة. شخصيةُ قوة وإباء، لا شخصيةَ خضوع واستخذاء. شخصيةٌ يُحسَب لها ألفُ حساب، لا شخصيةً يُدخَل عليها من كل باب، شخصيةٌ متبوعة مسدَّدة، لا شخصيةً مسلوبة مهددة، شخصية ما كان يدور بخلدها أنها سترضى بالدنية في الدين، وأن تكون لقمة سائغة في فم المعتدين المتربصين، ولو حلت بهم النوائب، وعضتهم المصائب.
يقول الله -جل شأنه-: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الاَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُومِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ). قال ابن ناصر السعدي -رحمه الله-: “يقول ـ تعالى ـ مشجعا لعباده المؤمنين، ومقويا لعزائمهم، ومُنهضا لهممهم: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا)، أي: ولا تهنوا وتضعفوا في أبدانكم، ولا تحزنوا في قلوبكم، عندما أصابتكم المصيبة (أي: في غزوة أحد)، وابتليتم بهذه البلوى، فإن الحزن في القلوب، والوهن على الأبدان، زيادة مصيبة عليكم، وعون لعدوكم عليكم.. وذكر -تعالى- أنه لا ينبغي ولا يليق بهم الوهن والحزن، وهم الأعلون في الإيمان، ورجاء نصر الله وثوابه”.
وقال ابن كثير -رحمه الله-: “(وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)، أي: نُديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت العاقبةُ لكم، لما لنا في ذلك من الحِكَم”. ومن هذه الحكم قوله -تعالى-: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ). وقوله -تعالى-: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).
إن الشخصية الإسلامية لا تلين قناتها لقوة أعدائها، ولا تفت جحافل أندادها في عضدها، لأن الله -تعالى- ناصر من ينصره، وهو القوي العزيز. قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُومِنِينَ).
قال البغوي -رحمه الله-: “فإن عزة الله: قهرُه مَن دونه، وعزة رسوله: إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين: نصر الله إياهم على أعدائهم”.
قال الشافعي -رحمه الله-: “لو علمتُ أن شرب الماء البارد يَثلَم مروءتي، ما شربته”. وقال للرجل الذي سأله أن يوصيه: “إن الله -تعالى- خلقك حرا، فكن حرا كما خلقك”.
أَنَا إنْ عِشْتُ لَسْتُ أعْدِمُ قُوتاً * وَإذا مـتّ لَسْـتُ أعْـدِمُ قَبْـرَا
همتـي همَّــة ُ الملـوكِ ونفســي * نَفْسُ حُـرٍّ تَرَى الْمَذَلَّـةَ كُفْـرَا
وإذا ما قنِعتُ بالقـوتِ عمري * فَلِمَـاذَا أزورُ زَيْـداً وَعَمْــرَا؟
واشتهر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: “أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ.. وَلَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً”.
وما أتي المسلمون -اليوم- إلا من جهة الركون للأمم الأخرى، لما معها من قوة وغلبة، مما يترجم عن إحساس أمتنا بالذل والهوان، أوشك أن يرتقي إلى الاستسلام لسطوة المعتدين، الذين أمعنوا في نهب خيراتنا، واستنزاف ثرواتنا، والتحكم في مقدراتنا، بل واستصدار القرارات الجائرة، والاعترافات المستفزة، للاستيلاء على أراضينا، وتسليمها لأعدائنا، والفرح بتشريد إخواننا، غير آبهين بمليار ونصف منا، لأنهم استطلعوا أحوالنا، وخبروا نفسياتنا، وأيقنوا عجزنا، واشتغالنا بذواتنا. وهذا عين سبب تداعيهم علينا. قال صلى الله عليه وسلم: “وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي. وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ” رواه أحمد وهو في ص. الجامع.
فكان جزاؤنا أن تكالبت علينا القوى العالمية، فاستصغروا شأننا، واستهزؤوا بنا، ووضعوا النِّسعة في أعناقنا.
فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا”. فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: “بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ. وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ”. فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله، وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: “حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ” ص. سنن أبي داود. قال العظيم آبادي -رحمه الله وبيننا وبينه أزيد من قرن من الزمان-: “(أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ)، أي: تتداعى، بأن يدعو بعضهم بعضًا لمقاتلتكم، وكسر شوكتكم، وسلب ما ملكتموه مِن الدِّيار والأموال.. (وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ)، ما يحمله السَّيل مِن زَبَد ووَسَخ. شبَّههم به لقلَّة شجاعتهم، ودناءة قدرهم.. (حُبُّ الدُّنْيَا، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)، وهما متلازمان، فكأنَّهما شيء واحد يدعوهم إلى إعطاء الدَّنيَّة في الدِّين مِن العدو المبين”.
ذَلَّ امرؤٌ جعل المذلَّةَ دهرَه * طلبَ المغانمِ منزلًا مأهولًا
فالرجوع إلى الدين سبيل النصر والفلاح، والثقة بالله دليل التمكين والنجاح. قال الواحديُّ في تفسيره: (إنَّ الإيمان يوجب ما ذُكِر مِن ترك الوَهن والحزن، أي: مَن كان مؤمنًا، يجب أن لا يَهِن ولا يحزن، لثقته بالله -عزَّ وجلَّ-).
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ (أن يبيع سلعةً بثمن لأجَل ثمَّ يشتريها منه بأقلَّ منه)، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ (كناية عن الاشتغال بالحرث)، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ (جعلتموه شغلكم، ونهاية همتكم وأملكم)، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ” ص. سنن أبي داود.
وقال صلى الله عليه وسلم: “وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ الله وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلاَّ سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ” ص. ابن ماجة.
فلا عزة إلا بما عز به الأولون، ولا منعة إلا بما كان عليه السابقون. ورحم الله عمر بن الخطاب رضي الله عنهم الذي قال: “إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلبِ العز بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله”.
فَنَفسَكَ أَكرِمْ عَن أُمورٍ كَثيرَةٍ * فَما لَكَ نَفسٌ بعدَها تَستَعيرُها
إن الله -عز وجل- وهب الدول العربية كل مقومات عزها ومنعتها، ومنحها أدوات الاستقلال التام بخيراتها، وسواعد أبنائها، وعقول علمائها، وأدعية صالحيها.
فمن حيث القوة البشرية، يتوافر الوطن العربي على نسبة عالية من الشباب، يمكن استثمارهم في نهضة شاملة، ومع ذلك وجدنا البطالة فيه تسجل الرقم الأعلى في العالم، إذ وصلت إلى 30.6% عام 2016، أي: 71 مليون عاطل عن العمل من الشباب. وحتى الذين يشتغلون، فإن أكثر من 39% منهم يعيشون بأقل من 3.10 دولارات يومياً.
كثير من هؤلاء هاجر إلى بلاد الغرب بحثا عن الرفه ورغد العيش، وحياة أفضل، يضافون إلى هجرة العقول التي كلفت العالم العربي قرابة 200 مليار دولار. وكان الثمن -في الغالب- حبا وانبهارا، ثم تغريبا وانصهارا.
ما كان هذا ليحدث في وطن يتوافر على موقع جغرافي متميز، يشرف على أهم البحار والمحيطات، ويتوافر على أربعة من المنافذ تتحكم في التجارة العالمية، منها قناة السويس التي تتحكم في ربع الملاحة التجارية الدولية.
وما كان هذا ليحدث في وطن به احتياطات مهمة من الثروات الطبيعية، والكنوز الثمينة، والخيرات المذهلة، التي يقوم بها عصب الاقتصاد العالمي.
وما كان هذا ليحدث في وطن مساحته تمثل 10% من مساحة العالم، ويملك أراضي فلاحية تكفي زراعتها لسد حاجياته وتزيد، ومع ذلك يستورد 13 مليار دولار من الغذاء.
وما كان هذا ليحدث في وطن لا يتصور فيه الاختلاف بين بنيه، وهم يوحدهم الدين، واللغة، والتاريخ، والجوار، وتوحدهم الآمال والآلام، والعدو المشترك، الذي يتربص بهم في كل حين.
هذه التبعية، وهذا الاحتياج، هما ما جرأ الأعداء على أن يتحكموا في خريطة عالمنا، وأن يعتبروها قصعة قابلة للقسمة والتعديل، يتلاعبون بمصائر شعوبها، ويضبطون إيقاعات تحركاتها، ويحركون سبل إحداث النزاعات بين أهلها. والله غالب على أمره.
لا تسقنــي مـاء الحيـاة بذلــة * بل فاسقني بالعز كأس الحنظل