ميلاد “الخبير”
هوية بريس – حميد بن خيبش
قد يكون من باب الدعابة لو دُعي خبير في العزف على البيانو لتلقين فتيات صغيرات دروسا في الحياكة. أو أن يقدم خبير في صنع الأدوية رأيا، من واقع خبرته تلك بطبيعة الحال، حول تعديلات على مدونة الانتخابات. سيكون الخبير بدون شك عرضة للسخرية لأن هناك قناعة بعدم انتقال الخبرة من مجال إلى آخر، وبالتالي ضرورة الاستعانة بالخبير في مجال تخصصه الذي قضى سنوات يمارسه، ويُعمق فهمه لاستيعاب قضاياه وإشكالاته، ويُمرّن قدراته في التشخيص وإيجاد الحلول.
لا يتعلق الأمر بالمهارة فقط، يقول الصحفي الكندي مالكوم جلادويل، وإنما بالفهم العميق الذي يتجاوز المعرفة الأساسية. ورغم أنه لا يوجد تقدير ثابت للمدة المطلوبة، إلا أن عشرة آلاف ساعة من الممارسة المنتظمة، هي بالتأكيد قاعدة ذهبية لتصبح خبيرا! نعم، عشرة آلاف ساعة أو عشر سنوات لنقبل بوصفك خبيرا، وليظهر تباين الأداء بينك وبين ممارس عادي.
إلا أن نظام التفاهة، كما يصفه آلان دونو في كتابه الشهير، ألغى كل القواعد التي لطالما تولت مهمة تشذيب المؤسسات ومواقع القرار من الطفيليات والأعشاب الضارة؛ معلنا ميلاد خبير “متحور”، قادر على إعادة التشكل داخل الحقول المعرفية، دون اعتبار للأضرار التي يحدثها على مستوى الفهم والوعي واتخاذ القرار.
كانت ثورة دونو على خبير في أوروبا وأمريكا ينتج المعرفة والتقنية، لكنه يضعهما في خدمة المال والسلطة، ويتاجر بضميره على حساب الحقيقة. أما في عالمنا العربي فخبراء الطفرة الرقمية لا ينتج أغلبهم سوى الثرثرة في مواقع التواصل الاجتماعي، أو على أثير إذاعات فاقدة للبوصلة.
يعلن الخبير في الحياة أن السعادة ليست مرتبطة دائما بالجانب المادي. وفي مدرج بكلية للعلوم، يقدم مثالا “عمليا” للبحث عن السعادة، حيث يطلب من الحاضرين أن يبحثوا عن الأشياء ذات اللون الأبيض، ثم عن أشياء ذات لون أحمر، ليقرر بعدها أن السعادة أو التعاسة يمكن العثور عليهما بنفس السهولة!
أما الخبير التربوي فلا تستوقفه نتائج الأبحاث والدراسات، ومعطيات العلوم العديدة والمتشابكة التي تستهدف تطوير العملية التربوية؛ وإنما يقرر بنزعة تبسيطية ساذجة، أن حل المشكلة التربوية أو الأسرية، أو حتى المهنية ممثلة في علاقة المدرسين بالجهات الوصية، تتلخص في المفاتيح السبعة، أو الخطوات الخمس، أو الوصايا العشر التي تفتقت عنها خبرته! وتهتز طبلة أذنك حين تسمع خلطة فريدة من الانطباعات والتمثلات، ورواسب حكم شرقية وأحاديث نبوية، يفسر الخبير دلالتها دون الحاجة للرجوع إلى مصادر!
ويوهم خبير العلاج بالطاقة متابعيه بالقوة الاستشفائية المتناثرة في الكون، والتي بإمكان عباراته المحفزة، ومفرداته العائمة أن تجلبها لتستقر في بدن المريض وروحه، وتخلصه من أشكال الطاقة السلبية المتعددة. ورغم أن الدراسات التطبيقية لم تثبت حتى الآن علمية هذا العلاج، واعتبرت أن التصرفات الرائجة في برامجه ودوراته خرافية تفتقر للمنطق العلمي، إلا أن الخبير لايزال يراهن على مخاوف الناس، وحاجتهم إلى بدائل تحقق الشفاء السريع وعودة الشيخ إلى صباه!
هيأت مواقع التواصل الاجتماعي فرصة ذهبية للخبير كي ينتصب وسيطا بين العلم الزائف، وحاجة الناس المتزايدة إلى حلول لمشاكلهم وهمومهم. يحاول إقناعك بأنه البديل الأنسب لطريق المعرفة الوعر والشاق، وأنه يعفيك من رحلة التعلم الطويلة والمرهقة التي لا يسمح بها الإيقاع المتسارع للحياة اليومية.
وبجرأة تدعو للدهشة، يحيط الخبراء بجوانب حياتنا كافة، ليعرضوا حلولا سحرية للنجاح والسعادة والحزن والشيخوخة، ويقدموا وصفات التخلص من الاضطرابات النفسية والإدمان والعلاقات الرومانسية الفاشلة ورهاب المرتفعات وغيرها؛ معتمدين في سعيهم ذاك على مئات، وربما آلاف المصطلحات الزائفة، وأنصاف الحقائق المضللة التي تتلاعب بالطبيعة الإنسانية، وتهدد بارتكاب حماقات واتخاذ قرارات مفجعة.
ربما لازال العديد منا يتذكر كيف انتشرت كتيبات الدكتور إبراهيم الفقي منذ أواخر التسعينات على الأرصفة، جنبا إلى جنب مع كتيبات تفسير الأحلام وأهوال القيامة. كانت أغلفة إصداراته مزينة بمفردات: خبير، ومفكر، ومحاضر عالمي، إلى جانب عدد كبير من الدبلومات في التسويق والمبيعات والتنمية البشرية.
تزامن الظهور الإعلامي للفقي في العالم العربي مع وضع اجتماعي متأجج، تغذيه احتجاجات الشباب المحبط بفعل البطالة، وغياب برامج سياسية واقتصادية محفزة. وكان أسلوبه الاستعراضي، وتقديمه لمسار حياته كنموذج مفعم بالأمل، بالإضافة إلى تأكيده المستمر على علمية ما يقدمه في عروضه ودوراته سببا في شهرته، وإقبال الشباب على جرعاته الحماسية التي لا تختلف كثيرا عن مشاهدة عرض مسرحي أو مباراة في كرة القدم.
فتح الفقي بابا على مصراعيه أمام “خبراء” يستعيرون أسلوبه، ونهجه التسويقي لما يعتبره استراتيجيات للعلاج النفسي، وضخ الأمل في محيط من اليأس. وساعد الاتساع الهائل لشبكة الانترنيت على مزج الخرافات بالحقائق، وظهور ما يصطلح عليه بعلم النفس الشعبي الذي يرتكز على مفاهيم مغلوطة، لها أربع خصائص رئيسية، بحسب أستاذ العلوم ديفيد هامر: (1) أفكار ثابتة عن العالم، (2) تتناقض مع أدلة ثبتت صحتها، (3) تؤثر في الطريقة التي يفهم بها الناس العالم، (4) لابد من تصحيحها لبلوغ المعرفة الصحيحة.
كان الخبير حتى زمن قريب، يسوّق منتجاته من خلال عروض ودورات مؤدى عنها. ثم سارعت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية إلى احتضان الوافد الجديد، وتقديمه كمنتوج مربح لمن قرروا اليوم المتاجرة بعالم الأفكار، والأحاسيس، وتوق الإنسان للإيمان ومعنى الحياة!