من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض بالمغرب أو أيام كولميما
هوية بريس – ذ.إدريس كرم
يعتبر كتاب “من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض في المغرب أو أيام كولميما” للعلامة المجاهد محمد إبراهيم الكتاني، الفائز بجائزة المغرب سنة 1972، من كتب أدبيات السجون، ويمتاز الكتاب بأنه ينفرد بتدوين أيام سجن الفقهاء والطلبة بعد المظاهرات المطالبة بحرية تنظيم الأحزاب سنة 1937 التي ردت عليها سلطات الحماية بقمع شديد لمن كان يسمى بالمهيجين الكبار، والتي أدت لاستشهاد الفقيه الشاعر محمد القري.
وننشر فصلا من هذا الكتاب للتذكير بالحدث ورجالاته ومعاملات المحتل وحقارته.
يقول صاحب الكتاب في تقديمه:
الكتاب “محاولة لوصف القمع الوحشي الفظيع الذي لقيته طائفة من المكافحين الوطنيين الفاسيين على يد جيش الاحتلال الفرنسي في مركز كولميما بالجنوب المغربي.
فمن لم يحيى بعد الموت يوما***فإنا بعد ما متنا حيينا
الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي”.
وفي الإهداء، كتب رحمه الله:
“إلى جميع المكافحين في سبيل دينهم ووطنهم وأمتهم الذين أنعم الله عليهم بالابتلاء الشديد بالسجن والتعذيب والضرب والجوع والحرمان والإهانات والسباب وفراق الأهل والأولاد والكتب والصحف والحرية، وإلى زوجاتهم وأولادهم الذين قاسموهم هذا الابتلاء الشديد، أهدي هذه الذكريات”.
جاء في الكتاب ص:13:
“لماذا السجن؟
إذا كانت الظروف التي وقعت فيها كتابة هذه (الذكريات) لا تدعو للحديث عن أسباب سجننا وعوامل حقد المستعمر علينا، لأن هذه الأسباب والعوامل كانت من الواقع المعاش يوميا، وكان المقصود هو فقط تسجيل الحوادث التي لم يعشها إلا أفراد معدودون، ولم تتهيأ الظروف لسماع بعض أخبارها من أفواه هؤلاء الذين عاشوها إلا لقليل من الناس.
لقد نجح المستعمرون في الحصول على وثيقة (معاهدة الحماية) التي تمكنهم من تحقيق أهدافهم التي عملوا لها القرون العديدة، وهي إذلال الشعب المغربي واستعباده والقضاء على كيانه ومسخ شخصيته ومحو مقوماته التي هي دينه الإسلامي، عقيدة وشريعة وأخلاقا وثقافة ولغة وحضارة ودولة ورسالة في الحياة.
كما نجحوا في أن يُكوِّنوا جهازا للعمل لتحقيق هذه الأهداف يتكون من الوزراء والكتاب والتراجمة والباشوات والقواد والقضاة والخلفاء والشيوخ والمقدمين والعساكر والشرطة والدرك والجواسيس، وبعض الأعيان والوجهاء، وبعض رؤساء الزوايا ونحوهم، ممن قبل الانسلاخ عن أمتهم والتنكر لشعبهم والتعاون مع العدو المحتل مقابل تحقيق بعض أغراضهم المادية ومصالحهم الشخصية.
ولكن الشعب المغربي النبيل، وقد بث فيه الإسلام روح الشعور بالكرامة والأنفة والعزة والإباء، بقي ينظر إلى أولائك الذين خسروا أنفسهم بتعاونهم مع العدو نظرة شزراء ويعدهم في قرارة نفسه أعداؤه هم أيضا لأن صديق العدو عدو هو أيضا.
