مَرْكَزِيَّةُ التَّعْلِيم فِي الإِصْلَاحِ.. الشَّيْخُ أَبُو شُعَيْب الدّكَّالِي النَّمُوذَجُ وَالْمِثَالُ (1295هـ-1356هـ/ 1878م-1937م)
هوية بريس – عبد العزيز الإدريسي
تَمْهِيد
تتَغيى هذه المقالَة الوقوف على جهود الشَّيخ أبي شعيب الدكالي في الإصلاح والنهضة، وأثر ذلك على المجتمع المغربي إن على المستوى الفكري أو السياسي أو الحضَاري، وبيان مواقف العلامة الدكالي في نُصرة الإسلام والدفاع عن حوزة الوطن ورموزه ومؤسساته.
بالإضافة إلى إبراز مَركزية التَّعليم في المشْروع الإصلاحي للشَّيخ الدكالي الذي يشَكل المُرتكزوالمعْلم فيكسْبه الإصلاحي والتغييري، فالشيخ الدكالي علَم من أعلام الأمة في النهضة والإصلاح، ورَائد من رُواد تحرير الوطن من أسْباب الجمود الفكري والوهَن الحضَاري، ومُناضل فذٌّ ضد الحماية والاحتِلال الأوربي للبِلاد، فمما حكاه العلامة محمد الحطاب، أنه سمع شيخه الإمام أبا شعيب الدكالي يقول في بعض دروسه الحديثية بمدينة الجديدة: “كنت أحد العلماء الذين يحضرون الدروس الحديثية التي كان يعقدها الملك عبد الحفيظ بالقصر الملكي بفاس قبل عقد الحماية، فصار جمع من العلماء الكبار يتناقشون حول التاء الواردة في قوله تعالى: ﴿قَالَتْ نَمْلَةٌ﴾[1]، هل هي للتأنيث أم للوحدة؟ فقلت: لهم لقد فرغ العلماء من البحث في هذا الموضوع منذ قرون عديدة، وكان ينبغيلنا نحنأن نبحث عن الطرق التي تمكننا من طرد الجيش الفرنسي الذي بدأ يحتل بلادنا منذ سنوات، وبلغني أنه وصل في هذا الأسبوع إلى سيدي “أبي عثمان” بقبيلة الرحامنة في طريقه إلى مدينة مراكش”[2]، قال الإمام عبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني معلقا على هذه الواقعة: “وهو كلام نفيس لا يصدر إلا من رواد الفكروقادة النهضة”[3].
اعتمد المنهج التَّعليميالذي يقوم على تدْريس العلوم الشرعية وتقريب الحقَائق الإيمانية في توظيف خلاق للعلم والعمل، ومُناهضة التَّقليدوالخرافات، من أجل يبصِّر الناسبصورة الواقع،فيسهم منمَوقعه في تربية المسْلمين على قيم العِلم والعمل وإيقاظ الفِكر منخلال تنقله في مدنوأرياف المغرب معلِّما ومدرسا في المسَاجد والمَدارس والمحافِل…
والعلاَّمة الدكالي بحق من الرُّواد الأوائل الذين تنبَهوا إلى حقيقة الصراع في البلاد الإسلامية، وأهم التَّحديات التي تواجه الأمة منأَجل النُّهوض الحضاري والانْبعاث من جدي، فقَد فقِه طبيعة العدو وخطورته، وأدرك أهمَّ العِلل والعوامل التي أدت إلى الضعف والهزيمة.
المحور الأول: أبو شُعيب الدّكالي: النَّشأة والثقَافة والوَعْي:
- المَولدُ والنَّشأة الصَّالحَة:
وُلد أبو شعيب الدكالييوم الخامس والعشرين من ذي القعدةعام خمسة وتسعين ومائتين وألف-25 ذي القعدة1295هـ/20أكتوبر 1878م، في بيت علم ومعرفة وصلاح، العلامة أبو شعيب الدكالي ينتمي إلى أسرة من أصول استوطنت قرية أولاد عَمْرو، بدوار الصّديقَات، قرب منْطقة الغربية بدكالة، وهي إحدى القبائل العربية العريقة.
وقد نشَأ الطفل الصغير في بيت علْم وتربية وصلاح، اشتهر بالعُلماء والصُّلحاء، فجده الشيخ عبْد العزيز، وعماه: أبو شُعيب ومحمد ابنا عبد العَزيز، كلهم كانوا من العلَماء النُّبهاء، خلال فترة حكم السُّلطان مولاي الحسَن الأول.
