من مراجعة مدونة الأسرة المغربية إلى مراجعة دين الأسرة المغربية

07 أبريل 2024 14:31

هوية بريس -د.البشير عدي / أستاذ قانون الأسرة والقضاء الأسري بجامعة ابن زهر ومنتدب قضائي إقليمي سابق

النقاش العمومي و مبادرات تعديل المدونة

من مراجعة مدونة الأسرة المغربية إلى مراجعة دين الأسرة المغربية

تحت شعار : بلا حيا بلا حشمة وبكل جرأة: “لا لله في تشريعاتنا”

لم تخل الساحة المغربية يوما، من نقاش عمومي حول قانون الأسرة، منذ دخول مدونة الأحوال الشخصية الملغاة حيز التنفيذ، نهاية العقد الأول من النصف الثاني من القرن الماضي. وإن في صورته النخبوية، على المستوى القانوني والحقوقي والحزبي والإيديولوجي.

وقد اتسم هذا النقاش في عمومه، بتأثيرات و توجهات الفكر العلماني المهيمن على النظرية العامة للقانون وفق النموذج الفرنسي، والتي تسيطر عليها المدرسة الوضعية، ذات العقيدة المادية الإلحادية، والتي تنحي الدين و الأخلاق جانبا، ولا تعترف لهما بأي دور في تأطير قواعد الضبط الاجتماعي، وتدفع في اتجاه استئصال وتقليص القواعد القانونية ذات الأصل الديني في التشريعات الوضعية .

وهو ما يفسر استهداف مدونة الأحوال الشخصية وأساسها الديني، والمطالبة بتعديلها مباشرة منذ السنوات الثلاث الأولى لدخولها حيز التنفيذ، تحت شعارات العصرنة والتحديث، وبيافطات حزبية ونسائية.

ولعل ما عرفته مدونة الأحوال الشخصية من مبادرات التعديل، منذ 1961 و مرورا بسنة  1979 فسنة 1981  ثم سنة 1993، و انتهاء بسنة 2004، لدليل على أهمية هذا النقاش العمومي وتأثيره على المشرع المغربي، خاصة بعد تنامي الأصوات الأممية و التوجيهات و الضغوطات الدولية ذات الخلفية الغربية في هذا النقاش، وبشكل خاص قبيل وبعد مؤتمر القاهرة للسكان سنة 1994، ومؤتمر بكين الخاص بالمرأة سنة 1995.

إذ شكل هذان المؤتمران، منعطفا دوليا نوعيا للقطع مع الشكل الفطري للأسرة الإنسانية، و الإعلان عن ميلاد أشكال جديدة للأسرة و تشريعاتها في العالم الغربي. و تشكلت معهما استراتيجية تعميم هذه الأشكال الشاذة والتطبيع معها في العالم، و في العالم الإسلامي على وجه الخصوص. عبر بوابة الاتفاقيات و المواثيق الدولية، و الجمعيات الحقوقية والمنظمات النسائية المحلية المرتبطة بها، و بدعم و ضغط من المؤسسات المالية الدولية.

ولا يخفى ما يعانيه أفراد الأسرة المغربية و عموم الشعب المغربي، من مشاكل ذات أبعاد اقتصادية وسياسية، مرتبطة أساسا بالثروة و التشغيل والصحة والسكن والتربية والتعليم و الإعلام … ، و ناتجة أساسا عن عدم تمكين الأسرة من حقوقها الاقتصادية و الاجتماعية التي تم التأسيس لها دستوريا.

و هو ما أثر على تأمين الحد الأدنى من مستوى العيش الكريم، وانعكس سلبا، أمام التحولات الاجتماعية، على الأفراد، وبالتالي على الأسرة و بنيتها وعلاقاتها و روابطها، وعلى  نسيجها و محيطها الاجتماعي.

وقد أفرزت هذه المشاكل أزمات بنيوية ومعقدة ومتشابكة، على مستويات متعددة، خاصة على المستوى الاجتماعي والنفسي والعاطفي والأخلاقي والقانوني. انعكست سلبا على الاستقرار والتماسك الأسري، وأدت إلى ارتفاع مستويات التصدع والشقاق والتفكك الأسري والجرائم ذات الطابع الأسري.

وهو ما شكل فرصة للمتربصين بقانون الأسرة، من عرابي وأبواق وأنصار المواثيق الدولية، وجعلهم يستهدفون المدونة ويحشروها في الزاوية، ويحملونها ويلصقون بها ويلات كل المشاكل والأزمات الأسرية. مباشرة بعد دخولها حيز التنفيذ.

وشرعوا يختلقون ويتصيدون و ينشرون و يسوقون للعديد من الإشكالات الوهمية والمفتعلة، التي تزخر بها الساحة، بمساندة أذرع إعلامية ضخمة، وشبكات وأدوات ترافعية هائلة، في العديد من المواقع  والمنابر الموسسات، وفي الكثير من المناسبات والمحافل والساحات،  بمباركة و شرعنة بعض رويبضة و متفيقهة هذا العصر، من ذوي الأجندات الخاصة، و أصحاب الفتاوى على المقاس و وفق الطلب.

