من فضائل علم الحديث وأهله

25 أغسطس 2024 18:19
بيان تلبيس متهم الصحابة بالتدليس

هوية بريس – إسماعيل المرغادي

حمدا لمن نزل أحسن الحديث ….. ثم صلاته تَسُحُّ لا تَرِيث

على الرسول المصطفى وآله ….. وصحبه وناقلي أقواله[1]

وبعد، فإن للعلوم الشرعية فضائل عديدة يجمعها أن سعادة العبد في الدنيا والآخرة منوطة بها متوقفة عليها. وعلم الشريعة قد يغني المسلم عن غيره من العلوم، لكن لا يغني شيء منها عنه. ويكفي في معرفة فضل هذا العلم مطالعة ما كتبه الإمام أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم المتوفى سنة 751، رحمه الله، في كتابه “مفتاح دار السعادة”.

وإن من أجَلِّ علوم الشريعة وأشرفِها علم الحديث، فإنه يشترك معها في تلك الفضائل، ثم هو يتميز بفضائل يختص بها. وأيضا فإن لأهل الحديث بين الناس فضائل رفيعة جمة، وأفضالا سابغة على سائر الأمة. وذلك ما أحببنا الإشارة إلى بعضه والتذكير به في هذه الكلمات.

إحدى هذه الفضائل: أن علم الحديث متعلق بكلام خير الخلق وأحبهم إلى الله تعالى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى فيه: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى). ومن المعلوم أن العلم يشرف بشرف ما يتعلق به. فالاشتغال بعلم الحديث سبب لصحبة أنفاس النبي صلى الله عليه وسلم الزكية والعيش مع سيرته العطرة النقية، وقد أحسن القائل:

أهلُ الحديثِ هم أهل النبيِّ وإن … لم يصحبوا نفْسَه أنْفاسَه صحبوا

ثانيتها: نضارة أهل الحديث وجمال طلعتهم ومهابتهم في نفوس الخلق ومحبة الناس لهم، وذلك لما ينالهم من دعاء النبي صلى الله عليهم وسلم بقوله: “نضر الله امرأ سمع منا حديثا، فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”[2].

ثالثتها: أن أهل الحديث المعتنين بالحديث علما وعملا ودعوة هم الطائفة الناجية والموعودة بالنصر، المشهود لها بموافقتها للحق من بين طوائف الخلق؛ فهم أول الداخلين في قوله عليه الصلاة والسلام: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله”[3]. وفي قوله عليه الصلاة والسلام: “ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة”[4].

قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني المتوفى سنة 241، رحمه الله: “إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم”.

رابعتها: أهل الحديث هم أكثر الناس نصرة لدين الله تعالى، وسِيَرُهم أكبر شاهد على ذلك، وانظر إلى طول رحلاتهم وكيف كانوا يكابدون الأهوال  ويلقون بأنفسهم إلى الأخطار والمهالك، ويهجرون النوم والملذات لتصفية سنة النبي صلى الله عليه وسلم وصيانتها من أن يدخل فيها ما ليس منها، وتضحيتهم في ذلك بالغالي والنفيس. بل إن كثيرا منهم شغله ذلك عما أباحه الله تعالى من المتع كالزواج والأولاد والتجارات، فتركوها نصرة لدين الله تعالى وابتغاء وجهه وحفظا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. فاقرأ في سير يحيى بن معين ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبي حاتم الرازي وعبد الله بن المبارك وسفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغيرهم تر العجب.

خامستها: صحة عقيدة أهل الحديث وصفاؤها واتفاقهم فيها. قال مصطفى بن إسماعيل: “فصفاء معتقداتهم ومشاربهم أمر واضح جلي في أئمة السلف المشتغلين بالحديث، وهذا بخلاف غيرهم ممن اشتغلوا بعلوم أخرى، فقد اشتغل بالفقه وغيره أناس كثيرون ولم تسلم معتقدات كثير منهم. ولما كانت بضاعة أئمة الحديث مأخوذة من قول الله عز وجل وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وآثار الصحابة والتابعين ومن بعدهم قلَّ أن تجد فيهم من زلت قدمه في باب العقيدة، بخلاف كثير من القراء والفقهاء والمؤرخين واللغويين وغيرهم؛ فقد زلت أقدام كثير منهم. فعلم الحديث فيه عصمة ونجاة لمن وفقه الله تعالى إليه، واعتصم بمنهج أئمته علما وعملا وحالا.”[5]

