من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (21)
هوية بريس – سفيان أبو زيد
بما أن المطلوب هنا هو الهداية فلماذا لم يقل الله (إهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين هديتهم) ؟
قبل الإجابة على هذا السؤال ، لابد من الوقوف قليلا عند معنى النعمة والإنعام.
قال العلماء : الانعام هو إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإِحسانُ من العقلاءِ ، فلا يقال : أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره .[1]
والنعمة نوعان: نعمة دنيوية ونعمة أخروية .
والدنيوية نوعان: وهبية ومكتسبة.
ووهبية تتجلى في ثلاثة أمور :
العقل وقواه من الفهم والحفظ والفكر والنطق: لأن الفهم هو إدراك التصورات، وبعد الإدراك يأتي حفظها وتخزينها وبعد ذلك يأتي ترتيبها في أفكار، وتلك الأفكار تحتاج إلى إفصاح وإخراج أو تنظيم في منظومات نظرية.
والبدن وقواه : الصحة والقوة والجمال والكمال.
وما يكنفه من الخارج كالمال والجاه والأقارب والأصدقاء.
والنعم المكتسبة تتجلى في أربعة أمور: الحكمة والعفة وعنها يصدر الجود والنجدة وعنها يصدر الصبر والعدالة : وهي ثلاثة أنواع:
عدالة في نفس الإنسان.
وعدالة بين العبد وخالقه
وعدالة بين كل إنسان وبين غيره من المعاملات.
وهذه الأربعة منطوية في العبادة المأمور بها {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}
إشارة: في قوله تعالى {ويعلمهم الكتاب والحكمة}
روي عن الإمام الشافعي أن الحكمة هنا معناها السنة، والذي يظهر لي أن الحكمة هنا هي السنة بالمعنى المقصدي منها وليس الحرفي واللفظي، لأن السنة هي الوسيلة التي نزلت لفهم القرآن وتفصيله، والقرآن حكمة الله إلى خلقه، والسنة التي هي فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره جاءت لبيان تلك الحكمة، لذلك لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أكمل عنصر بشري مثل حكمة الله عزوجل وأظهرها، فالقرآن ميدان حكمة الله ومشكاتها، والمخلوق الوحيد الذي به تظهر حكمة الله عزوجل الشرعية هو الإنسان، لذلك أرسل الله عز وجل رسوله وأنزل معه الكتاب الذي هو مصدر الحكمة وأنزل معه الحكمة التي هي تفعيل ذلك الكتاب في هذا الكون، ولهذا ذكر الله تعالى الحكمة هنا، وسميت السنة بالحكمة.
وتلك النعم الدنيوية تنقسم باعتبار ديمومة نفعها إلى قسمين:
- نافع ضروري في الإيصال إلى الخير المطلق، وهي المكتسبات، فإنها ضرورية فيه، إذ لا يمكن الوصول إلى نعيم الآخرة إلا بها أو ببعضها، ولذلك قال تعالى {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
- نافع غير ضروري، وقد يكون تارة نافعاً في بلوغ المقصود، وتارة ضاراً فيه، نحو المال والجاه والقوة والجمال، ولذلك لا يقال في الملك: إنه نعمة على الإطلاق، لأنه قد يكون نعمة لزيد، ونقمة على عمرو، ولهذا قيل ” ” رب مغبوط بأمر وهو داؤه. ومرحوم بأمر هو شفاؤه ” ولذلك قال بعض الصالحين: (يا من منعه عطاء)
وعماد ذلك كله في إيصالنا إلى المقصود من نعيم الآخرة توفيق الله – عز وجل -، فقد قيل لبعض الحكماء: ما الذي لا يستغنى عنه في كل حال؟ فقال: التوفيق.
والنعم الأخروية : رضا الخالق ومعاشرة الملائكة وبقاء الأبد والغنى عن كل حاجة إلا إليه تعالى.
هذه مشار إليها في قوله تعالى: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}
فالنعمة الحقيقية التي لا غناء عنها، ويقال لها الخير المطلق هي الأخروية.
والله عزوجل خلق المخلوقات على ثلاثة أصناف:
صنف جبله على عبادته وهم ملائكته.
وصنف جبله على إشباع الشهوة وهي البهائم والانعام.
وصنف جمع له بين الأمرين وهو الإنسان.
فمن ارتقى في جانب العبادة وخفف من وطأة الطينية التحق بصنف الملائكة .
