من رسائل العلماء في تدبير الحياة العامة للمسلمين: رسالة محمد العربي بُرْدُلَّة إلى المولى إسماعيل
هوية بريس – نبيل صبحي
ترجمة موجزة للعالم: هو أبو عبد الله محمد العربي بن أحمد بُرْدُلَّة، الأندلسي ثم الفاسي مولدا ووفاة. ولي قضاء فاس والفتوى بها مرارا، وعُزل عن كل ذلك، ثم وُلي النظر في أحباس فاس.
أخذ عن عبد القادر الفاسي، وأبي العباس المزوار وأضرابهما. وكان له معرفة بالعربية والفقه والنوازل، وكان شيخ الجماعة بفاس، وله صيت عند أهل وقته، وكان موصوفا بالنزاهة والعدل في الأحكام. أكثر من مخاطبة السلطان كتابة. أغلب ما تركه من علم ما زال مخطوطا. توفي سنة 1133ه .(1)
سياق الرسالة: قيام السلطان العلوي المولى إسماعيل بتشكيل ما سمي بجيش البخاري(جيش نظامي لا يمت لأي قبيلة بصلة)، وكان هذا الجيش مكونا “من عناصر بقية أحفاد العبيد المسجلين في دفتر جيش أحمد المنصور السعدي، الذي كان بيد أحد أحفاد قادة جيش السلطان السعدي، وكان ذلك الكناش يضم أسماء العبيد من الذكور والإناث؛ فجمع في سنة واحدة منهم حوالي ثلاثة آلاف رأسا؛ منهم المتزوج والأعزب. كما عمد السلطان إلى اعتماد سياسة الشراء والإكراه بأمر القواد في الأقاليم بجمع العبيد بشراء المملوكين وجمع الأحرار بدون مقابل في مناطق الغرب والريف ودكالة، وغيرها من مناطق المغرب، كما أضيف إليهم الحراطين المجلوبين من النواحي؛ وينحدرون من العبيد، بعد تقصي أخبارهم والبحث عن جذورهم” . (2)
المضامين العامة للرسالة(3) : نظرا لطولها نكتفي باستعراض أهم مضامينها، مع بعض النصوص الدالة منها؛ وإن كان هذا لا يغني عن الرجوع إلى الرسالة كاملة بالمرجع المحال عليه لأهميتها الكبيرة؛ إذ تعتبر – فضلا عن مضامينها الثّرّة والعالية خاصة المتعلقة بقيمة الحرية في الإسلام والعِبر التاريخية المستأنَفة – درسا في البناء المنهجي والحجاجي، وترتيب المقدمات وتسلسل المعطيات وطريقة صياغة الاستدلال العلمي، ودقة الوفاء بالمعاني.
بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثناء على السلطان؛ أورد الشيخ أحاديث حول النصيحة؛ ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة…) الحديث بتمامه، وبيَّن معنى النصيحة لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين :”والنصيحة لأئمة المسلمين؛ معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليه، وتآلف القلوب لطاعتهم، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات لهم، وأن لا يطروا بالثناء الكاذب، وأن يدعوا بالصلاح”.
ثم أوضح رحمة الله عليه أن نصوص الكتاب والسنة قد أفصحت بوجوب بيان الأحكام، وبالوعيد على كتمها على الأنام {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ}[آل عمران: 187]، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة: 159]،(من سئل عن علمه فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة)، ثم يقول: ” ولو هذا في كتم الأحكام والإغماض عن بيانها؛ أما ليُّها وتبديلها بنحو الاستحلالِ مُحَرَّمٌ؛ ولو صغيرة عُلِم من دين الإسلام تحريمه بالضرورة؛ كنكاح ذوات المحارم، أو الزنا، أو الشرب، أو أكل الميتة أو لحم الخنزير من غير ضرورة؛ فهو إلحاد وكفر وشهير جلي، ما هو من شيم مولانا أدام الله تأييده، وأولى النصرَ والفتحَ جنودَهُ”.