- العِلمُ والثَّقافَة الوَاسِعة:
تعهده والدُه بحسن الرعاية وأصَالة التربية، فلما وصل إلى سن التعلم اختار له فقيها خاصا به، هو السيد الشيخ محمد بن المعَاشي، فحفظ على يديه القرآن بالقراءات السبع[4]، ولما توفي أبوه سنة (1300هـ)، كفله عمه الشيخ العَالم محمد بن عبد العزيز الصَّديقي، الذي كان له الأثر البالغ الفضل الكبير في تعليمه وتلقينه، كما أخذ عن ولد عمه محمد بنعَزُّوز، وولد عمه الشيخ الطاهر قاضي مراكش، وكلهم كانوا من أهل العِلم والخير والمروءة.
يظْهر ويتأكد أن أسرة الدكالي أسرة علم أصِيل وخلق نَبيل، فهو يقول: “وإن عائلتنا تأبى أن تدَّعي نسبا، وربما ضربوا صغارهم على ادعائه، وجلهم يحفظ الحكم العطائية”[5].
ومن الأَحدَاث العظيمة في المسَارالعلمي والفكري للشَّيخ أبي شعيب ما حصل له سنة 1891م، ويحكيه: “حيث دعا السُّلطان المولى الحسن الأول من يحفظ مختصر الشيخ خليل لأجل الاختبار، فحضرت كغيري لمراكش، فاختبر الناس، فوجدت أحفظهم بين يدي الفَقيه الوزير المرْحوم السيد علي المسْفيوي، ثم قال لي: هل تحفظ القرآن؟ فقلت: نعم بالروايات السبع فأحضر من يعرفها، وقالوا لي: اقرأ، فقرأت: ﴿بسْم الله الرَّحمَن الرَّحِيم الرحْمن عَلَّم القُرآن﴾ بالقراءات، فظن الوزير أني عنيت ذلك، وأن الرحمن علمني مع الصغر، ثم أدخلت على السلطان مولاي الحسن،فقال لي: اعرب “الرُّمان حُلو حَامِض” فأعربتها، فقال لي: أنت فقيه ولسْت بنحوي، فقلت أنا أعلم بالنحومني بالفقه، ولكَّنه بمنزلة قول الشاعر:
يدَاك يد في الوَرَى خَيرها*****وأخْرى لأعْدائها غائِظة
فتعنت علي بعْض الحاضرين وقال: زد إيضاحا لسيدنا، فقلت وقصدته، هو بمنزلة ﴿والذين كذبوا بآياتنا صم بكم في الظلمات﴾[6] فضَحك السُّلطان كثيرا وأمر لي بصلتين وكسْوتين ولا يزال توقيعه بهما عندنا ونصه: “يضاعف لأبي شُعيبلصغر سنه وكبر فنه[7]“[8].
وقد تحققت للشَّيخ الموسوعية في المعارف والدقة في الفهم وقوة الاستيعاب بما يسر الله تعالى له من استعداد فِطري وهبي، ومن امْداد كسبي تمثل أساسا في أسرته العالمة، ومشايخه الكثر ورحلاته في طلب العلم وتبليغه تحملا وأداء، رواية ودراية.
فقد رحَل إلى مُراكش وهو لم يتَجاوز الثَّالث عشرة منعمره، تنقل بعد ذلك بين المدارس والزوايا متعلما ومتعبدا، فقصد: مدرسة المعَاشات، ومدرسة سيدي الزوين، ومدرسة الشماعية ثم بعد مدة رحل أبو شُعيب الدكالي إلى مدينة فاس بغية الغرف من حياض جامعة القرويين المتدفقة والأخذ من رياضها المزهرة،لكِن ظروفه لم تساعده، حيث مكث فيها ثمانية أشهر، ثم توجه إلى الريف المغربي، ومكث فيه مدة سنتين، حَيث حفِظ الموطأ بأسانيده وشَرع في حفظ صَحيح الإمام البُخاري.
- الرِّحلَة إلى المشْرق والوَعي بالمشْكلات الحَضارِيَّة:
تاقتْ نفس الشاب أبي شعيب للرحلة خارج المغرب فسافر سنة 1314هـ/1896م إلى مصر فمكث فيها طالبا بجَامع الأزهر الشريف مُدة ست سنوات، بما كان يشَكل جامع الأزهر من مَرجعية عِليمة ودينية وقتئذ، هذه السَّنوات كانت من أخْصب سنوات حياته الدِّراسية، أخذ خلالها عن عَدد من جلة عُلماء الأزْهر.
