مهنة التوثيق العدلي إلى أين؟

مهنة التوثيق العدلي إلى أين؟
هوية بريس – د. رضوان العابدي
تعد مهنة التوثيق العدلي من أبرز المهن الضاربة جذورها في تاريخ المغرب، فقد دخلت المغرب منذ فترة مبكرة عن طريق الأندلس خلال بداية القرن الثالث الهجري وما زال العمل بها جاريا إلى العصر الحالي، حيث كان العدول يقصدهم الناس للإشهاد على تصرفاتهم وتدوينها في وثائق، وكانوا يجمعون بين الكتابة والإشهاد على المتعاقدين في الوقت نفسه.
وظل العدل يحظى بالتقدير والاحترام خاصين داخل المجتمع المغربي، ليس فقط بحكم موقعه القانوني، ولكن بسبب المكانة الأخلاقية المرتبطة بهذه المهنة تاريخيا، فالعدل يتحلى بالصدق والأمانة، فهو المؤتمن على عقود الناس ومعاملاتهم، مما يجعل الوثيقة العدلية دائماً موضع ثقة لدى عامة الناس.
استمر التوثيق العدلي وتطور مع مرور الزمن، وأصبح علما قائما بذاته يستمد قواعده وأحكامه من الفقه المالكي، ويضبط علاقات المغاربة ومعاملاتهم فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين حكامهم من جهة أخرى، وذلك عن طريق البيعة التي كان العدول يوثقونها، وهو ما يؤكد أن مهنة التوثيق العدلي لها ارتباط كبير بالحضارة والهوية المغربية، كما لها علاقة وثيقة بالثوابت الدينية المغربية التي قامت عليها جل الدول الإسلامية التي حكمت المغرب.
بل إن الوثائق العدلية كان لها إسهام كبير في الدفاع عن القضايا الوطنية على رأسها إثبات سيادة المغرب على صحرائه، إذ استعمل المغرب الوثائق العدلية كحجج قانونية أمام محكمة العدل الدولية سنة: 1975 لإثبات الارتباط التاريخي والقانوني بين الأقاليم الجنوبية الصحراوية وبين الدولة المغربية.
وكان من نتائج ذلك صدور قرار من مجلس الأمن يوم 31 أكتوبر 2025، يدعم مقترح المغرب للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية نظرا للجهود الديبلوماسية الكبيرة التي قام بها المغرب بقيادة جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.
وهكذا فالتوثيق العدلي ممتد عبر الزمان والتاريخ، وغير مرتبط بفترة زمنية معينة، لذلك لا يمكن أن تؤثر فيه مصالح فئوية ضيقة مرتبطة بلحظة زمنية محددة.
ومع ذلك، نفاجأ اليوم أن الحكومة صادقت على مشروع قانون 22/16 المتعلق بتنظيم مهنة العدول بتاريخ يوم الخميس 20 نونبر 2025، الذي ركّز في بعض جوانبه على الزجر والمراقبة والتفتيش وفرض العقوبات، مما يثير المخاوف حول التأثير على استقلالية العدول ومكانتهم المهنية.
لقد اعتبر البعض أن المصادقة على هذا المشروع يمثل تراجعاً تشريعياً، قد يؤثر على مهنة، لها ارتباط وثيق بالقضايا الوطنية والدولية للمغرب.
إن تطوير المهنة وتحديث آليات اشتغالها لا يتأتى إلا بإعادة الاعتبار للعدل داخل المنظومة القضائية من جهة وداخل المجتمع المغربي من جهة أخرى، هل يعقل أن يتم حرمان العدول من صندوق الإيداع والتدبير (CDG)، في سنة 2025؟ وهو وسيلة توفر الأمن التعاقدي في المغرب وتضمن حماية أموال المتعاقدين.
إن الرفع من سن الترشح لمواقع المسؤولية المهنية الوارد في مشروع القانون فيه إقصاء للشباب والنساء العدول الذين دخلوا المهنة مؤخرا رغم كفاءتهم المهنية والعلمية، خصوصا وأن العديد منهم حاصلون على شواهد الماستر والدكتوراه، وهو ما يتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص.
هذه فقط بعض النماذج من العيوب والنقائص الذي تضمنها مشروع القانون السابق، وهي كثيرة، لذلك فمستقبل التوثيق العدلي بالمغرب رهين بإصلاحه وفق مقاربة حقوقية تشاركية منسجمة مع ميثاق إصلاح منظومة العدالة ومع التوجيهات السامية للجلالة الملك حفظه الله مع الحفاظ على كرامة العدول رجالا ونساء، ومكانتهم، و ضمان تحديث المهنة بوسائل وآليات حديثة مثل CDG، دون المساس بجذورها التاريخية وامتدادها الحضاري العميق.



