من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (19)
هوية بريس – سفيان أبو زيد
لماذا جاء لفظ الصراط هنا، دون غيره من المرادفات كالطريق أو السبيل؟
الجواب:
لفظ الصراط هنا يدل على معان مهمة يتأسس عليها المنهج الإسلامي.
فالصراط في اللغة هو الطريق المحسوس قال عامر بن الطفيل:
شَحَنَّا أرضهم بالخيل حتى * تركناهم أذل من الصراط
وأذل هنا ليس الذل في مقابلة العزة وإنما الذل الذي في مقابلة الصعوبة، لأن الصراط لا يطلق إلا على الطريق المعبد الذي ليس فيه عقبات أو أشواك أو أحجار وغير ذلك مما يعيق السير فيه.
والصراط كذلك لا يطلق إلا على الطريق الواضح، فإذا كان الطريق غير واضح المعالم لا يسمى صراطا عند العرب.
والصراط لا يطلق إلا على الطريق الواسع، فالطريق الضيق لا يسمى صراطا عند العرب.
والصراط لا يطلق إلا على الطريق السهل اليسير لأن فعل سرط أو صرط بمعنى ابتلع، لا يبتلع الانسان إلا شيئا سائغا سهلا.
إذن فلفط الصراط يشير إلى ثلاث معان : السهولة والوضوح والاتساع.
هذه الصفات هي أهم معالم منهج الله تعالى، فالرسائل التي تفهم من كلمة الصراط، أن منهج الله تعالى لابد أن يكون واضحا، لا مجال فيه للتقليد الأعمى، ولا مجال فيه للاتباع الأسلاف دون حجة أو بينة، فهو طريق واضح بأدلته وبراهينه.
الامر الثاني : أنه طريق يسير مصطبغا بصبغة اليسر ، وبصبغة إزالة المشاق عن الناس أو تخفيفها، وإزالة العقبات في طريق الناس، لذلك جاء في التنزيل على لسان عيسى عليه السلام {ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم}
وقد حمل بعض المتدينين صورة شوهاء عن التدين وظنوا جهلا أن التدين والتشبث في التحريم، والاحتياط وسد الذرائع الزائدين.
وهنا نذكر قصة لأحد علماء المغرب العلامة فريد الأنصاري رحمه الله لما سئل في درس له مسجل عن كتاب الشيخ العلامة القرضاوي حفظه الله تعالى الحلال والحرام، وجاء في السؤال أن بعض طلاب العلم يقولون عن كتاب الحلال والحرام : الحلال والحلال، أي لمزا له لما فيه من تساهل وعدم انضباط حسب قولهم؟
فأجاب هذا الشيخ جوابا حكيما: بأن هذا الذي يقول عن كتاب الشيخ القرضاوي الحلال والحلال ليس في عقله إلا الحرام والحرام!!!
فكما نهى الله عن تحليل ما حرم، كذلك نهى عن تحريم ما أحل، قال تعالى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)}
فكلا الأمرين طامتان كبيرتان أن نحلل ما حرم الله أو أن نحرم ما أحل الله بل أمر التحريم أعظم بدليل تقديمه في الآية.
وكلا الأمرين طرفا نقيض والاسلام وسطية لأنه عبودية لله تعالى التي تقتضي أن نحرم ما حرم الله وأن نحلل ما أحل الله.
فمن علامات وأمارات منهج الله هو التيسير، لذلك ما خير النبي صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكم إثما.[1]
والإمام سفيان الثوري يقول : ليس الفقه بالتشدد فالتشدد يحسنه كل الناس، وإنما الفقه رخصة من ثقة.
أي ثقة في علمه وعمله.
فوظيفة الداعي إلى الله والفقيه والمفتي أو يوجد للناس حلولا في مشكلاتهم، ويدلهم على مصالحهم.
والأمر الثالث : أنه طريق واسع، يسعني ويسع غيري، لو كان طريق الاسلام طريقا ضيقا لنزل قرآن من مئات المجلدات، يبين للناس كل تفاصيل حياتهم بدقة وتفصيل، ولكن القرآن نزل في ستمائة صفحة ويزيد يستوعب البشرية منذ نزوله إلى قيام الساعة.
تلك المئات من الصفحات نزلت فيها قواعد ومبادئ كل من تهيأ علما وفهما له أن يجتهد في فهمها في جو يحتمل الاتفاق والاختلاف ، لذلك القاعدة الأساسية التي ينبغي أن تكتب بماء الذهب : نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر وينصح بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه.
هذه القاعدة من أصول الدين، ومن أساسات فهم الإسلام.
