من تساؤلات القارئ المتدبر لسورة الفاتحة (7)
هوية بريس – سفيان أبو زيد
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ
نعلم بأن هذه الآية قرئت بقراءتين، قال الإمام الشاطبي:
ومالك يوم الدين راويه ناصر** وعند صراط والصراط ل قنبلا.
الإمام الشاطبي له رموز في شاطبيته فقال(راويه) فالراء هنا رمز الكسائي، و(ناصر) النون رمز عاصم، فعاصم والكسائي يقرآن {مالك} وحفص راو عن عاصم، هذا في السبع، وإذا أضفنا الثلاثة المتممة للعشر فنجد بأن يعقوب وخلف العاشر يوافقان عاصم والكسائي.
وباقي القراء يقرأون بدون ألف {ملك}[1]
فيا ترى ما الفرق بين ملك ومالك؟
التساؤل 10 : ما الفرق بين ملك ومالك؟
الجواب:
سيأتي معنا خلال هذه السلسلة التفسيرية تفاضل وتمييز بين القراءات، وليس المقصود من هذا التفاضل والتمييز ترجيح قراءة على أخرى، أو تضعيف قراءة، فكلا القراءتين متواترتان صحيحتان تجوز القراءة بها، إلا أنه نميز ونفاضل بينهما من حيث المعنى، حتى إذا قرأت مالك ينبغي أن يتبادر لي معان، وإذا قرأت ملك ينبغي أن تخطر لي معان أخرى.
ونحن نعلم بأن القرءات يفسر بعضها بعضا ويقوي بعضها بعضا، مثال ذلك في وقوله تعالى في سورة هود عندما أمر الله تعالى نبيه نوح عليه السلام{ احمل فيها من كل زوجين اثنين} ففيها قراءتان {من كل} بالتنوين ومن {من كل} بالإضافة.
فقوله تعالى {من كل زوجين اثنين} التي بالإضافة فيها إشكال في الفهم، كيف يأخذ اثنين من اثنين؟ أي خذ من كل زوجين أي اثنين خذ اثنين، فهذا فيه إشكال، فجاءت القراءة الأخرى لتزيل وتبين هذا الإشكال، وهي قوله تعالى{من كل} أي من الجميع خذ زوجين اثنين.
بالنسبة للفرق بين ملك ومالك، فقراءة الجماعة ترجح من أوجه:
الوجه الأول: أن الملك أعظم من المالك إذ قد يوصف كل أحد بالمالك لماله ، واما الملك فهو السيد، لذلك فكل ملك مالك وليس كل مالك ملك.
قلت: ومن هنا ترسيخ معنى السيادة الذي سبق معنا في (رب العالمين) نجده في (ملك) أمعن من (مالك).
فمن هذه الناحية ملك ترجح على قراءة مالك.
الوجه الثاني: أنه قد أجمع على حروف بهذه الهيئة في القرآن الكريم، فقراءة ملك أجمع عليها في مواطن القرآن التي ذكرت فيها غير هذا الموطن، مثل قوله تعالى{الملك القدوس} وقوله تعالى{الملك الحق} وقوله تعالى {ملك الناس}.
إذن فمما يرجح هذه القراءة أنها مجمع عليها في مواطن أخرى.
الوجه الثالث : هذه القراءة لا تقتضي حذفا والأخرى تقتضيه، لأنه في قوله تعالى{مالك يوم الدين} اختلفوا في المحذوف هل تقدير: مالك أمورهم مالك أنفسهم، مالك أرواحهم، مالك ثوابهم وعقابهم؟ فقراءة مالك تقتضي محذوفا ، ونحن عندنا في اللغة العربية إذا اختلف وجهان نحويان وأحدهما يقتضي حذفا، فيرجح الوجه الذي لا يقتضي ذلك الحذف.
الوجه الرابع: أن الملك أبلغ في المدح والثناء لله عز وجل، لأنه وصف نفسه به قال تعالى{لمن الملك اليوم} فقد امتدح بملك ذلك اليوم وانفراده به يومئذ ، فمدحه سبحانه بما امتدح به نفسه أحق وأولى من غيره، أي أن نمدح الله بما مدح به نفسه أولى من أن نمدحه بغيره.