فصاروا يتباكون وينوحون ويكذبون ويروجون، على امتداد ما يناهز العقدين من الزمن، حتى صدق الجميع، بمن فيهم الكثير من حفظة الفروع من الباحثين والمتخصصين في الشرع و القانون، وكذا الكثير من مهنيي العدالة، أن كل مشاكل الأسرة المغربية سببها المدونة، وأن حلها يكمن في تعديل هذه المدونة.

فأضحت هذه المدونة مدانة ومهانة، وأصبح دمها مهدورا، ورقبتها مطلوبة لدى الجميع، لتدفع ثمن أصالتها وشرعيتها الدينية.

والحال أن الإشكالات الحقيقية لهذه المدونة، ما هي في حقيقة الأمر، إلا جزء من البعد القانوني لهذه المشاكل والأزمات، ذات الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتي لا يمكن مقاربتها ومعالجتها إلا في إطار السياسات العمومية و البرامج الحكومية.

ومع أن نصوص مدونة الأسرة تعتريها بعض الشوائب وأوجه الخلل، سواء من حيث التشديدات أو التسهيلات التي طالت بعض النصوص والمساطر، والتي أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في انحسار الزواج، وتنامي التفكك الأسري وانحلال ميثاق الزوجية، إلا أن أغلب المشاكل القانونية التي تعاني منها الأسرة و المنازعات الأسرية هي مشاكل ذات طبيعة قضائية مردها للعمل القضائي والتطبيقات القضائية، ولا علاقة لمجملها بالنصوص التشريعية للمدونة.

ذلك أن أغلب الإشكالات المتداولة، كثبوت الزوجية و زواج القاصر و التعدد والطلاق والتطليق ولحوق النسب … ، لم تحسم فيها المدونة بنصوص جامدة، بل صاغتها في نصوص مرنة ترجع مسألة البث فيها للقضاء وفق سلطته التقديرية.

لذلك فجل مشاكل الأسرة المغربية ذات الصبغة الاقتصادية و الاجتماعية ترجع أغلب أسبابها و يمكن حلها و علاجها في السياسات العمومية القطاعية، المتسمة بغياب الإرادة و الاهتمام الكافيين بالأسرة، وشح الأرصدة المالية الكافية للاستجابة لحاجياتها، والآليات الكفيلة بالنهوض بها.

كما أن جل مشاكل الأسرة المغربية ذات الصبغة القانونية ترجع أغلب أسبابها ويمكن حلها في التطبيقات القضائية و العمل القضائي، الغارق في الشكليات المعقدة للمساطر والمهدرة للزمن القضائي، والمفتقر للعديد من الآليات الموضوعية والإجرائية و الإمكانيات البشرية والوقتية واللوجيستيكية، الكفيلة بإدارة المنازعة القضائية والفصل فيها على النحو المتعين، وفق طبيعة وخصوصيات و آليات هذه المادة و منازعاتها و أطرافها.

وهذا ما تنبه إليه ونبه عليه الخطاب الملكي لعيد العرش 2022، المعلن عن ورش مراجعة المدونة الحالية، واضعا بذلك  الأصبع على جرح الأسرة و المرأة المغربية، حينما دعا العاهل المغربي، إلى تفعيل المؤسسات الدستورية المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات التشريعية الوطنية للنهوض بوضعيتها من جهة، و ذلك عند قول صاحب الجلالة:” وهنا، ندعو لتفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها.”.

ومن جهة ثانية، حينما دعا صاحب الجلالة إلى مراجعة بعض بنود المدونة التي تم الانحراف بها عن أهدافها عند الاقتضاء، عند قوله في الخطاب السامي:” كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات ، التي أبانت عنها التجربة ، ومراجعة بعض البنود ، التي تم الانحراف بها عن أهدافها ، إذا اقتضى الحال ذلك.”,

وذلك بعدما أشار، جلالته، إلى عائق التطبيق الصحيح لمقتضيات هذه المدونة، من لدن فئة من الموظفين ورجال العدالة، والذي يحول دون تحقيق أهدافها، نتيجة اعتقادهم بأن المدونة خاصة بالنساء. عند قوله في ذات الخطاب السامي :” وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها.  ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء.”.

غير أن واقع النقاش العمومي والمبادرات المقدمة من غالبية الفاعلين و المشاركين في هذا النقاش والمبادرات، ذهبت في سياق آخر غير سياق الخطاب الملكي، وتوجيهات صاحب الجلالة، باعتباره صاحب الاختصاص التشريعي، فيما يتعلق بالمقتضيات الشرعية لمدونة الأسرة بصفته أميرا للمومنين طبقا للدستور.

فمن جهة، تم تغييب النقاش الجدي حول السياسات العمومية في علاقتها بالأسرة،  كما تم تغييب النقاش حول تفعيل المؤسسات الدستورية المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، و حول تحيين الآليات التشريعية الوطنية للنهوض بوضعيتها، و تمكين الأسرة من حقوقها الاقتصادية و الاجتماعية.