أي نتعاون على الثوابت ويعذر بعضنا بعضا في المتغيرات وينصح بعضنا بعضا، ولا إنكار في مسائل الخلاف.
وإنما سمي صراط الآخرة الممدود على ظهر جهنم، والذي تعبر عليه الخلائق غدا يوم القيامة، سمي صراطا رغم أنه ذكر في وصفه أنه (أدق من الشعرة في ضيقه)[2] فهو في الحقيقة واسع على من فهم وسعه وسار على وسعه ودعا إلى وسعه في الدنيا، فإنه في ذلك اليوم يبشر بأنه صراط وإن ضاقت معالمه، فتراه يمر عليه كالسهم أو كالخيل أو كالبرق، وذلك حسب ثباته عليه في الدنيا، أما الذي انحرف عنه أو فهمه فهما ضيقا قاتما بشعا، فإنه يضيق عليه غدا يوم القيامة وإن سمي صراطا.
الأمر الرابع: قال العلماء: وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل ، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم ، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده .
يقول الإمام ابن القيم : فمن هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم من يحبو حبوا، ومنهم المخدوش المسلم، ومنهم المكردس في النار، فلينظر العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا، حذو القذة بالقذة، جزاء وفاقا {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}[3] .
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك {وما ربك بظلام للعبيد}[4] .
فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير، والسلامة من كل شر.[5]
وظهر لي معنى خامسا: وهو الامتزاج والشمول.
وانطلقت لإثبات هذا المعنى من الأصل اللغوي إذ الصراط من صرط بمعنى ابتلع وسمي الطريق صراطا لأنه يبتلع سالكه ويبتلعه سالكه فكلا الطرفين يبتلع الآخر، لأن الطريق يقصر كلما تقدم فيه السالك، والطريق يبتلع السالك لأنه يتقدم في سياقه، فالعرب تقول : ابتلعته المفازة أي أهلكته، ويقولون أيضا : أكل المفازة إذا قطعها بسرعة.
قال أبو تمام:
رمته الفيافي بعد ما كان حقبة** رعاها وماء الروض ينهل ساكبه.
فالمعنى الخامس المفهوم من كلمة الصراط هو الامتزاج والشمول لأن الابتلاع والصرط فيه نوع امتزاج وشمول لجميع مكونات المبلوع ، فمن معالم منهج الله تعالى أنه ينبغي أن يمتزج مع ذات الإنسان، ومع حياته ومع كل ما يتعلق به.
فمنهج الله ليس فيه فصل للدين عن الحياة والله عزوجل يقول {اهدنا الصراط المستقيم} فالصراط فيه معنى الامتزاج فينبغي للمسلم أن يمتزج مع هذا المنهج وأن يصل إلى كل ذرة من ذراته وكل جزئية من حياته وأن تكون هذه العبودية محيطة به.
وفيه معنى الشمول أي شمول هذا المنهج لكل تقاسيم الحياة.
هذه المعاني كلها اختزلتها واختزنتها لنا كلمة الصراط.[6]
وقفة مع خاصية العموم والشمول:
هذه الشريعة عامة لكل الأفراد ولكل إنسان أن يستظل تحت ظلها وأن يتدين بشرعها وأن ينتهج منهجها، فهي ليست حكرا على أحد، وليس فيها شعب الله المختار، أو أي تفضيل عرقي أو نسبي أو غير ذلك، فكما أن هذا الدين قبل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكذلك قبل بلالا بن رباح الحبشي.
وهذا الميزان الرباني الجديد منشؤه العدل الرباني الذي جعل مقياس التميز هو ما اكتسبه الانسان بعمله وجهده وصبره وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولم يجعله لأمر قدري لا دخل للانسان فيه كالنسب والعرق.
وكما أن هذا الدين عام فهو أيضا شامل لكل مناحي الحياة وتقاسيمها وتفاصيلها، فليس هناك أمر في هذه الدنيا منذ انطلاقتها خارج عن حكم الله، وما من حركة أو سكون إلا ولله فيها حكم علمه من علمه وجهله من جهله.
والمطلوب منا نحن أهل هذا الدين أن نجتهد في توسيع دائرة ذلك العموم، وأن نعمق معنى ذلك الشمول، حتى يستوعب كل المستجدات وكل تلك الحركات والسكنات التي تجري في هذا الكون، فكلما أهملنا هذا الجانب وقصرنا فيه إلا ضاقت دائرة الإسلام، حتى تضيق على أهلها، وكلما اجتهدنا في طلب العلوم الخادمة لهذا الدين وفهمنا الوقائع والأحداث وأنزلنا تلك النصوص على تلك الوقائع أضبط إنزال إلا وساهمنا في توسيع دائرة هذا الدين وحققنا شموله، وأثبتنا القاعدة المتفق عليها وهي أن هذا الدين صالح لكل زمان ومكان.
