من يكون الشيخ القرضاوي بالنسبة للحركات الإسلامية؟
هوية بريس – بلال التليدي
مع وفاة الشيخ يوسف القرضاوي رحمه الله، تواترت عدد من الكتابات التأبينية، التي تذكر بآثاره الفكرية والدعوية، ودوره العلمي والحركي، ومواقفه السياسية.
البعض اهتم بـ«عالِمية» الرجل، وأثره الكبير في حقل الدراسات الأصولية والفقهية، لاسيما وأن الرجل أرسى قواعد مدرسة جديدة في الأصول اصطلح عليها (مدرسة فقه الأولويات والموازنات) ووضع القواعد العلمية لما أسماه فقه التيسير. والبعض الآخر، اهتم بآثاره الفكرية، وبشكل خاص ترسيخه لفكرة حتمية الحل الإسلامي، وشموليته، وفساد الحلول المستوردة المعروضة على الأمة، ومساجلة التيارات العلمانية المتغربة، وكذا التيارات اليسارية التي كانت تعادي الدين، وتعتبره عائقا أمام التقدم.
جزء من هذا البعض، اهتم بشكل خاص، بدوره في التأصيل لفكرة الوسطية، أو بالأحرى التأسيس لتيار وسطي في الأمة، يتأطر برؤية سعى القرضاوي أن يرسم معالمها وخصائصها.
والحقيقة أن هذه الجوانب من تراث الرجل تستحق دراسة أكاديمية معمقة تدرس الوحدة الفكرية التي كانت تنظم هذه العناصر في فكره، وتدرس أيضا آثار ذلك على مستوى حركة هذا الفكر على الواقع.
من هذه الزاوية تحديدا، ينبغي أن نسجل أن الزخم الفكري للدكتور القرضاوي رحمه الله، أنتج في سياق ما بعد محنة الإخوان المسلمين، أو للدقة، في سياق انفتاح النسق السياسي المصري على إدماج الإسلاميين (مرحلة الرئيس المصري أنور السادات).
ألف القرضاوي كما يؤرخ لذلك في سيرته، ستة كتب قبل مرحلة السادات، كتاب «الحلال والحرام» الذي ألفه بطلب من إدارة الأزهر الشريف في مرحلة محنة الإخوان (1961) وكتاب «الإيمان والحياة» وكتاب «العبادة في الإسلام» وكتاب: «النكبة الثانية: لماذا انهزمنا وكيف ننتصر؟» ومسرحية أدبية بعنوان: «عالم وطاغية» ثم كتابه «فقه الزكاة» الذي ألفه في بداية السبعينيات.
يمكن أن نلاحظ في هذا المسار اختلاط الجانب الفكري والفقهي بشيء من إرهاصات الموقف السياسي، تم صياغتها إن بشكل أدبي، أو من خلال مطارحة أسباب النكسة.
لا عناء في إيجاد تفسير لهذا المخاض، فالرجل، كما تحكي سيرته، كان يعيش من جهة تجربة التحصيل العلمي، ومن جهة أخرى، تجربة البحث عن المعاش والتردد على عدة دول (منها تجربة التدريس بقطر) ومن جهة ثالثة، كانت يعيش تجربة ما بعد محنته الخاصة في المعتقل إلى جانب إخوانه.
من الملفت للانتباه، أن القرضاوي ألمح في سيرته إلى الطابع المبكر للنقد الذاتي في اهتماماته، فقد صرح بأنه على الرغم من نفور الإخوان من هذا التمرين داخل السجن بسبب أجواء المحنة التي كانوا ينسبونها كلية إلى جلاديهم، فقد كان القرضاوي يباشر هذا التمرين رفقة المفكر الإسلامي فتحي عثمان في السجن، ويعتبر ذلك، واجبا شرعيا، قرره القرآن في تقويمه لسلوك الصحابة في غزو أحد.
لا نريد الخوض كثيرا في هذه الحيثيات، لكن ما يهمنا أكثر، أن الرجل بعد استقراره المهني والعائلي، وبعد اكتمال نضجه العلمي والمعرفي، وبعد احتكاك كبير بتجارب الإسلاميين خارج مصر، صار يؤسس لرؤية أصبحت فيما بعد أطروحة الإسلاميين الإصلاحيين، أو أطروحة ما سماه القرضاوي بالتيار الوسطي.
بدأت عناصر هذه الرؤية تتأسس من مباشرة نقد صريح لمفاهيم سيد قطب رحمه الله ومفاهيم التيارات الجهادية التي خرجت من معطف الإخوان المسلمين، فقد ناقش الشيخ يوسف القرضاوي مبكرا فكرة الحاكمية، في سلسلة كتبه حتمية الحل الإسلامي، وانتقد سيد قطب والمودودي، معتبرا أن مفهوم الحاكمية التشريعية، لا ينفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن الله به لهم، وإنما يمنع فقط أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، مثل التشريع الديني المحض، وأما غير ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم فيما لا نص فيه أصلا مما يدخل ضمن دائرة العفو المسكوت عنه.
وتنبه القرضاوي في مشاركته في ملف «أين الخلل» بمجلة الأمة القطرية، إلى الآثار التي أحدثتها مفاهيم من قبيل «الانفصال عن المجتمع» و«الاستعلاء عليه» ورميه بـ«الجاهلية» المطلقة، بسبب عدم فهمهم لمقتضيات «لا إله إلا الله» وعدم إيمانهم بـ«حاكميته» سبحانه، و«عبثية القول بالاجتهاد» في مجتمع لا يلتزم بالإسلام، ورفض عرض المشروع الإسلامي في مناحيه المختلفة.
