من هو الشيخ محمد محفوظ البحراوي الذي أوصى الشيخ بوخبزة -رحمه الله- بأن يصلي عليه صلاة الجنازة؟!
هوية بريس – إعداد: فؤاد الدكداكي
كان شيخنا أبو أويس محمد بن الأمين بوخبزة -رحمه الله تعالى- وأكرم مثوبته قد أوصانا عدة مرات بأن يصلي عليه شيخنا العلامة الأصولي المحدث الفقيه الزاهد أبو منذر محمد محفوظ البحراوي التطواني أمد الله في عمره، وجعله بلسما لجروحنا، وقرة لأعيننا بعد فقد الوالد الأكبر.
وقد كان ذلك، إذ هو الذي صلى عليه صلاة الجنازة، أمس الجمعة 05 جمادى الآخرة 1441هـ الموافق 31 يناير 2020.
فمن هو الشيخ محفوظ؟
ترجمة الشيخ محفوظ البحراوي بقلم الدكتور عبد الكريم القلالي
ولد الشيخ محفوظ سنة: 1949م بقرية منكال قرب مدينة تطوان، وهو عالم من كبار علماء المغرب، اشتهر بالتدريس، ولم يشتغل كثيرا بالتأليف؛ لكثرة شواغله الصارفة وتفرغه لتدريس طلبة علوم الشريعة.
وعرفت الشيخ أول مرة بتطوان سنة: 1999م، وشرفت بدراسة جملة من العلوم والفنون عليه، كالحديث وعلومه، والفقه وأصوله، وعلم المنطق، والعقيدة، وغير ذلك من العلوم، وكان ذلك بمدرسة الإمام مالك الخاصة للتعليم العتيق بتطوان، ويدرس الشيخ أيضا بمعهد الإمام أبي القاسم الشاطبي، ولا زال يدرس فيهما إلى الآن، وتتلمذ فيهما على يديه عشرات الطلبة، تبوؤوا الآن مختلف الوظائف، وحصلوا على مختلف الشهادات العلمية؛ كما تتلمذ عليه عدد من الشيوخ والأساتذة وحملة الدكتوراه.
وقد عرفت شيخنا الشيخ محفوظ البحراوي علامة ناقدا متقنا لمختلف العلوم والفنون، وهب مواهب وسجايا قل أن تجتمع في غيره؛ حباه الله دقة الملاحظة وسرعة الفهم وسيلان الذهن، وحصافة الرأي، مع اتسامه بالورع والزهد والتواضع ولين الجانب، مثال يحتذى في أدبه وعلمه وأخلاقه.
صفاته وأخلاقه:
لم أر عالما اتفقت كلمة طلبة العلم على فضله وعلمه كالشيخ محفوظ، ولم أسمع قط على لسان طالب تتلمذ على يديه أو عرفه، همزا أو لمزا بالشيخ أو طعنا في منهجه أو علمه أو شخصه؛ فقد كانت نظرة الخاصة من طلبة العلم والعامة من العوام الذين يعرفونه، نظرة تقدير واحترام وإكبار، يقدر الجميع ويكرمهم مهما كانت منازلهم وقد حببه ذلك لكل من عرفه أو جالسه أو درس على يديه.
وإخلاصه هو سر إقبال العلماء والعامة وطلبة العلم على مجلسه والاستماع إلى نصائحه القيمة وتوجيهاته السديدة وآرائه النيرة مع توقيرهم لشخصه وتقديرهم لعلمه.
والشيخ حاتمي مشهور بالكرم، معروف بالزهد والورع، سخى اليد، طيب المعشر، معروف بفضله وكرمه يدعو العامة والخاصة من طلبة العلم لبيته، وكم مرة لقيته ودعاني لبيته، مزينا دعوته بقوله: لا تخش التكلف؛ ندخل البيت ونتناول ما تيسر…، وتلك هجيراه مع طلبة العلم.
ومنه تعلمت العفاف والكفاف، وهذه خصلة يحرص على غرسها في طلبته، لا يترك فرصة أو مناسبة إلا ويحث عليها ويرغب فيها، وهو قدوة ومثال يحتذى في ذلك، يوافق قوله عمله، يدعو طلبة علوم الشريعة إلى أن يكونوا مثالا يحتذى، وينفرهم مما هو سائد من أوضاع مزرية لبعض حفظة القرآن الذين يشترون به ثمنا قليلا؛ وبهذا المنهج التربوي السديد تخرج على يديه طلبة يحملون شيئا من علمه وبعضا من أخلاقه.
