من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (1)
التساؤل 1 : لماذا بدأ سورة الفاتحة بـ ( الحمد لله) ؟ ولم يقل الشكر لله أو المدح لله؟
الجواب :
تساؤل سريع التبادر إلى الذهن..
الحمد هو الثناء والثناء يطلق على مطلق الوصف سواء كان مدحا أو ذما ولكنه غلب في جانب المدح، وهو الثناء بالجميل على الجميل الاختياري أو القديم سواء كان من باب الإحسان أو من باب الكمال.
وقفة مع التعريف:
قلت: الحمد هو وصف جميل بمعنى جميل يستحق ذلك الوصف، هذا الوصف الجميل إما أن يكون اختياريا كالصدق مثلا لأنه وصف جميل مكتسب، أو أن يكون ذلك الوصف الجميل أزليا في حق الله تعالى وفي حق المخلوق، يمكن أن نقول عنه بأنه جبلي، كحسن الوجه أو اعتدال القامة وغيرها من الأوصاف الجبلية التي خلق عليها الإنسان، وسواء كان ذلك الثناء من باب الإحسان أي الإكرام والإنعام، أو من باب الكمال، أي من باب كمال الصفة. فنحن نحمد الله على الجميل وعلى الجليل وعلى الإحسان، لأن صفات الله تعالى منها صفات جمال وصفات جلال وصفات إحسان.
بعد أن عرفنا معنى الحمد، لابد من أن نعرف الفروق والفصول بينه وبين غيره من ألفاظ الثناء، وبعدها نطلع على مناسبته هنا، حتى إذا ابتدأت يوما سهوا سورة الفاتحة، بـ (الشكر لله رب العالمين) أو (المدح لله رب العالمين) لم تستطعم حلاوة الثناء المطلوب هنا، ولم تشعر بانضباط وإحكام هذه الآية، ولهذا وجدت سلسلة من تساؤلات القارئ المتدبر.
والحمد أعم من الشكر لأن الشكر لا يكون إلا جزاء على نعمه، والحمد يكون جزاء كالشكر ويكون ثناء ابتداء كما أن الشكر قد يكون أعم من الحمد لأن الحمد باللسان والشكر باللسان والقلب والجوارح .
والحمد يعم ما إذا وصل ذلك الانعام إلى الحامد بشخصه أو إلى غيره، أما الشكر فهو مختص بالانعام الواصل إلى الشاكر.
فالحمد لا يختص بحالة تنعم الحامد بالنعمة المحمود عليها، فلما أقول (الحمد لله) فإنني أستذكر كل النعم التي أنعم الله تعالى بها، سواء كنت في عداد من وصلت إليهم تلك النعم أم لا، فإذا نزلت نعمة في القطب الشمالي أو على بعد آلاف الكيلومترات عني فإنني أقصدها بقولي (الحمد لله) وبتعبير آخر فالحمد كلي يثني على الله عزوجل من حيث كونه منعما لا من حيث انتفاع الحامد بتلك النعمة.
من خلال هذه الفروق يتبين لنا جليا أن للحمد مزية هنا على الشكر:
من حيث الإطلاق فهو لا يقف عند معنى المقابلة أو المقايضة بل يتجازو هذا السقف إلى سماء الإجلال والتقديس والكمال.
ومن حيث إطلاق الإنعام فالحامد يعترف باستحقاق الحمد لله لا لمجرد إنعام واصل ولكن للإقرار بالحقيقة المطلقة التي لا تحتاج إلى علامة إثبات.
بين الحمد والمدح..
والحمد لا يكون إلا على إحسان والله حامد لنفسه على إحسانه إلى خلقه فالحمد مضمن بالفعل، والمدح يكون بالفعل والصفة وذلك مثل أن يمدح الرجل باحسانه إلى نفسه وإلى غيره وان يمدحه بحسن وجهه وطول قامته ويمدحه بصفات التعظيم، من نحو قادر وعالم وحكيم ولا يجوز أن يحمده على ذلك وإنما يحمده على إحسان يقع منه فقط.
