ميكافيلية الاستشراق
هوية بريس – فرج كُندي
لشهرة عبارة السياسي الايطالي” نيقولا ميكافيللي ” ( 1469- 1527) في مجال السياسة ما ليس لغيرها من العبارات في نصيحته للأمير في كتابه ( الأمير ). التي عبر فيها عن ابشع صفة يمكن أن يتصف بها إنسان عادي ناهيك عن أن يرى ويدعو إلى أنه يجب على الحاكم أن يعتمد في إدارته للدولة ومعاملاته مع أعوانه قبل منافسيه وخصومه أن يتحلى بمبدأ ( الغاية تبرر الوسيلة ) وفق هذه العبارة البشعة البعيدة عن الاخلاق النبيلة والقيم الراقية والاعراف المحمودة .
بهذا الشعار الغير أخلاقي وبما يتضمنه من مبدأ فاسد ومنهج ساقط خالي من كل القيم الأخلاقية ؛ أصبح منهج حياة لكثير من الناس ولم يقتصر على الخواص , بل انتشر في السلوكيات اليومية لكثير من العوام واصحاب المصالح كانتشار النار في الهشيم اليابس في يوم صيف قائظ .
أبشع ما في هذه العبارة أو الفكرة الآ أخلاقية في ذاتها أن يتبناها ويجعلها عقيدة ومنهج من ينتسبون إلى العلم والبحث العلمي, أو من يطلقون عليهم الحياديين أو الموضوعيين, أو من هدفهم العلم لمجرد العلم وكشف المعارف الخ …. من الأسماء والصفات البعيدة والمتباعدة عن الحق والمجافية لواقعهم وحقيقتهم المخفية خلف واجهات كاذبة براقة .
وعلى رأس هؤلاء من يسمون ” المستشرقين ” وهم علماء غربيين مسيحيين كرسوا حياتهم وإمكانياتهم لدراسة الشرق بصفة عامة والإسلام والقرآن واللغة العربية بصورة خاصة, جندتهم دولهم وسخرت لهم كل الإمكانيات المادية و ” اللوجستية ” في فترة مبكرة من تفكير الغرب في غزو الشرق, واوكلت إليهم مهمة دراسة الشرق دراسة دقيقة ومعرفة مراكز قوته ونقاط ضعفه. ثم رفعها إلى جهات صنع القرار لمساعدتها في تسهيل الغزو و تمكنها من إدارة المستعمرات عن سابق معرفة دقيقة بأحوال كل مستعمرة ( دينيا واقتصاديا واجتماعيا ) كي تستعملها في تمرير وتقرير سلطتها على سكان المستعمرات الشرقية وخاصة الاسلامية منها .
وفي مرحلة متقدمة استخدمت الدول الاستعمارية الغربية المسيحية الاستشراق كسلاح ” هدم ” للإسلام بعد أن بدأ كمعول ” غزو ” من خلال اختيار شخصيا ذات مواصفات علمية خاصة مع انتماء عقدي متطرف يحمل حقد على الاسلام والمسلمين يجعله في حالة فصام بين الانتماء إلى الحقيقة العلمية , والعمل على خدمة عقيدته والتفاني في خدمة منهجه الهدام الذي كرس له حياته وأوقفها عليه لغرض تشويه الاسلام وسلب عقول ابناء المسلمين الوافدين للدراسات العربية والاسلامية, وتحويل عقولهم وفق خطط منهجية موضوعة من قبل المؤسسات العلمية الأوربية المتخصصة في العلوم الإسلامية والعربية ( اكاديميات استشراقيه متطورة ) شعارها المعلن ” التنوير” وواقعها المبرم ” التزوير” والمبرر هو ( الغاية تبر الوسيلة ) .