ولكن في الوقت نفسه كان الدكالي يلاحظ تراجع الدولة العثمانية بسبب التَّدخل المبَاشر للقوى الإستعمارية، خصوصا التدخل الإنجليزي الذي يفرض وجوده بالقوة والسلاح والاقتِصادي[9].
ثم رحل إلى أرض الحجاز بأمر من شَيخه بجَامع الأزْهر سليم البِشري[10] 1385هـ الذي رشَّحه لتولي مهمة الإمامة، والخطابة، والإفتاء، والتَّدريس في بلاد الحرمين الشريفين، ومكثَ مدة طويلة، حيث حَظي عند أمير مكة “عون الرفيق باشا” بالمكانة اللائقة والمباءة العظيمة، فأكرمه وبالغ في احترامه وتقديره، وقدَّمه في مجالس العلم، ونوادي العلماء، وهناك في مكة المكرمة أنجب عددًا من أولاده، وخلال هذه المجاورة المباركة لبيت الله الحرام، أجازه عدد من علماء المسلمين الكبار الوافدين على بيت الله الحرام، من اليمن، والشام، والعراق، والهند، فتم له بذلك ما لم يجتمع لغيره، وغدا بحق وجدارة أوحد عصره، وشيخ إسلام زمانه.
وفي سنة 1328هـ/1910م قفل الشيخ راجعا إلى بلده المغرب بدعوة ملحة وكريمة من السُّلطان المولى عبد الحفيظ، وقد انتشَر صيته واشتهر أمره، فحَظي بالإجْلال والاحترام لدى سَلاطين الدولة العلوية، فولاه السُّلطان المولى عبدالحفِيظ رئاسة الدروس الحَديثية العليا التي كَانت تُلقى بحضْرته بفَاس، وولاَّه بعد ذلك منْصب القَضاء بمَدينة مُراكش.
ومكَّنته هذه الرحلة الطويلة من التَّبحر في العلوم وضَبط مختلف الفنون،إلى جَانب ما كان يتَمتع به من ذَكاء متقد، وذاكِرةٍ قَوية، حَتَّى غدا آية في حِفظ الأحَاديث والآثَار، واستحضار المعاني والاخبار، والاطلاع على أقوال العلماء فيها، فقد حاز الإمامة في علوم الحديثِ والسنة، رواية ودراية، وضبط الخلاف العالي، والتبحر في علوم القُرآن وقراءاته، وإعرَابه وتفسيرِه، وأحكامه وبلاغته، والتمكن من فِقه اللسَّان العَربي بأنواعه وَفُنونه.
المحور الثاني: التعليم مدخلا للإصلاح عند العلامة أبي شعيب الدكالي.
1- مَسْؤُوليَاته وَوظَائِفه:
إبَّان عودة الشَّيخ منبِلاد المشرق تقلَّد عدة منَاصب سَامية ومسْؤوليات مرمُوقة منها:
- خِطة القضاء بمراكش سنة 1329هـ في عهد السلطان عبد الحفيظ.
- إدارة وزارة المعارف والشؤون العدلية سنة 1330هـ.
- رئاسة المجلس الاستئنافي الشرعي (1332هـ) في عهد السلطان المولى يوسف.
- تولي الشيخ لوزارة العدل.
وبعد سنوات من الخدمة الجليلة قدم استقالته من الوظائف الرسمية عام 1342هـ، ليتفرغ للتعليم والتدريس، والدعوة إلى الإصلاح في المغرب وخارجه، إلى أن توفاه الله تعالى يوم الجمعة 7جمادى الأولى 1356هـ/16 يوليوز 1937م.