ثم وصف الله عزوجل هذا الصراط بأنه مستقيم أي القويم الذي لا عوج فيه، فكل فعل أو خلق إلا وفيه طرفا إفراط وتفريط، والعدل والوسط ما كان بينهما.
يقول الإمام ابن القيم: وكل خلق محمود مكتنف بخلقين ذميمين. وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا البخل والتبذير. والتواضع: الذي يكتنفه خلقا الذل والمهانة. والكبر والعلو.
فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد، فإذا انحرفت عن خلق التواضع انحرفت: إما إلى كبر وعلو، وإما إلى ذل ومهانة وحقارة. وإذا انحرفت عن خلق الحياء انحرفت: إما إلى قحة وجرأة، وإما إلى عجز وخور ومهانة، بحيث يطمع في نفسه عدوه. ويفوته كثير من مصالحه. ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء. وإنما هو المهانة والعجز، وموت النفس.
وكذلك إذا انحرفت عن خلق الصبر المحمود انحرفت: إما إلى جزع وهلع وجشع وتسخط، وإما إلى غلظة كبد، وقسوة قلب، وتحجر طبع. كما قال بعضهم:
تبكي علينا ولا نبكي على أحد**فنحن أغلظ أكبادا من الإبل.
وإذا انحرفت عن خلق الحلم انحرفت: إما إلى الطيش والترف والحدة والخفة، وإما إلى الذل والمهانة والحقارة. ففرق بين من حلمه حلم ذل ومهانة وحقارة وعجز، وبين من حلمه حلم اقتدار وعزة وشرف. كما قيل:
كل حلم أتى بغير اقتدار ** حجة لاجئ إليها اللئام
وإذا انحرفت عن خلق الأناة والرفق انحرفت: إما إلى عجلة وطيش وعنف، وإما إلى تفريط وإضاعة. والرفق والأناة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق العزة التي وهبها الله للمؤمنين، انحرفت: إما إلى كبر، وإما إلى ذل. والعزة المحمودة بينهما.
وإذا انحرفت عن خلق الشجاعة انحرفت: إما إلى تهور وإقدام غير محمود، وإما إلى جبن وتأخر مذموم.
وإذا انحرفت عن خلق المنافسة في المراتب العالية والغبطة انحرفت: إما إلى حسد، وإما إلى مهانة، وعجز وذل ورضا بالدون.
وإذا انحرفت عن القناعة انحرفت: إما إلى حرص وكلب، وإما إلى خسة ومهانة وإضاعة.
وإذا انحرفت عن خلق الرحمة انحرفت: إما إلى قسوة، وإما إلى ضعف قلب وجبن نفس.[7]
وكذلك الأمر بالنسبة للكرم فهو وسط بين الإسراف والبخل كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن{ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}
ولنتأمل التناسب بين قوام ومستقيم.
فالصراط المستقيم الإسلام وقيل القرآن والمعنيان متقاربان لأن القرآن يضمن شرائع الإسلام .
وقرئ الصراط بالصاد عند جمهور القراء، وقرئ بالسين عند قنبل عن ابن كثير ورويس عن يعقوب من الاستراط بمعنى الابتلاع كأن الطريق يسترط من يسلكه
وقرئ بين الصاد المشماة بالزاي عند خلاد عن حمزة في الأولى في القرآن وعند خلف عن الحمزة حيث وقعت .
الأصل فيه السين وإنما أبدلوا منها صادا لموافقة الطاء في الاستعلاء والإطباق وأما الزاي فلموافقة الطاء في الجهر.
قال الإمام الشاطبي:
……………………….**وعند صراط والسراط ل قنبلا
بحيث أتى والصاد زايا أشمها**لدى خلف واشمم لخلاد الاولا.
[1] صحيح البخاري (4/189/ 3560)
[2] – شعب الإيمان (1/565)
[3] – سورة النمل: 90
[4] – سورة فصلت: 46
[5] – مدارج السالكين (1/33)
[6] – أنظر تلك المعاني في:
الدر المصون (1/64) / الفروق اللغوية : 313./ الكشف والبيان (1/119) / اللباب (1/205) / النكت والعيون(2/167) / تفسير القرطبي (1/147) / صفوة التفاسير (1/19) / مجاز القرآن (1/24) / اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب (ص:272) / رغائب القرآن (1/110)]
[7] – مدارج السالكين (2/296)