ومن جهة أخرى تم تجاوز سقف التوجيهات الملكية لنطاق المراجعة والتعديل، بتوجيه النقاش ومقترحات العديد من هذه المبادرات، نحو المراجعة الشاملة والجذرية للمدونة ونصوصها شكلا ومضمونا.

و على صعيد آخر، تم الانسلاخ عن ضوابط المراجعة والتعديل التي سطرها الخطاب الملكي، فيما تعلق بعدم المساس بالقطعيات الشرعية، فيما تعلق بالحلال والحرام، من جهة. واعتماد نطاق مقاصد الشريعة و الأعراف المغربية في غير القطعيات الشرعية، من جهة ثانية.

حيث جاء  في خطاب العرش لسنة2022 المؤذن بمراجعة المدونة:” وبصفتي أمير المؤمنين ، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان ، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله ، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية. ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك ، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية ، وخصوصيات المجتمع المغربي.”.

فوجدنا من النقاشات و المبادرات، بما فيها تلك الصادرة عن بعض المؤسسات الرسمية والحزبية، مطالب ومقترحات بضرورة القطع مع المقتضيات الشرعية و المرجعية الشرعية للمدونة، و إلغاء المعلوم من الدين بالضرورة.

وهو حال المؤسسات والأحزاب والأشخاص، ممن نادي مثلا ب:

– المساواة في الإرث بين الذكر و الأنثى؛

– إلغاء التعصيب؛

–  رفع موانع الزواج المرتبطة باختلاف الدين والجنس؛

كما نجد مطالب ومقترحات لحظر المباحات الشرعية والحاجات المجتمعية، كما هو الحال مثلا بالنسبة لدعاة:

– منع وتجريم زواج الأشخاص البالغين بلوغا شرعيا؛

– منع و تجريم تعدد الزوجات و غيرها؛

– منع سماع دعوى ثبوت الزوجية.

فنكون بهذا، و هو غيض من فيض، أمام نقاشات ومقترحات ومبادرات، حورت النقاش من مراجعة و تعديل مدونة الأسرة المغربية، إلى مراجعة و تعديل دين الأسرة  المغربية. و مراجعة و تغيير شكل و نموذج الأسرة المغربية.

وهذا بعدما فتح مجال النقاش وإبداء الرأي والمبادرة والاقتراح، للجميع، ولأفكار الجميع، بمن فيهم المجاهرين بالعداء لله وللدين وللإسلام و للفطرة وللشريعة وللدولة ولإمارة المومنين وللمجتمع وللأسرة وللرجل. و الذين عجت بها الساحات والمنابر والمواقع والقنوات. بما في ذلك مضادي الألوهية بالتيار الإلحادي، وتيار النسوية الراديكالية، وتيار الشواذ، الذين عرفت أفكارهم و مطالبهم، الطريق إلى هذه النقاشات و المقترحات و المبادرات، تحت يافطات وعناوين وشعارات شتى.

ولم يغب عن هذا النقاش، إلا صوت العلماء و الفقهاء، الذين أحجموا- إلا من رحم ربك- عن التصدي لتبخيس أحكام الشرع و تخسيس قطعياته، بمناسبة هذا النقاش العمومي، و تخلفوا- إلا قليلا- عن بيان حكم الشرع في هذا التبخيس والمبخسين، والدعوة لمحاسبة المتطاولين على الإسلام وهو دين الدولة، من خلال التطاول على قطعيات الشريعة، بما في ذلك الدعوة لحل المؤسسات، المنخرطة في هذا التطاول، و التي يفترض فيها الالتزام بثوابت الدولة، و هي ثوابت فوق دستورية، و من أبرز محددات  النظام العام الوطني.

فصار شعار النقاش العمومي السائد وعنوان تياره الأبرز الرائج، أمام تغييب وغياب الصوت المعاكس و الصوت الشرعي بالخصوص، هو :

لا للشرع في تشريعاتنا “، و: ” لا لله في حياتنا “.

غير الذي نسيه وتناساه وتغافل عنه الجميع، أن مجال المقتضيات الشرعية للمدونة، هو اختصاص حصري للملك بصفته أميرا للمومنين، الذي تقع على عاتقه مسؤولية حماية الملة و الدين دستوريا.

وهو جلالته الذي سبق وأن ذكر البرلمانيين بذلك، في الخطاب المعتبر ديباجة للمدونة الحالية سنة 2003، والذي جاء فيه بهذا الصدد :”  و إذا كانت مدونة 1957 قد وضعت، قبل تأسيس البرلمان، و عدلت سنة 1993، خلال فترة دستورية انتقالية، بظهائر شريفة، فإن نظرنا السديد، ارتأى أن يعرض مشروع مدونة الأسرة على البرلمان، لما يتضمنه من التزامات مدنية، علما بأن مقتضياته الشرعية هي من اختصاص أمير المومنين.”.

وهو الذي ما فتئ يذكر الجميع بأنه بهذه الصفة لا يمكنه أن يحلل حراما و لا أن يحرم حلالا. حيث قال جلالته في خطاب العرش لسنة2022 المؤذن بمراجعة المدونة:” وبصفتي أمير المؤمنين ، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان ، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله ، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية“.

والله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لايعلمون.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M