2- آثَارُه، وتَلامِيذُه:
لقد صرف الشيخ الدكالي هِمته ووقتَه وجُهده إلى صناعة الرجال العلماء، الذين سيكون لهم الأثر الكبير في توجيه مسيرة المغرب وقتئذ العلمية والسياسية والثقافية، بدل تأليف الكتب، لأنه واجب الوقت، يقول الدكتور عباس الجراري: “اتخذ التدريس وسيلةً لأنه لم يكن كاتبًا، وحتى لو أنه أراد أن يكتب لأَعْوَزَتْهُ وسائل النشر في هذه المرحلة، وهو واعٍ بالواقع لجأ إلى التدريس باعتباره وسيلة للتبليغ[11]“، فيما يرى تلميذه الآخر العلامة عبد الله كنون أن مكانة العالم ليست بالتأليف؛ وإنما بالآثار التي يخلفها لدى أتباعه، يقول في كتابه: “التّعاشيب”: “أما الكتب فليس بلازم أن يكون للعالم كتب، وأن يخلف آثارا، قام بمهمة التأليف والبلاغ… وكذلك ألسنا كلنا كتبا وآثارا لفقيدنا العظيم”[12].
وفي هذا الصدد نستحضر الحكمة الصينية التي تقول لا تسأل البطل ولكن اسأل عن أستاذه ومعلمه، فجيل كامل من العلماء الكبار الذي دمغوا محطة من أهم وأخطر محطات المغرب الحديث والمعاصر، هم طلبة وتلاميذ[13] للشيخ أبي شعيب الدكالي، وهذه طائفة منهم[14]:
- المؤرَخ محمد بن عبد السلام السَّائح الرباطي (1368هـ).
- الشيخ محمد الحجُّوجي الفاسي الحسني الدّمْنَاتي (1370هـ).
- الوزير محمد بن الحسن الحَجْوي الفاسي (1376هـ).
- القاضي المحدث الفقيه الأديب محمد الـمَدَني بن الغازي بن الـحُسْنِي العَلَمي (1378هـ).
- المؤرخ وزير المعارف والأوقاف رضا الله محمد المختار السوسي (1383هـ).
- العلامة المشارك القاضي عبد الحفيظ بن الطاهر الفاسي الفهري (ت1383هـ).
- العلامة الشريف محمد بن العربي العلوي (1384هـ).
- الشاعر الأديب محمد الجزولي (1393هـ).
- العلامة المناضل علال الفاسي (1394هـ.).
- العلامة محمد العابد الفاسي (1395هـ).
- العلامة المؤرخ عبد السلام بن عبد القادر ابن سودة المري (1400هـ).
- العلامة الأديب عبد الله الـجراري(1402هـ).
- العلامة المؤرخ محمد بن داود التطواني (1404هـ).
- الشيخ المحدث الرَّحّالي الفَارُوقي السّرغِيني (1405هـ).
- العلامة الأديب عبد الله كَنون (1409هـ).
- الأستاذ البحاثة إبراهيم بن محمد الكتاني (1411هـ).
- العلامة المفسر محمد المكي الناصري (1414هـ).
- محمد بن أحمد العبدي الكانوني
- عبد الرحمن بن أبي شعيب الدكالي
وقد ذكر الدكتور محمد رياض في كتابه المشار إليه في الهامش 221 من العلماء الكبار الذي تتلمذوا على يد شيخ الإسلام في مختلف المدن المغربية، هذه المخرجات العظيمة والهائلة تفرض علينا أن نطرح الأسئلة الآتية: كيف أثر الشيخ في هؤلاء الرجال؟ وما هو المنهج التربوي المعتمد في التدريس؟ وإلى أي حد يمكن أن نفيد منه في هذا العصر؟ وما هي معالم منهجه الإصلاحي من خلال مدخل التعليم؟
3- المَنهَج الإصْلاحي للشَّيخ من خِلال مدْخل التَّعليم
في نظري المتواضع إن أي عملية أو تغيير أو نهوض أو إصلاح لا يمكن أن تتم خارج مواقع التربية وفضاءات التعليم، فالواقع والتاريخ والتجربة الأمة الذاتية والأمم العالمية، تؤكد أن التربية والتعليم هي السبيل الأوحد والمنهج الأسلم والطريق الأقوم لتحقيق نهضة شاملة وإصلاح كامل.