وفي الحمد تعظيم وإجلال لا يفيده المدح ، إضافة إلى أن المدح يكون قبل الإحسان وبعده أما الحمد فلا يكون إلا بعد الإحسان كدليل على الاستحقاق والصدق، ولا تنافي هنا بين ما قلناه سابقا أنه لا يشترط في الحمد وصول النعمة إلى الحامد، لأن المقصود هنا، هو أن يكون المحمود محسنا حقا متفضلا صدقا، أن تكون تلك الصفة سارية مستمرة لا انقطاع فيها ولا انتظار للمدح.
والحمد لا يكون إلا للحي العاقل بخلاف المدح فإنه يكون لغير الحي ولغير العاقل.
وفي حق الله تعالى لما نقرأ (الحمد لله رب العالمين) فإننا نستذكر صفة الحياة التي هي من أهم صفات الله عزوجل والتي تليق بجلاله حياة لا بداية لها ولا نهاية، خياة قيمة بذاتها، ونستذكر كذلك صفة الحكمة، فهو الحكيم الحكمة الكاملة التي لا خلل فيها ولا نقص. هتان الصفتان لا يسعف تذكرهما في هذا المقام إلا كلمة الحمد.
والحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال، فعند قولك (الحمد لله رب العالمين) فإنك تستحضر محبة الله تعالى وإجلاله، فيطير قلبك فرحا، وتسكن جوارحك احتراما وإجلالا، ولا ينبغي أن تنطق بالحمد وأنت مبغض أو متضجر أو متصنع لذلك الحب والإجلال. أما المدح فهو إخبار عن المحاسن فقط لذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء لأن الحامد متعبد لله بالحمد مطبق له محبة وإجلالا، أما المدح فهو خبر محض لأنه مجرد إخبار ووصف.
إذا تأملنا ما ذكر من الفروق هنا سنجد بأن الحمد هنا يفيد معان جليلة لا يسعفها المدح، وذلك:
أن في الحمد إشارة إلى جانب العمل الذي من أهم محاور هذه السورة العظيمة لأن الحمد لا يكون إلا بعد الإحسان ولا يرتبط إلا بالفعل بخلاف المدح ، بل إن الحمد يتجاوز دائرة الإنعام الشخصي المحسوس المصحوب باللذة إلى دائرة الإقرار بالإنعام أصالة والاعتراف بأن ما جاء من عند الله عزوجل فهو نعمة ظهرت أو بطنت.
ومن جهة أخرى فإن الحمد مرتبط بالصفة الفعلية لا الجبلية ، وفي ذلك إشارة إلى المعنى العملي الأصيل.
وفي الحمد معنى التعظيم الذي لا نجده في المدح لأن هذا الأخير قد يوجه لمن يستحق التعظيم ومن لا يستحقه، أما الحمد فلا يوجه إلا لمن استحق التعظيم والإجلال.
وفي الحمد، معنى الحياة والإدراك لا يسعفه معنى المدح، وفي ذلك إقرار مضمن واثبات لصفة الحياة لله عزوجل وجميع صفات الكمال وتنزيهه عن كل نقص.
ومن هنا ندرك أحقية لفظ الحمد بهذا المقام وفي ذلك المكان.
إذن فالحمد فيه:
- ثناء على معاني الجمال والجلال والإحسان.
- اسحتضار لصفة الحياة والقيومية والحكمة.
- وفيه معنى الصدق والاستحقاق.
- وفيه معنى التعظيم
- وفيه معنى المحبة والإجلال.
قال الإمام ابن جزي: فإذا فهمت عموم الحمد علمت أن قولك الحمد لله يقتضي الثناء عليه لما هو من الجلال والعظمة والواحدانية والعزة والإفضال والعلم والمقدرة والحكمة وغير ذلك من الصفات، ويتضمن معاني اسمائه الحسنى التسعة والتسعين ويقتضي شكره والثناء عليه، بكل نعمة أعطى ورحمة أولى جميع خلقه في الآخرة والأولى، فيا لها من كلمة جمعت ما تضيق عنه المجلدات وتقف دون عده عقول الخلائق ويكفيك أن الله جعلها أول كتابه وآخر دعوى أهل الجنة .