سادستها: أن انتشار علم الحديث يؤدي إلى قلة البدع والخرافات ودحر أهلها، فإن هؤلاء يضطرون إلى دخول جحورهم لما يقمعهم من قوة حجج أهل الحديث وأنوار الوحي والأحاديث النبوية التي ينشرونها بين الناس. ولأن علم الحديث عبارة عن ميزان وقواعد يعرف بها الصحيح من الضعيف والصدق من الكذب، ومنشأ كثير من البدع يرجع إلى انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة. فإذا ميز بين الصحيح والضعيف ترك الضعيف وعمل بالصحيح فصحت العبادة وكانت الأعمال موافقة لأحكام الشريعة فحييت السنن وأميتت البدع. ولا يخفى أثرُ البدعِ السيءُ على الأمة وما تُسبِّبُه من تخلُّف واختلاف. وفي المقابل الأثرُ الحسنُ لانتشار السنن وما تؤدي إليه من رقي وائتلاف.

وقد كان سبب تأليف الإمام أبي عبد الله الحاكم النيسابوري المتوفى سنة 405، رحمه الله، لكتابه “معرفة علوم الحديث” هو كثرة البدع، قال رحمه الله: “أما بعد فإني لما رأيت البدع في زماننا كثرت ومعرفة الناس بأصول السنن قلَّت، مع إمعانهم في كتابة الأخبار وكثرة طلبها على الإمهال والإغفال، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل على ذكر أنواع علوم الحديث …”.

وإذا كانت تلك هي الحال في ذلك الزمان الجميل في القرنين الرابع والخامس؛ فكيف بزماننا هذا في القرن الخامس عشر. والله المستعان.

سابعتها: حاجة سائر العلوم لعلم الحديث؛ لأن التفسير والفقه والعقيدة والقراءات وغيرها مبناها على القرآن الكريم والأحاديث النبوية والآثار، فالأحاديث بها تفسر الآيات ومنها تستنبط العقيدة والأحكام الفقهية. والحديثُ حتى يُعتمَد يحتاج إلى أن تُعْلم صحتُه، ولا سبيل إلى معرفة صحته إلا بمعرفة علم الحديث وتطبيق قواعده، أو الرجوع إلى أهله وسؤالهم عن ذلك.

قال الحافظ أبو عمرو ابن الصلاح المتوفى سنة 643، رحمه الله، مبينا فضل علم الحديث وحاجة سائر الفنون إليه: “وهو من أكثر العلوم تولُّجا في فنونها، لا سيما الفقه الذي هو إنسانُ عيونِها، ولذلك كثر غلط العاطلين منه من مُصَنِّفي الفقهاء وظهر الخلل في كلام المُخِلِّين به من العلماء”[6].

ثامنتها: من أعظم فوائد علم الحديث أنه يربي في المشتغل به ملَكَةَ التثبت في الأخبار، فلا يبادر إلى تصديقها أو نقلها حتى يتثبت منها ويعمل بما جاء في قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)، لا سيما في زماننا هذا زمان التكنولوجيا والإعلام وكثرة الأخبار والأنباء التي تبلغ أقصى الأمصار والأنحاء، مع كون كثير منها إشاعات كاذبة أو أوهاما شائبة. وكم من المصائب والشتات والصراعات بين الأفراد والجماعات كان سببها هذه الأخبار المكذوبة والإشاعات التي ينقلها أناس فسقة أو مخَبِّطون لا يفهمون ما يسمعون ولا ينتبهون لما به يتكلمون.

تاسعتها: أن الاشتغال بعلم الحديث سبب لمصاحبة الصحابة الكرام رضي الله عنهم وأتباعهم من أئمة الحديث من خلال سيرهم وتراجمهم التي حفظها لنا علماء الحديث واعتنوا بها اعتناء منقطع النظير.

وقد قيل للإمام عبد الله ابن المبارك المتوفى سنة 181، رحمه الله: “إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟” قال: “أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم. فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.”.