يلخص محمد عمارة في كتابه عن القرضاوي مشروعه الفكري في خمسة عناوين، أولها لباب الإسلام: والذي تناول فيه الإسلام عقيدة وعبادة وشريعة وأخلاقا، ومصادر المرجعية الإسلامية وخصائص الإسلام، ومقاصد الشريعة وأثر العبادات في حياة الفرد والمجتمع (خمسة عشر كتابا) وثانيها المرجعية العليا للشريعة، كتابا وسنة وما يتصل بها من علوم ومناهج وضوابط ومحاذير في التعامل مع النصر (عشرة كتب) وثالثها، الفقه بالمعنى الواسع، بما يتضمن من فتاوى واجتهادات وأصول وآراء اجتهادية معاصرة (ثمانية وأربعين كتابا) ورابعها فقه الدعوة وترشيد الصحوة الإسلامية: (تضمن واحدا وثلاثين كتابا) وخامسها، فقه المشروع الحضاري: وذكر ضمنها الدكتور محمد عمارة ثمانية كتب.
والحقيقة أن هذا التصنيف يهم المشروع الفكري في سياقه النظري، لا بأثره في حركة الواقع، وإلا فإن التصنيف الأنسب لهذه الزاوية، ينطلق من إعادة تأسيس الرؤية الفكرية على قاعدة الشمولية (إعادة تأسيس المشروع البناوي على أنقاض المشروع القطبي) وتأكيد حتمية الحل الإسلامي، ومخاطر الحلول المستوردة على مستقبل الأمة، وفي هذا السياق يمكن أن تكون سلسلة حتمية الحل الإسلامي، بما في ذلك خصائص الإسلام التي ارتأى القرضاوي أن يخرجها من هذه السلسلة، عنوانا مهما لتحقيق هذا الغرض، إد رسمت الحدود الفكرية للمشروع (الحل الإسلامي) وتهافت المشاريع الأخرى وإخفاقها. ثم يؤسس مرة أخرى للنواة الفكرية للتيار الإسلامي الإصلاحي المعتدل، من خلال الاعتماد على مفهوم الوسطية، التي حرص أن يضع لها عشرين معلما، وأن يتكلف بشرحها بنفسه، وذلك حتى يخرج التيار برمته من الاستقطابات الحدية التي تشكلها الثنائيات المتضادة بين السلفية والصوفية، والجمود والتجديد، والأصالة والمعاصرة، والمذهبية الغلقة، واللامذهبية المفرطة، وغيرها من الثنائيات الاحترابية، فقد قصد القرضاوي أن يؤسس للقاعدة الاستقطابية للتيار الوسطي، التي تعتمد على مفهوم المصالحة مع تيارات الأمة من جهة، وإمكانية الاستقطاب من أطرافها من جهة مقابلة.
الزاوية الثالثة في مشروع القرضاوي، تهم الجانب الفكري أو المنهجي ألأصولي، إذ اشتغل بشكل حثيث على أن يؤسس لمفردات المنهج في التعامل مع القرآن والسنة والتراث الإسلامي، وأن يصوغ العقلية المقاصدية لأبناء التيار الوسطي بالاعتماد على فقه الموازنات وفقه الأولوليات.
أما الجانب الرابع في مشروع القرضاوي، فتوجه إلى مهمة الترشيد والنقد والتقويم للحركة الإسلامية، سواء بتحديد أولوياتها في المرحلة القادمة، أو بلفت انتباهها إلى أهمية استنقاذها من التطرف، ودفعها خطوات مهمة في مسار الإدماج الاجتماعي والسياسي، برسم خارطة المواقف السياسية التي تؤثث لها الطريق للمشاركة السياسية، واكتساب مواقع مهمة في النسق السياسي، وذلك بإحداث تحولات مهمة على مستوى الموقف من الديمقراطية والتعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة والتعاون مع الحكام لمصلحة الأمة، وتجديد الرؤية لقضايا الحقوق والحريات، لاسيما ما يرتبط بقضية حرية المعتقد، وحقوق الأقليات وحقوق المرأة، ونبذ العنف، وأهمية الحوار مع النخب (نخب الحكم، النخب العلمانية، النخب اليسارية، النخب الغربية).
من المهم عند دراسة أي حركة من حركات التيار الإصلاحي الوسطي الإسلامي، أن نجد حضور هذه المفردات في مشروعها، سواء تعلق الأمر بالجانب الفكري (الشمولية والوسطية) أو الجانب الأصولي (المقاصد وفقه الأولويات وفقه الموازنات) أو بالجانب السياسي (الاندماج، العمل الإصلاحي السلمي، المشاركة السياسية ولوازمها الفكرية والسياسية).
إن إجراء أي دراسة من هذا القبيل، تسمح بالقول بأن الشيخ يوسف القرضاوي على مدار نصف قرن، نجح من غير رهانات أو آفاق تنظيمية، أن يؤسس لتيار وسطي عام يخترق كل تجارب الإسلاميين، دون أن يعيد تجربة الإخوان الفكرية والتنظيمية والسياسية، فلم يحتج الرجل لتنظيم، ولا للتمييز بين التنظيم القطري والتنظيم العالمي، إنما احتاج شيئا واحدا، هو التأسيس الفكري الطويل النفس، وبناء العلاقات مع مختلف مكونات الأمة على قاعدة أخرى غير قاعدة الاصطفاف التنظيمي.