من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (15)
هوية بريس – سفيان أبو زيد
وقفات مع العبادة والاستعانة:
مع العبادة ..
الوقفة الأولى: المباح ميدان العبادة الإبداعية
التعريف المشهور للعبادة أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
بهذا التعريف ندرك أن العبادة شاملة لحياة الانسان كلها، وكما سبق بأن الأحكام التكليفية خمسة (واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم) هذه كلها عبادات، فترك المحرم عبادة وفعل الواجب عبادة، وترك المكروه عبادة، وفعل المندوب عبادة، والمباح محل اجتهاد، وكما هو ملاحظ وواقعي أن أغلب حياتنا مباحات فتجد دائرة المباح واسعة، فنجد مثلا أن المحرم من المشروبات واحد وهو الخمر وباقي المشروبات مباحة، ونجد أن اللحوم أغلبها مباح إلا ماحرمه الله تعالى.
فوسعت دائرة المباح ليتنافس الناس ويتم استقطاب أجزائها إلى حيز العبادة.
وهذا المعنى العام للعبادة جاء واضحا جليا في آخر سورة الأنعام قال تعالى : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}
فالصلاة والنسك داخل في إطار العبادة الشرعية المكلف بها، ثم وسعت دائرة العبودية {ومحياي} أي محيا الانسان حركاته وسكناته وأنفاسه.
وهو بالخيار إما أن يستثمرها في جانب العبادة ويحولها إلى عبادة ، أو أن يتركها هملا تضيع منه وهو في حاجة لها غدا يوم القيامة حيث لا ينفعه إلا عمله إذ هو العملة الصعبة حينذاك .
فهذه الانفاس هي التي سماها القرآن (محياي) .
{ومماتي} كذلك ممات الإنسان، حيث يجعل حياته نذرا لله تعالى حتى يتوافاه الله تعالى كما ورد عن بعض السلف : من المحبرة إلى المقبرة.
بل يجعله ما بعد الممات مظان للعبادة قال النبي صلى الله عليه وسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له.
فليحرص الانسان على التصدق والانفاق الجاري .
وكذلك تربية النشئ الصالح الذي يكون خير خلف لخير سلف.
وكذلك أن يترك أثرا علميا تنتفع به الأمة في شتى مجالات العلوم.
فنجوم الإسلام من العلماء المخلصين ما بزغ نجمهم إلا نتيجة عبوديتهم والأثر العلمي الذي تركوه وراءهم.
هناك تعريف آخر للعبادة: ويذكره ابن تيمية رحمه الله تعالى : العبادة اسم يجمع كمال الذل ونهايته ، وكمال الحب ونهايته. فالحب الخلي عن الذل والذل الخلي عن الحب لا يكون عبادة.[1]
فالمسلم يربطه بربه سبحانه وتعالى ذل وتواضع وخضوع وانكسار وامتثال وفي نفس اللحظة يربطه به حب وتعظيم وتقديس وإجلال.
هذان الرابطان لابد أن يجتمعا في قلب المسلم ليتحقق العبودية ولا يمكن أن يجتمعا في قلب الانسان إلا لله عزوجل، فمهما أحببت شخصا يستحيل أن أذل له لأن الذل يقتضي المهانة المنافية لكرامة الحب، ولكن في حق الله عز وجل يجتمعان لأن الذل له عز وحبه كرامة.
لذلك قال الإمام أبو علي الدقاق رحمه الله : إياك نعبد حفظ للشريعة وإياك نستعين إقرار بالحقيقة.[2]
الوقفة الثانية:
العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع والعرب تقول: طريق معبد أي مذلل، والتعبد: التذلل والخضوع؛ فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له لم تكن عابداً له ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له حتى تكون محبا خاضعا ومن ههنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية والمنكرون لكونه محبوباً لهم بل هو غاية مطلوبهم ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم منكرين لكونه إلها وإن أقروا بكونه ربا للعالمين وخالقا لهم فهذا غاية توحيدهم وهو توحيد الربوبية الذي اعترف به مشركو العرب ولم يخرجوا به عن الشرك كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله) (قل لمن الأرض ومن فيها) إلى قوله (سيقولون لله قل فأنى تسحرون)، ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه.[3]
الوقفة الرابعة:
قال الإمام محمد عبده: إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لعبد وما يماثلها ويقاربها في المعنى كخضع وخنع وأطاع وذل نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي (عبد) ويحل محلها ويقع موقعها؛ ولذلك قالوا : إن لفظ (العباد) مأخوذ من العبادة فتكثر إضافته إلى الله تعالى ولفظ (العبيد) تكثر إضافته إلى غير الله تعالى لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى (الرق) وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى.
ومن هنا قال بعض العلماء: إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ولكن استعمال القرآن يخالفه؛ يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلواً حتى يفنى هواه في هواه وتذوب إرادته في إرادته، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة؛ ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين، فضلاً عن سائر العابدين، ولم يكن العرب يسمون شيئاً من هذا الخضوع عبادة، فما هي العبادة إذاً؟
تدل الأساليب الصحيحة والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها. وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ولكنها فوق إدراكه؛ فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال انه عبده وإن قبّل مواطئ أقدامه ما دام سبب الذل والخضوع معروفاً وهو الخوف من ظلمه المعهود أو الرجاء بكرمه المحدود؛ إلا بالنسبة للذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا لأنهم أطيب الناس عنصراً وأكرمهم جوهراً وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد، فاتخذوا الملوك آلهة وأرباباً وعبدوهم عبادة حقيقية.[4]
مع الاستعانة..[5]
الوقفة الاولى:
الاستعانة الصادقة معناها التوكل وهي تجمع أصلين الثقة بالله والاعتماد عليه فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به لاستغنائه عنه وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه ولعدم من يقوم مقامه فيحتاج إلى اعتماده عليه مع أنه غير واثق به.
الوقفة الثانية:
ذكرت العبادة والتوكل في القرآن في عدة مواضع وقرن بينهما منها :
- قول شعيب (وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
- قوله تعالى (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه).
- قوله تعالى حكاية عن المؤمنين (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير).
- قوله تعالى (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلاً رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا).
- قوله تعالى (قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب).
الوقفة الثالثة:
التوكل: حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله والإيمان بتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع والعطاء والمنع وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس؛ وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس، فيوجب له هذا اعتماداً عليه وتفويضاً إليه وطمأنينة به وثقة به ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه وأنه ملي به ولا يكون إلا بمشيئته شاءه الناس أم أبوه؛ فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينويه من رغبة ورهبة هما مليان بهما فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه وحبس همه على إنزال ما ينويه بهما فهذه حال المتوكل ومن كان هكذا مع الله فالله كافيه ولا بد قال الله تعالى (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي كافيه؛ والحسب: الكافي، والكفاية تكون بحسب العبودية قال تعالى (أليس الله بكاف عبده).[6]
[1] – أمراض القلب وشفاؤها لتقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728هـ) (ص:44) المطبعة السلفية – القاهرة الطبعة: الثانية، 1399هـ
[2] – الرسالة القشيرية (ص:42)
[3] – مدارج السالكين (1/96)
[4] – مشكلات القرآن وتفسير سورة الفاتحة (ص:47)
[5] – أنظر تفسير الفاتحة مثالا على تدبر القرآن
[6] – مدارج السالكين (1/103)