ولا شك أن محور العملية التعليمية-التعلمية هو المعلم، ولذلك فإن أي استهداف لرمز العلم والتربية، أو الحط من قيمته، أو سوء اختياره، أو اهدار لمكانته الاجتماعية بين فئات المجتمع، مؤذن بالفشل الذريع، لأن أداة التعليم ووسيلة التربية هو الأستاذ، الذي يجب أن يضطلع بأدواره الحضارية الكبرى في صناعة الإنسان وبناء العمران. فما هي أهم معالم المنهج الإصلاحي في التعليم عن شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي؟
اَلمعْلَمُ الأوَّل: الاشْتِغَالُ فِي التَّدريس علَى نُصُوص الوَحْي أوَّلا
انشرت في عهد الشيخ مقولة خطيرة مفادها “أن تفسير القرآن يؤدي إلى موت السلطان” فرد الشيخ عليهم ردا علميا وعمليا من خِلال دروس التفسير التي قدمها في المسَاجد والمدارس، مؤكدا أن “تفسير القرآن يؤدي إلى حياة السلطان وإلى موت الشيطان”[15].
ثم اشتغل على تدريس الحديث رواية ودراية، فبعد أن كانت متُون الحديث تسرد تبركا دون فقه أو بيان، عقد الشيخ العزم على تدريس كتب السنة ونشر علومها وفوائدها على أوسع نطاق فرحل إلى أغلب مدن المغرب مبَلغا وشارحا ومدرسا، يقول الأستاذ محمَّد الجزولي: “إن هذا الرجل العظيم قد خدم المغرب في مجالسه هذه، وأحسن إليه الإحسْان الذي لا قبله ولا بعده، وقد أيقَظ فيه المعرفة والعلم، ووجه اهلاه لمدارسة الحديث، وتفهم معانيه، ومقاصده، عوض أن يتلى للتبرك بتلاوته، وجرأهم على التفسير، وعُلوم القرآن، وأحيا فيهم روح الواقعية، ودفعهم إلى الصعود بالأمة إلى مراقي العز والكرامة”[16].
قلت: إن الشيخ اعتمد المصْدرية القرآنية والنَّبوية في التدريس أولا، لأنها تضمن السلامة من الأمراض الفكرية والعلل التربوية والانحرافات السلوكية، بل إنها العَاصمة من الفتَن قال الرسُّول عليه الصَّلاة والسَّلام: “تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا، حتى يردا علي الحوض”[17]، بشرط إحسان توظيف نصُوص الوحي بضوابطها الشرعية وقواعدها المنهجية في التفسير والشرح، استنباطا وتنزيلا.
وفي هذا السِّياق لم يقتصر الشيخ الجليل على تدريس القرآن الكريم وتفسيره، والحديث وعلومه، بل كان الشيخ مهتما بتدريس الفقه فُروعا وأصولا، من خِلال بِناء الاحكام على أدلتِها، مخالفا ما تواضع عليه فقهاء العصر من الاقتصار على الفروع والأحكام، دو ن الأدِلة، فدرَّس الشَّيخُ مختصر خليل الذي كان يحفظه عن ظهر قلب. بأدلته وأصوله، يقول الدكتور محمد رياض: “ولم تكن هذه الطريقة في التدريس معروفة آنذاك في المغرب من لدن شيوخ العلم، حيث كانوا يقْتصرون على الفروع المجردة مع حكاية الخلاف حولها داخل المذهب، فأحيا الشيخ بهذا الصَّنيع عملية ربط الفُروع بأصلها، وتمكن الناس من فهم الفقه بأدلته المبنية عليه مما جعل المختار السوسي لما سمع من الشيخ شُعيب ما سمع وهو يتبع النهج الذي ذكر في جامع ابن يوسف العامر: “أن هذا قحلاوة الفقه بصنيعه هذا[18]“.
اَلمعْلَمُ الثَّانِي: العَمَل علَى اكْتِشَافِ المَواهِبِ وَاعْدَادِ الرَّوَاحِل
كما رأينا سَالفا فإن العلامة الدكالي لم يؤلف كتبا، وإنما صنع رجال وصاغ أبطالا، أثروا الحياة العلمية والثقافية والسياسية للمجتمع المغربي، وهذا راجع بالأساس إلى قدرته على اكتشاف المواهب واعداد الخلف الذي يحمل المشعل ويكمل المشوار، يقُول تلميذُه عبد الله كنون: “إن مكاَنة العالم ليسَتْ بالتأليف وإنمَّا بالآثار الذي يخلفها لدَى أتباعه، وأما الكُتب فليسَ بلازم أنْ يكون للعالم كُتب وأن يخلف آثارا قام بمهمة التأليف والبلاغ…وكذلكألسْناكلناكتباوآثارالفقيدناالعَظيم (يقصدالشيخشعيبا”[19].
