حل بساحتنا ضيف كريم، وأظلنا شهر عظيم، شهر رمضان المبارك، الذي تتوق له نفوس المؤمنين الصالحين، وتهفو إليه أفئدة المسلمين الصادقين، وتتشوف إليه عيون العابدين المخبتين. شهر كان سلفنا يدعون الله -تعالى- ستة أشهر أن يبلغهم إياهم، فإذا صاموه دعوا الله -تعالى- ستة أشهر أن يتقبله منهم، حتى صار من دعاء أحدهم (يحيى بن أبي كثير): “اللهم سلمنا إلى رمضان، وسلم لنا رمضان، وتسلمه منا متقبلا”. شهر كان لهم بمثابة محطة جليلة لاصطحاب الأعمال الصالحات، والعب من فعل الخيرات، والتسابق إلى الأعمال المرضيات. شهر الجد والعمل، لا شهر اللهو والعَطَل، شهر التشمير والإعداد، شهر التزود والإمداد. قال الحسن البصري – رحمه الله ـ: “إن الله جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا. فالعجب من اللاعب الضاحك، في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون”.
شهر ليس عادةً من عادات الديانة، أو تقليدا من تقاليد الأجداد المتعاقبة، بل شهر التميز بسربال السكينة، والتحلي بحلل الأخلاق الرصينة. قال جابر بن عبدالله -رضي الله عنه-: “وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء”.
شهر التهنئة والبشارات، شهر الفرح والمسرات، لا بلذيذ الطعام، وألوان الشراب، ولكن بما أعده الله للمؤمنين من جزيل العطاء، وعظيم الثواب. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أَتَاكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ. لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ” صحيح سنن النسائي.
أوليس بلوغك رمضان -إذن- نعمة تستحق منك شكر المنعم – سبحانه – أن أطال عمرك حتى بلغتها؟ قال ابن رجب: “كيف لا يُبشَّر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشر العاقل بوقت يُغَل فيه الشيطان، من أين يشبه هذا الزمانَ زمان؟”.
قال ابن رجب: [بلوغ شهر رمضان وصيامُه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدل عليه حديث الثلاثة الذين استُشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرؤي في النوم سابقا لهما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “أليس صلى بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه. فوالذي نفسي بيده، إن بينهما لأبعدَ مما بين السماء والأرض”] صحيح سنن ابن ماجة.
كم كنت تعرف ممن صام في سَلَفٍ *** من بين أهل وجيران وإخــوانِ
أفناهمُ الموت واستبقاك بعدهـــم *** حَيًّا فما أقرب القاصي من الداني
كيف لا وهو شهر خص الله كل ليلة من لياليه بعتقاء من النار، ينجيهم من عذاب النار، وأهوال القيامة، ولكن بالاستجابة للداعي: “يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ” صحيح سنن ابن ماجة. كان عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – إذا انقضى رمضان يقول: “مَن هذا المقبول منا فنهنيه؟ ومن المحروم منا فنعزيه؟”.
فلا يجتمع صيام وإسراف في الملذات، ولا يجتمع صيام ومخاصمات ومهاترات، ولا يجتمع صيام وضياع للأوقات، ولا يجتمع صيام وإرسال للبصر في تتبع العورات، أو إنصات إلى المحرمات، أو إطلاق اللسان في تناول الأعراض وفضح العيوب المستورات. إنه الصوم عن الموبقات، والكف عن اجتراح المعاصي والسيئات.
يقول جابر -رضي الله عنه-:”إذا صمت، فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمأثم”.
وقال أبو المتوكل: “كان أبو هريرة -رضي الله عنه- وأصحابه إذا صاموا جلسوا في المسجد حتى يحفظوا سمعهم، وبصرهم، وجوارحهم عن كل ما حرم الله”.
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: “ينبغي للصائم أن يتعاهد صومه من لسانه، لا يماري… كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد، وقالوا: نحفظ صومنا، ولا نغتاب الناس”.