وقفة مع الشكر :
الشكر باللسان هو الثناء على المنعم والتحدث بالنعم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “التحدث بالنعم شكر” رواه أحمد والطبراني والشكر بالجوارح هو العمل بطاعة الله وترك معاصيه والشكر بالقلب هو معرفة مقدار النعمة والعلم بأنها من الله وحده والعلم بأنها تفضل لا باستحقاق العبد واعلم أن النعم التي يجب الشكر عليها لا تحصى ولكنها تنحصر في ثلاثة أقسام :
نعم دنيوية كالعافية والمال
ونعم دينية كالعلم والتقوى
ونعم أخروية وهي جزاؤه بالثواب الكثير على العمل القليل في العمر القصير
والناس في الشكر على مقامين منهم من يشكر على النعم الواصلة إليه خاصة ومنهم من يشكر الله عن جميع خلقه على النعم الواصلة إلى جميعهم
والشكر على ثلاث درجات :
فدرجة العوام : الشكر على النعم
ودرجة الخواص الشكر على النعم والنقم وعلى كل حال
ودرجة خواص الخواص أن يغيب عن النعمة بمشاهدة المنعم قال رجل لإبراهيم بن أدهم الفقراء إذا منعوا شكروا وإذا أعطوا آثروا
ومن فضيلة الشكر أنه من صفات الحق ومن صفات الخلق فإن من أسماء الله الشاكر والشكور وقد فسرتهما في اللغة[1]
[1] – كل ما تيسر جمعه في هذا الجواب أنظره في المراجع الآتية:
[التسهيل (1/63) / حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي ( الْمُسَمَّاة ) عِنَايةُ القَاضِى وكِفَايةُ الرَّاضِى عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوي لأحمد بن محمد بن عمر شهاب الدين الخفاجي المصري الحنفي(1/79) دار صادر ـ بيروت / محاسن التأويل لمحمد جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم الحلاق القاسمي (المتوفى: 1332هـ) (1/226) المحقق: محمد باسل عيون السود دار الكتب العلميه – بيروت الطبعة: الأولى – 1418 ه / البحر المديد في تفسير القرآن المجيد لأبي العباس أحمد بن محمد بن المهدي بن عجيبة الحسني الأنجري الفاسي الصوفي (المتوفى: 1224هـ) (1/53)المحقق: أحمد عبد الله القرشي رسلان الناشر: الدكتور حسن عباس زكي – القاهرة الطبعة: 1419 هـ/ الفروق اللغوية لأبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفى: نحو 395هـ)(50) حققه وعلق عليه: محمد إبراهيم سليم دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة – مصر/ اللباب في علوم الكتاب لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني (المتوفى: 775هـ) (1/169) المحقق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض دار الكتب العلمية – بيروت / لبنان الطبعة: الأولى، 1419 هـ -1998م/ بيان المعاني لملا حويش آل غازى عبد القادر (1/63) مطبعة الترقى مكان الطبع : دمشق/ تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم لأبي محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر التميمي، الحنظلي، الرازي ابن أبي حاتم (المتوفى: 327هـ)(11/9) المحقق: أسعد محمد الطيب مكتبة نزار مصطفى الباز – المملكة العربية السعودية الطبعة: الثالثة – 1419 هـ/ تفسير القرآن العظيم لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي [ 700 -774 هـ ] (1/129)المحقق : سامي بن محمد سلامة دار طيبة للنشر والتوزيع الطبعة : الثانية 1420هـ – 1999 م / إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود العمادي محمد بن محمد بن مصطفى (المتوفى: 982هـ)(1/12)دار إحياء التراث العربي – بيروت / التفسير الوسيط للقرآن الكريم لمحمد سيد طنطاوي(1/18) دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة الطبعة: الأولى.