وهذا من فقه الرجل العميق، وإدراكه للواقع بكل احتياجاته وحيثياته، فقد كان رحمه الله يعتمد المنهج النبوي في التربية والتعليم في اعداد الرجال، حيث اعتمد “التربية المنبرية”[20] في التأطير العام، و”التربية الأرقمية”[21] في التأطير لخاص وتخريج العلماء الرواحل، يقول عنه تلميذه الأستاذ عبد الله الجراري”… يكون قد ضرب الرقم القياسي في الوطنية الحقة التي تتجلى في التكوين الصالح، وتربية النفوس على المثل العليا، وجعلها في خدمة البلاد، والحفاظ بالطبع على مقوماتها دينا وسياسة واقتصادا،…”[22].
اَلمعْلَمُ الثَّالِثُ: التَّمْكِين للغة العَربية والدِّفَاع عنْها
كان الشَّيخ الدكالي عاشقا للغة العربية، فهي لغة الدين ولسان الكتَاب المبين، وكان يحتفل بها تدريسا لمتونها الأصيلة ومظانها العديدة، ومما جاء في خطاب له بمدينة فاس صُحبة المولى يوسف:” تعَلموا اللُّغة العربية لغَة القرآن لغة الإسلام لغة الإيمان لغة النَّبي إمام أهل العرفان لغة سلفنا المرْحومين،
حـــــفظ اللــغات علينا***فرض كحفظ الصــــلاة
فليس يحفظ ديــــــــن***إلا بحفظ اللـــــــــغات
كان سلفَكم يمدحون ويقدحون، ويرفعون ويضعون، ويشجعون الجبان ويطلقون يد البخيل الجعد البنان، فكونوا بهم من المقتدين، فما قرأتُ في الاسفار وما رأيت في الاسفار، لما خضْت البحار وجبت الأقطار، أقبح من المذَبذَبينَ وأعني بهم من ترك دينه ولغته…”[23].
ولذلك كان الشَّيخ منأشد المعارضين للظَّهير البربري الذِّي أصدرته سلطات الاحْتلال الفرنسي، وأول الموقعين ضده، لأن الظَّهير يمس وحدة الوطن ولُغته وشريعته وكيانه.
اَلمعْلَمُ الرَّابِع: التَّواضُع والسَّماحة في تلَقي وتلقين العِلْم
مما حكاه تلميذهُ العلامة المختار السوسي نقْلا عنه، في كتابه “مدارس سوس العتيقة”، أن الشيخ أبا شعيب كان يلقى مرة درسا من “كامل المبرد” في الجامع الأزهر، فجاءت كلمة “”﴿جذْوَة﴾، فنطق بها بالدال المهملة، وقال: إن هذه اللفظة في القُرآن، وقال: فقال لي أعمى قاعد إزائي، لا أيها الشيخ ليست هذه اللفظة في القرآن، قال فقلت له: أين من قوله الله: ﴿لَعَلي آتيكُم مِنِهَا بخبَرٍ أوْ جذْوة من النار لَعَلَّكم تَصْطَلون﴾[24]،قال: فقال لي: هذه جذوة بالذال المعجمة، وأنت تنطق بها مهملة، وهذه غير تلك، قال: فصرت من ذلك النهار أعتني بالإعجام، حتى تمرن لساني”[25].
قلت: هذا سُلوك لا يصدر إلا عنعَالم رباني ريَّان من علوم الشريعة، متَخلق بحقَائقها وأنوارها، بالإضَافة إلى ذلك، فهو عالم ميسر يقول الأستاذ أبوبكر القادري:”كان رحمه الله يعرض ويهاجم أحيانا ولكن بالنُّكتة الهادفة والنَّادرة الموجهة فينفذ قوله إلى الأعْمَاق من غير أن يثير حزازة في النفوس أو يكون سببا في الانقطاع والتنطع”، وفي هذا السياق يقارن أبو بكر القادري بين منهج أبي شعيب الدكالي في المنهج التعليمي والدعوي وتلميذه الشيخ محمد بن العربي العلوي قائلا: “تجاوب الطلبة الشباب مع كل هذه الأفكار التي تزعمها الشيخان، وإن كانت لغة خطابهما مختلفة: فالشيخ شعيب كان يلمح ويعرض دون أن يصرح والفقيه ابن العربي كان يهاجم ويخاصم ويشتد دون تحفظ، وهذا ما جعل الكثيرين من الفقهاء المتزمتين يناصبون ابن العربي العداء، ولا يتعرضون للشيخ شعيب الدكالي بمقالة سوء.[26]”
خَاتِمَة:
لقد حمل شَيخ الإسْلام همَّ الإسْلام في فكره وروحه، فاجتهد في خدمته وتبليغه وتدريس عُلومه من أجل التصدي للمستعمر الغَاشم، وإحياء الأمة بالرُّجوع إلى مصدر عزتها ومعين نهضتها، وقد جاء مدخل التعليم في المنهج الإصلاحي للشَّيخ أبي شعيب الدكَالي موجها للمُسلم انطلاقا من رؤية شاملة تعمل على تنوير العقول وشحذ الهمَم نحو التحرر والعَمل على تحقيق مقاصد الإسلام، كيف لا وهو الملقب بـ”محمد عبده المغربي”.
