من طنجة إلى غزة
هوية بريس – حميد بن خيبش
يحكى أن الشيخ محمد بن الصديق الغماري ألقى خطبة الجمعة بالزاوية الناصرية، محذرا الطنجيين من إلحاق أبنائهم بمدارس النصارى (مدرسة الساقية الجديدة آنذاك). وكانت خطبه تثير غيظ الأجانب وفي مقدمتهم السفير الفرنسي.
تأثر الناس بالخطبة، وسارع جل من ألحق أبناءه بالمدرسة إلى إخراجه منها، فاحتد غضب السفير، وأرسل إلى الباشا أمرا بعزل الشيخ من الخطابة، وهدده بما لا تحمد عقباه إن تلكأ في التنفيذ.
أرسل الباشا بعض أعوانه إلى الشيخ يستدعيه ليكلمه، إلا أن الخبر شاع بين أهل طنجة، فاجتمعوا وتوجهوا إلى الباشا، والشيخ معهم. وأمام المحكمة شرع الجميع في قراءة سورة الفتح بصوت واحد ارتجت له الساحة، فانتظر الباشا إلى أن ختموا السورة وقال: ما مرادكم؟ فرد الجميع: أن يبقى الشيخ على حاله ولا يعزل من الخطابة، وألا تتدخل فرنسا في شأن ديننا، فأجابهم بالموافقة.
وفي الحادي عشر من أبريل سنة 1947، ألقى المغفور له جلالة الملك محمد الخامس خطبة الجمعة بالمسجد الأعظم بطنجة. ومما جاء فيها:” إن رابطة دين الإسلام جعلها الله لحمة واصلة، وعلاقة دينية عاملة، تجعل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يشعرون شعورا واحدا، ويعملون عملا متحدا، ولا يلذ لهم رقاد إلا إذا سعد كل الأفراد، واطمأنت كل البلاد..”.
ما أشبه الليلة بالبارحة حين يقرر الطنجيون تأكيد الرابطة الإسلامية، بل والإنسانية في بُعدها الكوني، فيخرجون عن بكرة أبيهم للتظاهر والاحتجاج نصرة لفلسطين ومقدساتها، وإسنادا لأهلها الذين يتعرضون منذ أكتوبر المنصرم لإبادة شاملة. وفي غضبة أبدع الطنجيون أشكالها وصورها، تحولت المسيرات التضامنية إلى طقس يومي يشرق من البوغاز، ليؤكد أن القضية حية في قلوبنا، وأن كل خطط التذويب والمحو والإسكات لم تبلغ مرادها.
غير أن قلما شاردا في أحد المواقع الإلكترونية، هزته جمالية الصورة على نحو عكسي، فهاج وماج متحسرا على صورة طنجة كما رسمها محمد شكري في خبزه الحافي، أو وليام بوروز- قاتل زوجته- في غذائه العاري. صورة يتوهم كاتب الرأي أنها انفتاح على الحداثة، لمجرد أنها حشدت كل القذارة تحت مسمى التفلت من القيود الاجتماعية!
إنه في الحقيقة منعطف بائس وموجع أن تدفعك الذاكرة المنخورة، والانسحاب المتزلف من القضايا الإنسانية العادلة، إلى التذكير بحقائق التاريخ الناصعة، والأمجاد التي سطرها أبناء هذا البلد الكريم. كيف يقف المرء على تلة من حكايات الجهاد والنضال، والتصدي للأطماع الأجنبية، كي يحذر من التضامن “الهستيري”، وتحول المدينة إلى “إمارة إسلامية”؟
ينبه الأديب المصري طه حسين إلى ضرورة التمييز بين الحديث وتجشؤ الكلمات. كذلك هي الكتابة حين تسرد انطباعات ساذجة، لا يكلف المرء نفسه عناء التحقق من قابليتها للفهم الإنساني. وإذ لم يكن هناك لوم على صاحب الرأي الذي ينفث ما في صدره، فإن اللوم يقع على منبر إعلامي فاقد للبوصلة، وغير عابئ بقواعد المهنية والمصداقية.
ويبقى الحافز على تدبيج هذه المقالة الخفيفة، هو نبرة التخويف والتخوين، ومصادرة حرية الآخر، لمجرد الاختلاف مع منطلقاته ومواقفه وقراراته. نبرة تنحرف بالنقاش عن مساره، وتجعل على الحرية والرأي الشخصي حفنة من الأوصياء الجدد.
من الدلالات المحتملة لاسم “طنجة” هو الكلمة الأمازيغية ” تاضّنكة”، ومعناها الموجة الكبيرة العالية، إما لوقوعها على مضيق بحري شديد الهيجان، أو لكون موقعها يكاد يشبه موجة من هذا البحر المتلاطم. لذا فطنجة العالية تعودت، ولا تزال، على أن تفتح نوافذها مشرعة للعالم بأسره، دون أن تسمح لتيار الهواء الفاسد بأن يخلط أوراقها.