ومن انحدر وأخلد وغاص في أوحال الطينية سقط في حظيرة البهائم والانعام.
وللإجابة على السؤال السابق:
قال العلماء: وذلك تنبيها إلى مناسبة بديعية مفادها أن الهداية نعمة .
فلا نعمة ترتقي إلى مصاف نعمة معرفة الله ومعرفة رسوله وطريقه، فهي النعمة المطلقة التي لا ترتبط بزمان أو مكان ومدة صلاحية فهي النعمة الضرورية الصالحة في كل زمان ومكان وحال.
فإذا قضى الانسان دقائق حياته وهو يراوح بين جزئيات العبودية اللازمة والمتعدية فليعلم بأنه قد نال النعمة الحقيقية والمرجوة.
فقوله تعالى (أنعمت عليهم) بمثابة الوسام الرباني والتتويج الإلاهي، فهي النعمة الحقيقية وإن قلل من قدرها في زمن انقلاب المفاهيم وتحجرها وتجلمدها، حتى أصبحت العين لا ترى ولا تعظم ولا تعتبر إلا النعم المادية كالمال والجاه، أما المحافظة على الصلاة أو النزاهة أو الأمانة فليست من النعمة في شيء، وإن سمح لها بالدخول في ميدان النعمة فإنها تدخل على استحياء وتستر، وفي الحقيقة تجد بأن أصحاب تلك الأوصاف ومثيلاتها هم الداخلون بالأولوية في مفهوم النعمة وفي خطاب {الذين أنعمت عليهم} وكأن النعمة انحصرت فيهم، وكأن حقيقة النعمة ظهرت وتمثلت فيهم، وكأن الله تعالى يريد أن يقول لنا بأن باقي النعم غير هذه ما هي إلا مجاز، وأن النعمة الحقيقية هي هذه النعمة، ولترسيخ هذا المعنى أمرنا بتكرار هذه السورة مرات يوميا لنوقن بأن النعمة التي ينبغي أن نحرص عليها وتشرئب أعناقنا لها، ونتهافت إلى حياضها ونهتبل فرصها وعروضها ومواسمها هي نعمة الديانة، والتي ينبغي أن تكون أولى أولوياتنا اليومية، وفي المصاف المتقدمة من أهدافنا وغاياتنا.
والمنعم عليهم بالنعمة الكاملة هم المهتدون إلى الصراط المستقيم. والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة.
ومن باب تفسير القرآن بالقرآن فقد جاء تفسير للذين أنعم الله عليهم في قوله تعالى { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) }[2]. [3]
إذن فالنعمة الكاملة المرجوة والتي هي حقيقة النعم، هي نعمة الهداية والدين والإسلام.
لماذا كانت نعمة الدين أفضل من نعمة المال أو الصحة أو الذكاء؟
الجواب: النعمة لا تطلق إلا على ما كان نفعا، وهذا النفع منه ما هو مضمون ومنه ما هو غير مضمون، ومنه ما هو مؤقت محدود ومنه ما هو أبدي سرمدي.
فإذا جئنا إلى نعم الإنسان المادية الدنيوية فإننا سنجدها بدون استئناء أنها نعم غير مضمونة، ومؤقتة محدودة، وأنها محتملة، وهذا كله بخلاف نعمة الإسلام، ونعمة الدين فهي نعمة مضمونة ليس فيها أي إخلاف بالوعد أو أي تلكئ أو أي احتمال للخسارة، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهي نعمة غير محدودة لأنها تدلك على منافعك في الدنيا وفي الآخرة، لذلك كانت أجل النعم وأفضلها وإن لم نفقهها في كثير من الأحيان، لذلك جاء التذكير بها (صراط الذين أنعمت عليهم)
[1] – الدر المصون (1/76)
[2] – سورة النساء آية 69
[3] – أنظر المراجع الآتية: الدر المصون (1/76) / اللباب (1/224) / تفسير الراغب (1/64) / حاشية الشهاب الخفاجي (1/134) / روح المعاني (1/96) / مفردات القرآن للراغب (ص:815) / عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ لأبي العباس، شهاب الدين، أحمد بن يوسف بن عبد الدائم المعروف بالسمين الحلبي (المتوفى: 756 هـ) (4/198) المحقق: محمد باسل عيون السود دار الكتب العلمية الطبعة: الأولى، 1417 هـ – 1996 م/ التحرير والتنوير (1/191) / التفسير المنير (2/8)]