وهناك أوجه أخرى ترجح بها قراءة مالك:
الوجه الأول : أنها أكثر حروفا، فإذا قرأ الانسان مالك أضيفت له عشر حسنات لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا اقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف والحسنة بعشر أمثالها)[2]
الوجه الثاني: أن المالك هو من حوى الملك وشمله، حتى يصير الملك مملوكا له، كما قال تعالى {قل اللهم مالك الملك}[3]
فصار مالك أبلغ من ملك، ثم إن الأسلوب العربي يرجح هذا المعنى ويرفده، ففي كتاب الفائق للإمام الزمخشري خرج الأعشى واسمه عبد الله بن لبيب الأعور، في رجب يمير أهله من هجر، فهربت امرأته بعده ناشزا عليه فعاذت برجل منهم يقال له: مطرف بن بهضل فجعلها خلف ظهره فلما قدم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فعاذ به وأنشأ يقول:
يا مالك الملك وديان العرب … إليك أشكو ذربة من الذرب
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مه ذلك الله.
فهذه أهم الأوجه التي ذكرت في الترجيح بين القراءتين .
ولكن ! هنا ينبهنا الإمام الطاهر بن عاشور إلى أمر قد غفل عنه كثير من المفسرين، بحيث يخرجنا من هذا الخلاف ، قال رحمه الله: وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة {ملك} بدون ألف وقراءة {مالك} بالألف من خصوصيات بحسب قصر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة مالك]
فالمفسرون لما تكلموا على هذه الفوارق التي ذكرت الآن، هم قصروا أنظارهم على كلا اللفظين، على لفظ ملك ولفظ مالك، ولم يفهموهما في سياقهما، وهذا أمر مهم إذ لابد للناظر في الكتاب، وللناظر في السنة، أن يفهم الألفاظ في سياقها.
ثم قال : وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شؤون ذلك اليوم دون شبهة مشارك.ا ه
قلت: والآن حضرني معنى، بما أن الإضافة إلى يوم الدين، ذلك اليوم الذي قال عنه الله تبارك وتعالى، (لمن الملك اليوم) فكأن حرف ملك يدل على عموم السيادة، وعلى عموم ملك، وكأن لفظ مالك، يدل على تفاصيل ذلك الملك، فالمالك هو الذي يملك الأشياء بتفاصيلها، فالمالكية تدل على تفاصيل الحيازة، وتفاصيل التصرف، فهو مالك لكل أجزاء وتفاصيل ذلك اليوم، وأما صفة (ملك) فهي تدل على السيادة العامةن إذ قد نجد في حياتنا الخاصة، رجل أعمال يملك من العقارات والشركات ومن الأموال، ومن المتاع، بل قد تجده يسكن في مدينة وهو يملكها كاملة، ولكنه ليس ملكا. وقد نجد العكس من ذلك، إذ قد يكون الشخص ملكا على بلاد ولكنه لا يملك كل أجزائها، وقد يستعين بغيره من الولاة والأمراء في صيانة ملكه وتثبيته، ولله المثل الأعلى، فوصف الله تعالى نفسه في هذا الموطن وإضافة الملك إلى يوم الدين، يدل على الملكية المطلقة والمالكية المطلقة، فإنه يعطيك صورة حقيقية يقينية لا لبس فيها أن ذلك اليوم لا يملك فيه أحد شيئا، صغر أم كبر، وأن السيد والمتصرف ورب ذلك اليوم هو الله عزوجل، وبهذا تنسجم قراءة ملك بقراءة مالك فتعطي كل قراءة على حدة معنى حقيقيا وصورة معاينة لحقيقة ملك الله تعالى لذلك اليوم.
فقراءة ملك تعطيك المعنى العام للسيادة.
وقراءة مالك تعطيك المعنى المفصل لدقائق الأمور التي هي ملك لله تعالى في ذلك اليوم.
فهل من مالك غدا يوم القيامة؟ ليس هناك مالك.
هل من ملك غدا يوم القيامة؟ ليس هناك ملك.
فلا مالك ولا ملك إلا الله لذلك فالنتيجة التي توصلنا لها سابقا في الوجه الأول [كل ملك مالك ولا عكس] تبطل هنا، إذ المالك هنا هو الملك والملك هو المالك وهو الله سبحانه وتعالى.[4]
[1] – إبراز المعاني من حرز الأماني لأبي القاسم شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي المعروف بأبي شامة (المتوفى: 665هـ) (34) دار الكتب العلمية.
[2] – سنن الترمذي (5/175/ 2910) عن عبد الله بن مسعود
[3] – سورة آل عمران :26
[4] – أنظر مراجع الجواب : [مراح لبيد لكشف معنى القرآن مجيد (1/507)لمحمد بن عمر نووي الجاوي البنتني إقليما ، التناري بلدا دار الكتب العلمية بيروت سنة الطبع : 1417 هـ/ فتح القدير لمحمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني (المتوفى: 1250هـ) (3/570) دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت الطبعة: الأولى – 1414 هـ / الشامل في القراءات العشر لعبد القادر محمد منصور (17) – (266) دار الرفاعي/ التحرير والتنوير (1/175)]