من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (17)
هوية بريس – سفيان أبو زيد
والهداية نوعان كما يذكر العلماء ذلك :
النوع الأول – الهداية التوفيقية : أو تسمى هداية معونة.
النوع الثاني – الهداية التبليغية: أو تسمى هداية دلالة.
ولنا هنا وقفة نحل بها إشكالا:
وهو أن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}[1] فنفى عنه الهداية ، ولكنه أثبتها له في موضع آخر حيث قال { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}[2]
فيظهر هنا تناقض من الآيتين كيف نفى عنه الهداية وأثبتها له؟
قال العلماء : بأن الهداية المنفية عن النبي صلى الله عليه وسلم هي هداية التوفيق، نفاها عنه وعن غيره بالأولى والأحرى فهي هداية ربانية اختص الله بها، والهداية التي أثبتها الله تعالى لنبيه هي هداية الدلالة، وهداية التبليغ، فهو مأمور بها وأمرت بها أمته.
وهداية التبليغ هي هداية الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهداية التربية والتعليم وأن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، وهذه مسؤولية ثقيلة وعظيمة، ينبغي للمسلم أن يتحملها وأن يشعر بها، وبأهميتها كما أحس بها النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى لنبيه{ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} فإنه صلى الله عليه وسلم كان مشفقا وخائفا ألا تبلغ الهداية إلى الناس.
كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وهم يقتحمون فيها»[3]
لنتأمل هذا التشبيه البليغ الذي يقف فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه من بعده من حملة رسالة، يحولون دون انحراف الناس وهم مندفعون إلى ما يفسد دنياهم وأخراهم، وفي قوله (يغلبنه) تصوير واضح لذلك الإصرار على طريق الانحراف، والمصلح والداعية بعد أن طهر نفسه وعلمها، واقف صامد مشفق باذل لكل ما أوتي من قوة وعلم وحجة ليمنع الناس من الوقوع في نار أوهامهم وشهواتهم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ وعلم ودعا وجاهد في الله حق الجهاد حتى أتاه اليقين، ثم حمل بعده صحابته الكرام رضي الله عنهم هذا اللواء، فبلغوا وجاهدوا وضحوا في سبيل الله تعالى ، وكذلك التابعون والعلماء الراسخون.
لذلك لابد للمسلم أن يكون له حظ من تلك المسؤولية الملقاة على عاتقه، وألا يكون مستنكفا عن هذا الطريق كالجماد الذي لا ينتفع ولا ينفع، كيف لا والنبي صلى الله عليه وسلم قد أقام علينا الحجة بقوله صلى الله عليه وسلم : بلغوا عني ولو آية) كما في حديث عبد الله بن عمر في صحيح البخاري.[4]
من منا لا يحفظ آية ؟ ومن منا لا يدرك حديثا؟
فهذه الهداية هي من الأهمية بمكان وهي التي توسع دائرة الإسلام، وهي التي تتمثل بها كثير من الآيات كما قال تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس} وقال تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}
وتطور الوسائل اليوم وتعددها وتنوعها من مواقع تواصل اجتماعي وأنترنت وغيرها تقوي الحجة وتزيدها .
تنبيه:
ظهر لي نوع ثالث من أنواع الهداية قد يكون داخلا في الهداية البلاغية ولكن فيه ملمحا مهما قال تعالى في سورة البلد{ وهديناه النجدين}
هذا النوع من الهداية قد نسميه الهداية التوضيحية، وهي هداية توقيفية خاصة بالله تعالى لأنه صاحب الشرع والعالم بحقائق الأمور . فالله عزوجل بين لنا طريق الخير وبين لنا معالمه ومصالحه ومآلاته {إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم}
ثم بين لنا طريق الشر بالأمثال والتناظر مع أهله ورؤوسه بل بينه بذكر وتخليد أفكاره واعتقاداته حيث يتلوها الإنسان آناء الليل وأطراف النهار إلى أن يرفع الكتاب وينتزع العلم ، وبينها ودحضها بالحجج والبراهين الدامغة الخالدة وهذه قمة القوة ورأس الثقة بالنفس و مع ذلك وضح معالمه وأبرز مآلاته {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
إذن فهي هداية توضيحية { وهديناه النجدين} والنجد: الأرض المرتفعة ارتفاعا دون الجبل. فالمراد هنا طريقان نجدان مرتفعان والطريق قد يكون منجدا مصعدا، وقد يكون غورا منخفضا.[5]
نجد الخير ونجد الشر وأعطاك عقلا وإرادة ذاتية اختيارية، وترك لك المجال لتختار.
فوائد:
الاولى : قدم الحمد والثناء على الدعاء لأن تلك السنة في الدعاء وشأن الطلب أن يأتي بعد المدح وذلك أقرب للإجابة وكذلك قدم الرحمن على ملك يوم الدين لأن رحمة الله سبقت غضبه .
الثانية : الهداية هي الدلالة بلطف لذلك لا تستعمل إلا في الخير ,أما قوله تعالى “فاهدوهم إلى طريق الجحيم” فجاء على سبيل التهكم. [6]
إذن فالهداية في الأصل لا تطلق إلا على ماكان لطريق الخير، والتهكم كما سبق ذكره هو الثناء بالجميل على القبيح.
الثالثة : ذكروا في معنى الهداية هنا :
- الهداية العامة
- التوفيق لطريق الشرع.
- طلب الحراسة من استغواء الغواة وإستهواء الشهوات، والعصمة من الشبهات.
- طلب الزيادة من الهدى واستنجاحاً لما وعد بقولك: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. وقولك: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى}
- طلب تعلم العلم الحقيقي، فذلك سبب الخلاص، وهو المعبر عنه بالنور في قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}
- سؤال الجنة، لقوله تعالى: {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} الاية.
فهذه الأقاويل اختلف باختلاف أنظارهم إلى أبعاض الهداية وجزئياتها والجميع يصح مراداً بالآية إذ لا تنافي بينها. [7]
إذن فقول القارئ (اهدنا الصراط المستقيم) فيه معنيان رئيسيان:
- الثبات على الهداية.
- الافتقار إليها الاستزادة منها.
[1] – سورة القصص: 56
[2] – سورة الشورى :52
[3] – صحيح البخاري (8/102/6483)
[4] – صحيح البخاري (4/170/3461)
[5] – انظر التحرير والتنوير(30/313)
[6] – أنظر[ التحرير والتنوير (1/151-196) / التسهيل (1/65) / البحر المديد (1/61) /التفسير الوسيط (1/23) / السراج المنير (1/11) / تفسير أ بي السعود (1/25) / تفسير المراغي (11/95) / تفسير المنار (1/52) / فتح البيان (1/50) / حدائق الروح (1/74)]
[7] – أنظر تفسير الراغب (1/62) / تفسير القاسمي (1/232)