ورغم ما أوتي من بسطة في العلم وقبول لدى العامة والخاصة؛ فهو محب للتستر بعيد عن المظاهر والتصدر، يكره الشهرة ويأبى أن تسلط عليه الأضواء أو توجه نحوه الأنظار، ويبتعد عن وسائل الإعلام ويمنع التصوير في مجلسه، وقد حدثني غير مرة عن حرجه من الجلوس أمام آلات التصوير، وزهده في كثير من الندوات واللقاءات التي يسيل لها لعاب الكثيرين من محبي الأضواء وعشاق الشهرة.
وهو مع سمو قدره وجلال علمه يقدر العلماء ويجلهم، وينوه بطلبة العلم ويذكرهم في مجلسه بالمدح والثناء تشجيعا لهم وترغيبا، وأذكر هاهنا موقفين من مواقفه:
الأول: موقفه مع فضيلة الشيخ العلامة بوخبزة يوم زار الشيخ بوخبزة مدرسة الإمام مالك بتطوان، فعلم الشيخ بزيارته، وسارع بالذهاب إلى بيته وأرسل هدية له، تكريما له وتبجيلا، وحث طلبة العلم على مجالسته والاستفادة منه.
والثاني: أنه ما يفتؤ يذكر طلبة العلم في مجلسه، وينوه بما فتح على كل طالب في فن من الفنون ويذكر أسماءهم ويشيد بهم في حضرتهم وغيابهم، ولست أنسى كلمات سمعتها منها مرات وكرات يحث بها ويشجع ويعد بالغد المشرق والمستقبل العلمي الزاهر، وكم من طالب علم في مجلسه يصفه بالشيخ والأستاذ، وكم مرة دعوته ليحاضر في موضوع من المواضع؛ فيخاطبني: هذا ستفيد فيه أنت، ولو تناولته أنت لكان أحسن وأفضل، والحقيقة أني بضاعتي المزجاة لا تساوي إزاء علمه الزاخر ولو قلامة ظفر، ومثلي ومثله كمثل طويلب علم مبتدئ بين يدي شيخه المتفنن، لكن تواضعه يأبى إلا أن يظهر في كل شيء؛ فقد صار سجية له وطبيعة.
منهجه في التدريس والتربية:
ويشهد كل من جلس بين يديه من طلبة العلم بتميز منهجه في التدريس والتلقين؛ مراعيا ما في مجلسه من الحضور الذي قد لا يقتصر أحيانا على طلبة العلم، وهو معروف لدى الطلبة بتميز فكره واستقلال رأيه ونفاذ بصيرته، وسلامة معتقده، وسوى ذلك كثير من فضائله ومحاسنه، فيه عزة العلماء وإباء الأتقياء، ومذ عرفته لم أره يوما ولا سمعت أنه جابه طالبا بما يكره أو انتصر لنفسه أو غضب عليه في درسه أو انتقص منه أو رده عن مجلسه، ولا يأنف من قبول رأي طالب أو اعتباره ممن هو دونه إن صادف الصواب؛ تشعر في مجلسه وكأنك بحضرة عالم من علماء السلف المتقدمين، ولا غرابة في ذلك فالشيخ من منهجهم يستمد.
وفيما يجلي من المسائل ويشرح من القضايا تراه دقيق الفهم راجح العقل، ينتقد بالدليل والبرهان ، وانتقاده شديد الإحكام والإتقان، كل ذلك بتواضع وعفة لسان، منهجه في الجرح والتعديل مستمد من منهج علماء هذا الفن، لم أره يوما يتباهى بعلمه أو يفتخر بنفسه، لا يترفع عن مجالسة طلبة العلم والوقوف معهم في الأماكن العامة والخاصة الدقائق الطوال.
ولا أدل على سمو منزلته وعلو كعبه من زيارة نظرائه ومراجعته فيما يشكل عليهم من قضايا ومسائل في مختلف الفنون، وكم من زائر صحح له كتابا أو أنشأ له فصولا ومباحث، وإذا طبع الكتاب وأخرجه لم يشر له إشارة، وكل ذلك لا يأبه له الشيخ ولا يوليه اهتماما.
وتميز الشيخ بصفة الثبات على المبدأ فما عرف عنه التردد في القول، أو المداهنة أو المجاملة قط ؛ بل كان يصدع بالحق ويجهر به، ويتحرى الصدق ويؤثره، وله آراء خاصة في بعض القضايا الشائكة لا يذكر بعضها إلا للخاصة من زملائه وطلبته، ولا يضيق صدره أن تخالفه الرأي؛ بل ينشرح صدره للطالب الذي يحاوره ويناقشه، وإذا ذكرت أمامه الآراء التي تخالفه لا ينفعل ولا يتشنج لأنها تخالفه؛ بل يبين ما يراه بحجة وبرهان.
