من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (11)
هوية بريس – سفيان أبو زيد
التساؤل 14: لماذا لم يقل إياه نعبد وإياه نستعين، مواصلة لسياق الغائب من أول السورة؟
الجواب:
وهنا التفات عجيب!
والالتفات أسلوب قرآني ومعناه الانتقال من أسلوب غيبة مثلا إلى خطاب كما نلاحظ هنا في سورة الفاتحة، من بداية السورة والأسلوب يتحدث عن الغائب :الحمد لله رب العالمين …
فانتقل مباشرة دون مقدمات إلى أسلوب الخطاب : إياك نعبد وإياك نستعين.
هذا في اللغة العربية وفي التعبير القرآني يسمى التفاتا.
قال الإمام أبو السعود: أي انتقال من أسلوب الغيبة إلى أسلوب الخطاب، لأن الظاهر من قبلُ ضميرُ الغيبة، فلم يقل : إياه نعبد، والمراد منه أن تخصيص العبادة والاستعانة به تعالى، لما أجرى عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكمل تميز، وأتم ظهور، تبدل خفاء الغيبة بجلاءِ الحضور.
قلت: فاستصحب معك من أول السورة معاني الحمد التي لا تنقضي، ومعالم الربوبية والملك التي لا تنتهي، وسحائب الرحمة التي نرتجي، هذه كلها لا يمكن أن يتصف بها شيء في الأرض ولا في السماء، فتحدث عنها الله عزوجل وأخبرنا عنها إخبار مقدما بأمر مضمر على قول، وبعد ذلك تفعيلا لتلك المعاني وإظهارا لتأثيرها اللفظي والمعنوي جاء بصيغة الخطاب دون مقدمات ولا ممهدات، وكأن القارئ المتدبر بعد تأمله لفضاءات الربوبية ، وهيامه في جمالات الرحمة، وسباحته في بحار الملكوت، فتنطلق أحاسيسه ومشاعره ودواخله وجوارحه معبرة عن تأثير ذلك المشهد المبهر الذي يسوده الجمال والجلال، تنطلق معبرة عن ذلك بخروج فوري من صيغة الغيبة إلى صيغة الخطاب معترفة مقرة بحصر منقطع النظير قائلة (إياك نعبد وإياك نستعين).
قال الإمام أبو السعود: فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب ، والإيذانَ بأن حقّ التالي بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس ، المستوجبِ للعبودية ، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية ، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين ، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً ، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ أن يترقى من رتبة البرهان إلى طبقة العيان ، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود ، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس ، كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بين يديه ، وهو يدعو بالخضوع والإخبات ، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً : يا من هذه شوؤنُ ذاتهِ وصفاتهِ ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة ، فإن ما سواك كائناً ما كان بمعزل من استحقاق الوجود ، فضلاً عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان، ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنّتُه للتبتل إليه بالكلية .[1]
قلت: فتوجيه العبادة والاستعانة المطلقة لغير الله عبث ولون من الحمق، لأن الذي وجهت له تلك العبادة والاستعانة هو في الحقيقة غير مستحق للوجود استحقاقا كاملا مستقلا عن القيود.
[1] – أنظر[الدر المصون في علوم الكتاب المكنون لأبي العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي (المتوفى: 756هـ) (1/57)المحقق: الدكتور أحمد محمد الخراط دار القلم، دمشق/ السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير لشمس الدين، محمد بن أحمد الخطيب الشربيني الشافعي (المتوفى: 977هـ) (1/10)مطبعة بولاق (الأميرية) – القاهرة عام النشر: 1285 هـ / الكشاف (1/13)/ تفسير النسفي (مدارك التنزيل وحقائق التأويل) لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي (المتوفى: 710هـ) (1/31)حققه وخرج أحاديثه: يوسف علي بديوي راجعه وقدم له: محيي الدين ديب مستو دار الكلم الطيب، بيروت الطبعة: الأولى، 1419 هـ – 1998 م]