وقال أبو ذر -رضي الله عنه-: “إذا صمتَ، فتحفظ ما استطعت”.
فلماذا نجد بعض الناس جعلوا ترك الطعام والشراب غاية نهار الصيام، فإذا جن عليهم الليل انقلبوا إلى حياة اللهو والملذات، حياة السهر على برامج التلفاز الذي خصص للاستمتاع بفوازير رمضان، وفكاهة رمضان، ومسلسلات رمضان؟ ولقد أخطأوا أيما خطإ، وأفلتوا فرصة التوبة والأوبة، وضيعوا زمنا هو من أعظم الأزمنة. قال بعض الصالحين: “أهون الصيام: ترك الشراب والطعام”. فهذا أمر مقدور عليه، ولكن، هل عَلَّمنا رمضان ضبط إيقاعات النفس، بحيث نتمكن من لجمها عن الموبقات، وحجبها عن المحرمات، وحجزها عن المثيرات المستفزات؟. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابَّك أحد أو جهل عليك، فقل: إني صائم، إني صائم” ص. الترغيب.
فعلام -إذن- يرتفع -في رمضان- في بعض البلاد الإسلامية؛ عدد قضايا الاعتداءات، والضرب، والجرح العمدي، الناتجة عن المشاجرات؟ ويرتفع عدد قضايا المخدرات، والسرقة، والاعتداءات بواسطة الأسلحة البيضاء، والسطو على المنازل؟ حتى إن بعض المحامين اضطروا لفتح مكاتبهم ليلا، بحكم ارتفاع نسبة الجرائم. ولماذا -في بلد آخر- يرتفع عدد قضايا معاكسة الرجال للفتيات في ليالي رمضان، بسبب الاحتكاك في الأسواق، والتزاحم في الشوارع الكبرى؟ ولماذا -في بلد آخر- تتضاعف النفقة في رمضان ثلاثة أضعاف عن غيره من الشهور، مما يؤدي إلى نزاعات زوجية حول توفير مصروفات رمضان، ينتج عنها كثرة التوارد على المحاكم لإنهاء العلاقة الزوجية؟
فهل مدرسة رمضان تعلمنا الاجتماع، أم تدفعنا إلى الافتراق؟ هل مدرسة رمضان تعلمنا الاقتصاد وترشيد النفقات، أم تشجعنا على الإسراف والمغالاة في المشتريات، ما نحتاجه، وما لا نحتاجه، حتى صار عمال النظافة -في بعض البلاد الأخرى- يشتكون من زيادة 4000 طن من النفايات في رمضان، استوجبت استنفار المسؤولين لإحداث فرق التدخل السريع لتنظيف الشوارع والأزقة؟ وكأن البطنة غاية رمضان.
خطب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يوماً فقال: “إياكم والبطنةَ في الطعام والشراب، فإنها مُفسدة للجسد، مُوَرثة للسقم، مُكسلة عن الصلاة. وعليكم بالقصد فيهما، فإنه أصلح للجسد، وأبعد عن السرَف. وإنَّ امرَءاً لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه”.
وقال سلمة بن سعيد: “إنْ كان الرجلُ لَيُعيَّر بالبِطنة، كما يُعير بالذنب يَعمَلُهُ”.
جزاكم الله خيرا أستاذنا، كلمات نافذة وجميلة، لكن الحديث الذي أوردتموه إنما لفظه أنهما اثنين استشهد أحدهما وبقي الآخر، هكذا تحدثت الروايات في صحيح ابن حبان وغيره. والله تعالى أعلم
جزاكم الله خيرا أستاذنا، كلمات نافذة وجميلة، لكن الحديث الذي أوردتموه إنما لفظه أنهما اثنين استشهد أحدهما وبقي الآخر، هكذا تحدثت الروايات في صحيح ابن حبان وغيره. والله تعالى أعلم