وبعد بيان أهمية التثبت في مسألة الإبضاع والاحتياط فيها؛ يقول: “وكيف لا وحفظ الأنساب من أحد الكليات الخمس التي تواطأت عليها جميع الأنبياء والرسل وأطبقت، ولم تُستبح في شريعة من شرائع الأمم”. ثم تحدث عن جمع الحراطين، وما يقوم به السلطان من تكثير الجيش بغاية حفظ بيضة الإسلام والمسلمين، وان هذا الأمر محمود؛ لكن هذا التكثير متوقف على استرقاق؛ فلذلك ” تعَيَّن على من له ملابسة بالعِلم إنهاء هذا الخَطْب النازل الوقتي؛ الذي هو المجاهدة باستعباد الأحرار واسترقاقهم بدون وجه شرعي، وتقرير هيئته الواقعة، وكشف الوجه الذي يُنتحل عليه، وما يُرتكب في ذلك من المحظورات الموبقات وبيان حكمه؛ إذ مثل هذا مما لا يسع التغافل عنه، والتساهل في أمره.
كيف وهو مما توعد عليه من الغش وكتم الأحكام”. ويقول: “إن هذا الإرقاق من الظاهر الشهير الذي ستره به. إن المطالبين به إلا في مدينة فاس هم أناس أحرار كغيرهم من سائر أحرار المسلمين؛ حريتهم معلومة لا اشتباه فيها بوجه، وكل ما يقع فيهم من الإقرار بأنهم أرقاء لمعين أو لغير معين، أو يقع من غيرهم من الشهادة عليهم برِقِّية على أي وجه كانت؛ فإن ذلك كله عن ضغط وإكراه مشاهَد معايَن بحيث لا ارتياب فيه، ولا يختلج في ذهن افتقاره إلى إثبات كيف.
وكيف الإعلان بالتصريح للجم الغفير والملأ الكثير من أهل العلم وغيرهم مشافهة من المنتصِب لهذا الأمر، والمعيَّن له بأنّ هذا الاسترقاق إن لم يقع الانقياد له والإذعان؛ انتُقِم من الكافة، ونُكِّل بهم، وعوقبوا العقاب الشديد؛ بأن يُنزل بهم ما لا يُستطاع من الأمور الفظيعة؛ مِن قتل النفوس، وهتك الحريم، وإلزام ما لا يطاق من قناطير الأموال؛ وحيث كان كذلك؛ فكيف يُعوَّل على هذا الإقرار، وهذه الشهادة؟”. وقد أورد نصوص العلماء(مالك وابن عرفة وابن الحاجب) حول بطلان طلاق المكره أو نكاحه أو عتقه.
ثم يضيف: “بل هؤلاء المطالَبون بالاسترقاق الآن؛ حيث كانت حريتهم معلومة بإقرارهم بالرق؛ ولو كان عن طوع وجواز مع انتفاء ما ذُكر من التهمة؛ فهو لغو؛ لا يُسلمون شرعا للرِّقِّية بهذا القرار، ولا ندَعهم وإياها، ولا يُلزَمون به؛ لأن حريتهم حق من حقوق الله تعالى؛ فليس لهم إرقاق أنفسهم. قال ابن سحنون: “وأجمعنا في امرأة معروفة الأصل بالحرية وأبواها حران إن إقرارها بالرق باطل”، قال محمد بن الحكم وإن كان واحدا؛ فمن أقر بالرق، معروف الأصل بالحرية لم يحرز إقراره، وليس للحر إرقاق نفسه، والبينة في هذا أولى من الإقرار. فأنَّى يسع أحدا العدول عما تقتضيه هذه القواعد، أم كيف تُتنكب هده النصوص الصريحة وتُبارَز وتُصادَم؟”.