وسأشير إلى شيء من مقدرته في بعض العلوم، وفي كل فن تدرسه على الشيخ يخال لك أنه متخصص فيه دون غيره:
أولا: علم الجرح والتعديل
الشيخ محفوظ علامة محدث، يُذكر الحديث في مجلسه، فيشير إلى درجته مع بيان ما فيه، وله مقدرة متميزة فى تخريج الحديث والحكم عليه، وله طريقة خاصة في التخريج لم أر أعمق منها ولا أبسط، تقربك من هذا الفن بيسر، وله في هذا العلم آراء وتجد عنده ما لا تجده عند غيره سواء فيما يتعلق بالرواية أوالدراية، ودرست عليه كتبا لبعض المعاصرين الذين يعتبرون من المتخصيين؛ فكان ما ينتقده الشيخ عليهم ويصححه أكثر مما يقره، كما أن للشيخ عناية خاصة بكتب الرجال وله مستدركات على كبار أرباب هذا الفن، وله مباحث (لم تنشر) تتعلق بعلم الحديث، أتذكر منها “تخريجه لعلل أبي حاتم”.
ثانيا: سعة معرفته فى الفقة وأصوله
للشيخ -حفظه الله- عناية خاصة بكتب الفقهاء ودراية تامة بالاطلاع على الأقوال، وهو من العلماء المعدودين فى هذه البلاد الذين يتقنون تدريس “الفقه المقارن”، سريع الاستحضار لمذاهب العلماء في المسألة ومستندهم فيها، لا يرضى التعصب لمذهب من المذاهب، يدور مع الدليل حيث الدار، والدارس عليه يدرك بجلاء الملكة الفقهية التي يتميز بها الشيخ.
أما فهمه لعبارات العلماء وتحليلها وتوجيهها؛ فقد ملك ناصيته، وبعض العبارات بالغة التعقيد يجليها ويشير إلى مراميها ومقاصد قائلها، على نحو لا تجده في هذا العصر إلا عند النزر اليسير من العلماء.
أما فى أصول الفقه فالشيخ محفوظ أصولي متبحر له القدح المعلى في ذلك، يستفيد منه المبتدئ ولا يستغني عنه المنتهي في هذا المجال، ورسالته: “صلـة الموصول في حل مشكلات مفتاح الوصول” شاهدة على ذلك.
ثالثا: تمكنه من علوم الآلة
برز الشيخ في علوم الآلة وتمكن منها جميعها، وينبه طلبته إلى عدم اتخاذها غاية، ويراها وسائل لغيرها من العلوم، وينتقد من أفنوا عمرهم في دراسة علوم الآلة، واقتصارهم عليها؛ دون إدراك وظيفتها والغاية من تعلمها وتعليمها.
والشيخ في علم النحو مرجع تراه يورد فى حديثه القاعدة النحوية إيراد المتخصص، أما في البلاغة فذواق للنصوص حباه الله بمكرمة بيانية عجيبة في الكتابة، وقد اطلعت على مسائل قررها وردود دونها؛ بلغة أصيلة محكمة متقنة، بأسلوب متين جزل بليغ لا يقل عن أساليب كبار العلماء تتصف كتاباته بالإيجاز والإحكام وبعض رسائله أمثلة شاهدة على أسلوبه البياني.
وإذا تكلم أو درس لا يتلعثم ولا يتوقف ولا يلحن، ولا يستعمل المبتذل من الكلام.
وفي مجال الفتوى تتجلى سعة مداركه، ونظرة العالم المتبصر، الذي يجمع بين العلم بنصه الشرعي، وبين العقل والحكمة وفقه الواقع في معالجة الأمور، وتبرز نظرته الواسعة للأمور، يشبع نهم المستفتي، سيما إن كان من طلبة العلم العارفين بأحوال الاستدلال.
و فتاواه تلقى مشافهة، أو تكتب في رسائل تحمل إجابات شخصية، وهو شديد التحرج من الفتوى، ورأيته أكثر من مرة يحيل طلبته للإجابة على بعض الأسئلة التي ترسل له.
أما علمه بفقه الواقع فالشيخ حفظه الله يدرك واقع الأمة الإسلامية تمام الإدراك ويعي قضاياها ويعيش أحداثها، ومعرفته بالأعلام المعاصرين من الصالحين وغيرهم معرفة دقيقة وحكمه عليهم حكم سديد، وكم مرة سألته عن بعض الأعلام المعروفين في الساحة العلمية؛ فكان جواب الشيخ دقيقا ونظره متوازنا، يذكر للشخص ما له وما عليه.
وما سطرته في هذه الأسطر كتبته على عجل شديد بما خطر في البال. ولعل العين تكتحل ببحوث علمية رصينة تتناول حياة الشيخ محفوظ بترجمة وافية عن حياته ونشأته العلمية، ومنهجه في التدريس والتربية.