ومن امثلة هؤلاء المستشرقين الذين صنعتهم هذه المؤسسات على عينها و وجعلت منهم نجوما يأتيها ابناء العرب والمسلمين لاقتباس وتلقي العلوم الإسلامية ؛ المستشرق الفرنسي المعاصر ” لويس ماسينيون ” ( 1883- 1962) والذي في حقيقته يعتبر أهم صليبي ظهر في القرن العشرين رغم دهائه وتعمده إخفاء ” صليبيته ” التي تتطابق مع رؤيته الاستشراقية المعادية للإسلام والمسلمين .
فهذا المستشرق الفرنسي الصليبي الذي يُظهر الود لطلابه من المسلمين ويحرص على منحهم درجات علمية عليا, ويدعي الوداعة والاحترام للحضارة الاسلامية. كُشفت حقيقته بشهادته في وثيقة خطية تم العثور عليها عقب الغزو الأمريكي للعراق 2003 بعد أن نُهبت اثار العراق وسُرقت كُنوزه من المخطوطات والوثائق المهمة, ومنها رسالة كتبها” ماسينيون ” وارسلها إلى القسيس ” اللبناني الأب العراقي الأم والمولد ” ( 1866- 1949) و العضو بمجمع اللغة العربية والمجمع العلمي العراقي ” انستاس ماري الكرملي ” بتاريخ 6/ 11 / 1911 عبر فيها عن حقيقة موقفه الأخلاقي, وعقيدته وايمانه من قيام الاستعمار الإيطالي المسيحي بإعلان الحرب الصليبية الاستعمارية وقيامها بغزو ليبيا في سبتمبر 1911.
ومما جاء في رسالة هذا ” المستشرق” الذي يجمع بين الاستشراق والصليبية , وهذه الصفة هي الغالبة على معظم من ولج طريق الاستشراق إلا القليل, مخاطبا ” الأب انستاس الكرملي ” للاطمئنان على اوضاع المسيحيين في العراق بكونهم اقلية مسيحية, وبما أن غالبية الشعب العراقي مسلم, إذا ما كانت هناك رد فعل ضدهم حيال قيام ايطاليا المسيحية بالهجوم على الشعب الليبي المسلم فكتب (آمل أن لا يكون للحرب الإيطالية التركية رد فعل عنيف للغاية عليكم ؟ ) ثم ينتقد التصرف الذي قامت به ايطاليا ويصفه الغدر والرعونة في نفس الوقت فقال : ( إن النهج الذي اتبعته إيطاليا كان على ذات القدر من الغدر والرعونة معاً ) ثم يتجه نحو التعبير عن حقيقته وتوجهه وقناعاته الراسخة في أعماقه وهي ( الغاية تبرر الوسيلة ) فينطلق معبرا بالقول ( أن مصلحة أوربا والمسيحية وحدهما هما اللذان يجيزان أن نتمنى النجاح لمثل هذا الهجوم الغادر)!!!! .
إن ” ماسينيون ” وهو يخاطب مسيحي مثله ولكن ليس أوربي يحدثه عن ” المسيحية والأوربية ” والحقيقة إن الأوربية المسيحية هي المقام الأول في تفكيره ومنهجه ورؤيته, ولو كانت هذه الرسالة موجهة إلى قسيس أوربي لقام ماسينيون بحذف حرف( الواو ) للجمع بين المسيحية والأوربة وذكرها ” المسيحية الاوربية ” لأن مسيحية اوربا في اعتقاده وايمانه وتصوره تأتي في المقام الأعلى مع المسيحية الغير أوربية .
ولكن من باب مجاملة لمسيحي غير أوربي أراد ماسينيون أن يلاطفه فذكر أوربا تعصبا والمسيحية القاسم المشترك ملاطفة وتحبيب, وذكر القاسم المشترك بينه وبين صديقه الأب انستاس مع التعبير الدقيق في وصف الهجوم ( الغادر ) إلا أن الغاية والمصلحة من الغزو تبرر الوسيلة والطريقة مهما بلغت من غدر ورعونة على حد تعبير كل مستشرق ( ميكافيللي ) يؤمن بما آمن به وكرس له ” ماسينيون ” حياته.