يختم رسالته – رحمة الله عليه – ببيان الفظائع التي اشتمل عليها هذا العمل؛ بقوله: “وقد جمعت هذه الوصمة الشنعاء مفاسد معضلات، وتألفت صورتها البشعة من فظائع موبقات” نوجزها فيما يلي:
– شهادة الزور، والحمل عليها، وأنها تعدل الإشراك بالله تعالى، ويسوق حديثين نبويين؛
– الإكراه على الإقرار بالرق، والاستعبادُ به، وأن فاعل هذا هو أحد الثلاثة الذين لا يقبل الله تعالى منهم صلاة، وأنه في موقع الخصم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الأحاديث الدالة على هذا؛
– الإكراه على الحُكم والفتوى بصريح ما هو غير حق من الضلال والباطل؛
– أنها تفضي إلى إبطال كل عتق وتحرير تَقدم، وأنها تفضي إلى سد باب العتق وتَقَرُّب الناس به؛ يقول: “ومعلوم تشوف الشارع للعتق، وحظه عليه، والوعد عليه بجزيل الثواب. فلينظر ما أفضت إليه هذه البدعة التي لم تقع في غير هذا القطر المغربي من سائر الأقطار، ولم يُبتلَ بها أهل عصر مما سلف من الأعصار. أيسَع نفسا زكية أن تنهض لحسمها، وسد الطرق دونها؛ فيبتهل إلى الله تعالى سبحانه في أن يدلي أمير المؤمنين كشف بلواها، ورفع شكواها؛ فقد ضاقت نفوس العامة والخاصة بها درعا، وما استطاعوا لها نظرا ولا سمعا؛ لجمعها بين المصيبة في الدين والدنيا؛ فلمثلها يود المؤمن أن لا يكون موجودا في الأحياء، أَرَفْض للشريعة ونبْذ لما وراء الظهر، ونسبة صورة شنيعة لها تبقى سُبّة أمد الدهر، معاذ الله أن يقع هذا وأمير المؤمنين موجود، والعلماء والعلم والحمد لله حراس على دين قعود”. ثم ختم رسالته بالدعاء بالعصمة من الزلل، والتوفيق لصالح القول والعمل، وأن هذا بعض الواجب من النصيحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ينظر : نشر المثاني لأهل القرن الحادي عشر والثاني: محمد بن الطيب القادري، دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر، الرباط، طبعة1397ه_1977م، 3/247. والفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، 4/118.
(2)رسالة القاضي العلامة العربي بردلة إلى السلطان المولى إسماعيل العلوي في قضية الحرَاطين: خالد الصقلي، مجلة ليكسوس، العدد 21، فبراير 2018م.
عن موقف الشرع من الاسترقاق لأهل إفريقيا الغربية(السودان)، والذي بدأ في عهد الدولة السعدية؛ يقول أحمد بن خالد بن محمد الناصري (ت1315هـ) في سياق سرده لأخبار الدولة السعدية: “قد تبين لَك بِمَا قصصناه عَلَيْك من أَخْبَار السودَان(سكان إفريقيا الغربية) مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل تِلْكَ الْبِلَاد من الْأَخْذ بدين الْإِسْلَام من لدن قديم وَأَنَّهُمْ من أحسن الْأُمَم إسلاما وأقومهم دينا وَأَكْثَرهم للْعلم وَأَهله تحصيلا ومحبة وَهَذَا الْأَمر شَائِع فِي جلّ ممالكهم الموالية للمغرب كَمَا علمت وَبِهَذَا يظْهر لَك شناعة مَا عَمت بِهِ الْبلوى بِبِلَاد الْمغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودَان مُطلقًا وجلب القطائع الْكَثِيرَة مِنْهُم فِي كل سنة وبيعهم فِي أسواق الْمغرب حَاضِرَة وبادية يسمسرون بهَا كَمَا تسمسر الدَّوَابّ بل أفحش قد تمالأ النَّاس على ذَلِك وتوالت عَلَيْهِ أجيالهم حَتَّى صَار كثير من الْعَامَّة يفهمون أَن مُوجب الاسترقاق شرعا هُوَ اسوداد اللَّوْن وَكَونه مجلوبا من تِلْكَ النَّاحِيَة وَهَذَا لعمر الله من أفحش المناكر وَأَعْظَمهَا فِي الدّين إِذْ أهل السودَان قوم مُسلمُونَ فَلهم مَا لنا وَعَلَيْهِم مَا علينا وَلَو فَرضنَا أَن فيهم من هُوَ مُشْرك أَو متدين بدين آخر غير الْإِسْلَام فالغالب عَلَيْهِم الْيَوْم وَقبل الْيَوْم بِكَثِير إِنَّمَا هُوَ الْإِسْلَام وَالْحكم للْغَالِب”.الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري/ محمد الناصري، دار الكتاب – الدار البيضاء،
(3)ينظر الرسالة بتمامها المرجع السابق(مجلة ليكسوس).