ولأن الشعب المغربي لا يقهر ولا يغلب، فقد قامت جماعة من شباب المغرب بتأسيس تشكيلات سرية تنظم التجمعات الاحتجاجية وتقود المظاهرات المنددة بالسياسة الاستعمارية، وتصيغ المطالب والعرائض وتدفع بها للمنظمات الدولية والجماهير المغربية لتعبأتها للمقاومة السياسية، فكانت حوادث اللطيف احتجاجا على السياسة البربرية الهادفة لتمزيق المغرب ونشر العنصرية بين صفوفه سنة 1930، وحوادث محاربة التدخين بفاس والخمر بسلا سنة 1934، وحوادث المطالبة بالصحافة سنة 1936، في كل من الدار البيضاء والرباط وسلا وفاس ووجدة، وحوادث المطالبة بحرية تأسيس الأحزاب السياسية سنة 1937 في كل من فاس ومكناس والقنيطرة ووجدة وسلا والرباط ومراكش، وهي التي تلتها أيام كولميما التي تتحدث عنها هذه المذكرات.
استهل رمضان 1356/الموافق يوم الجمعة 5/11/1937، ونحن مسجونون في (الحي الأوربي) بالسجن المدني (عين قدوس) بفاس بعد مضي أسبوع على إلقاء القبض علي، وبعد مضي يوم على الحكم علينا (صوريا) داخل السجن العسكري (بستيون ظهر الخميس) الواقع شمال مدينة فاس (برج النور) والذي لم يستغرق بالنسبة لكل واحد منا إلا لحظة قصيرة، فقد قال لي الباشا التازي: لقد ثبت عند المخزن أنك وطني قديم، ومشوش كبير، ولذلك حكم عليك بسنتين سجنا.
وحوالي الزوال مرت بالقرب من السجن فرقة موسيقية عسكرية واستمرت تصدح بأنغامها الحربية احتفالا بإلقاء القبض علينا وخفت المقاومة الشعبية داخل المدينة بعد سجننا.
في السجن العسكري وجدنا إخواننا أهل القنيطرة قد سبقونا إليه وكانوا أربعة وسبعين، أذكر من بينهم صديقي رفيق الكفاح والطالب العلامة السلفي الداعية بوشتى الجامعي، والشهيد محمد الديوري، والفقيه برادة، ومحمد بن احمد، واحمد بن دلة، ومحمد بن الجيلالي بناني، وعبد القادر برادة، وكان من بينهم بعض المجروحين برصاص الشرطة أثناء مظاهرات القنيطرة.
فجلسنا جميعا على الأرض بدون حائل، وفي المغرب أفطروا معنا إذ لم يكن مع أحد منهم شيء يؤكل كما أن إدارة السجن لم تعطنا أكلا.
مغادرة فاس
بمجرد آذان الفجر يوم الأحد ثالث رمضان، صلينا ولم نكد نفرغ من أداء الصلاة حتى أخرجنا، وتولى جنود سنغاليون إعطاءنا خبزتين لكل واحد، وكانوا يلكمون ويرفسون، ولقد ضربوا رجلا أشيب يفوق سنه السبعين حتى سقط في درج مدخل السجن فتبعوه يقذفون به من درجة إلى أخرى.
وعندما خرجنا من السجن العسكري وجدنا في انتظارنا قافلة من الشاحنات العسكرية، وكانت كل شاحنة تحمل في داخلها ستة جنود مسلحين، ويركب مع السائق جنديان آخران مسلحان، وكانوا يستقبلوننا بسيل من الشتائم واللكمات والإهانات المختلفة.
وعندما ركبنا جميعا انطلقت القافلة المركبة من 17 شاحنة بين سيارتين صغيرتين، واحدة في المقدمة يمتطيها ضابط برتبة قبطان، والأخرى في المؤخرة، كما كانت تخفر القافلة عدة درجات نارية بما قدرناه بحوالي مائة شخص.
ولم تكد تتحرك السيارات حتى شاهدنا عن بعد عددا من الناس يحيوننا بهتافات وإشارات رغما عن انهمار الأمطار الغزيرة وشدة البرد، ووقوع المعتقل خارج المدينة، وحرص الإدارة على عدم تسرب أي خبر عنا، والتبكير برحيلنا، وقسوة الجنود في إقصاء الناس عنا، فحياه الله من شعب نبيل.
يتبع..