عاشرتها: أن الإسناد الذي يقوم عليه هذا العلم هو من خصائص هذه الأمة المباركة، وبه حفظ الله لها دينها وكلامَ نبيها صلى الله عليه وسلم، قال علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456، رحمه الله: “نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم مع الاتصال، خص الله به المسلمين دون سائر الملل”. وقال ابن المبارك: “الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء”.

وقد شهد بعض المستشرقين بذلك، والفضلُ ما شهدت به الأعداء، حيث قال المستشرق مرجيلوث وهو يتحدث عن نظرية الإسناد: ” ورغم أن نظرية الإسناد قد أوجبت الكثير من المتاعب لما يتطلبه البحث في ثقة كل راو … إلا أن قيمتها (نظرية الإسناد) في تحقيق الدقة لا يمكن الشك فيها، والمسلمون محقون في الفخر بعلم حديثهم“.[7]

والحاصل أن فضائل علم الحديث كثيرة، ومناقب أهله وأفضالهم وفيرة، أردت التنبيه على ما يكفي منها النبيه، ويثير في نفوس العقلاء، لا سيما الشباب منهم، الشوق إلى طلبه، والاشتغال به؛ فإنه خير ما عمر به الليل والنهار، وأفضل ما بذلت فيه المهج والأعمار.

وقد ألِّفَتْ في بيان فضله كتبٌ ومؤلفات من أهمها كتاب “شرف أصحاب الحديث” للحافظ أبي بكر أحمد بن علي المعروف بالخطيب البغدادي المتوفى سنة 463، ومما جاء فيه:

عليكم بالحديث فليس شـــيء    …..     يعـادِلُـه على كـلِّ الجهاتِ

نصحت لكم فإن الدين نُصـحٌ    …..    ولا أخفي نصائحَ واجباتِ

وجدنا في الروايـــة كل فقــهٍ    …..     وأحكاما وكـلَّ اللغــــــات

بذكر المُسنَدات أنِسْتُ ليلـــي    …..     وحفظُ العلم خير الفائدات

ومن طلب الحديث أفاد ذُخرا    …..     وفضلا ثـم ديـناً ذا ثـبـات

عليكم بالرِّوايــات اللَّواتـــــي    …..    رواها مالك أزكى الرُّواة

وشعبة وابن عمرو وابن زيد    …..     وسفيانُ الثِّقات عن الثقات

ويحيى وابن حَنْـبَـل المزَكَّـى    …..    وإسحاقُ الرضا وابنُ الفرات

أئمتُـنا النجـومُ وهل رشـيـــدٌ    …..      تكَلّــَمَ في النجوم الزاهرات

وللحافظ ابن الصلاح كلمة جامعة في فضل علم الحديث، حيث قال: “هذا وإنَّ علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة، وأنفع الفنون النافعة، يحبه ذكور الرجال وفحولتهم، ويُعنى به محققو العلماء وكَمَلتُهم، ولا يكرهه من الناس إلا رذالتهم وسفلتهم”.

وختاما نقول لأعداء السنة والحديث: إن السنة محفوظة، بحفظ الله، على الدوام، عالية سامقة لا تنالها أيدي اللئام والأقزام، فموتوا بغيظكم وابلغوا من الموت التمام.

أسأل الله تعالى لي ولإخواني المسلمين التثبيت، وأن يحشرنا مع صاحب الحديث عليه أفضل الصلاة والسلام، ومع صحابته الكرام وأهل الحديث الأعلام.

والحمد لله رب العالمين.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

[1] البيتان من أرجوزة مختصرة في علم مصطلح الحديث للشيخ محمد العربي الفاسي المتوفى سنة 1052، رحمه الله.

[2] حديث صحيح أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم.

[3] رواه مسلم 1920.

[4] أخرجه أبو داود 4597 وصححه الألباني.

[5] “الجواهر السليمانية” ص:8.

[6] “معرفة علوم الحديث” ص:5

[7] “محاضرات عن المؤرخين العرب” ص: 20. نقلت ذلك عن الباحث عبد الله الشهري على صفحنه في (إكس).

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M