لائحة المصادر والمراجع
- آسفي وما إليه قديما وحديثا:لأبي عبد الله محمد بن أحمد العبدي الكانوني، ط1، دون تأريخ.
- التعاشيب:لعبد الله كنون، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1979م.
- 7 الحركة السلفية الإسلامية بالمغرب ونزول الشيخ أبي شعيب الدكالي بالرباط :لمحمد بن عبد السلام السائح، مجلة دعوة الحق السنة 12 العدد 2.
- الشيخ أبو شعيب الدكالي: أكاديمية علمية تسير على رجليها، وتغير معها مجرى التاريخ: لعبد الحكيم بركاش، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط ط1، 1989م.
- شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي الصديقي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية، مع ذكر ثلة من تلاميذه وآثاره: د. محمد رياض، ط1، 1426هـ/2005م.
- المحدث الحافظ أبو شعيب الدكالي: لعبد الله الجراري، ضمن سلسلة شخصيات مغربية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء 1396هـ /1976م.
- مع المعاصرين: أسماء وآثار في الذاكرة والقلب: د. عباس الجراري، من منشورات النادي الجراري، مطبعة الأمنية، الرباط، ط1، 1431 ﻫ/ 2009م.
- من أعلام المغرب العربي في القرن الرابع عشر: لعبد الرحمن الباقر الكتاني، دار البيارق، ط1، 2001م.
- نظم الدرر واللآلئ في ترجمة أبي شعيب الدكالي: مقال لمحمد عز الدين المعيار الإدريسي، منشور في مجلة دعوة الحق، العدد 294 جمادى 1-جمادى 2/ نونبر-دجنبر 1992م.
والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمٍين
عبد العزيز الإدريسي-حاضرة المحيط -أسفي
جمادى الآخر1440هـ/ مارس2019
[1]– سورةالنمل، الآية: 18.
[2] – محمد رياض، شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية، طبعة 1430ه/2009مالجزء الأول ص296
[3]– عبد الرحمن بن محمد الباقر الكتاني، من أعلام المغرب العربي في القرن الرابع عشر، ص207.
[4]– حفظ كتاب الله إلا خمسة أجزاء وهو في سن الخامسة. حسب ما وثقه ابنه العالم عبد الرحمن الدكالي في ترجمته لوالده.
[5]-محمد رياض، شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية، الجزء الأول ص:99
[6]-سورة الأنعام، الآية :39.
[7]– بهذه المناسبة حصل الطفل أبو شعيب على منحة مولوية من أجل دراسة مختصر الشيخ خليل بشرح الدردير.
[8]-محمد رياض، شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية، الجزء الأول ص:99-100.
[9]– المرجع السابق، ص: 123.
[10]– شيخ الإسلام سليم بن أبي فراج البشري، عُين شيخا للسادة المالكية بالأزهر الشريف، ثم شيخا للأزهر الشريف، توفي 1335ه .
[11]– عباس الجراري،مع المعاصرين: أسماءوآثارفيالذاكرةوالقلب،منشوراتالناديالجراري،مطبعةالأمنية،الرباط،ط1، 1431 ﻫ/ 2009م، ص:166.
[12]-عبد الله كنون، التعاشيب، دار الكتاب اللبناني، بيروت,طبعة 1979م، ص:91.
[13]-بل له تلاميذ وطلبة في مختلف البلاد الإسلامية، فعند مكوثه في مصر تتلمذ عليه العشرات وفي مكة تتلمذ عليه المآت،
[14]– للتوسع أكثر، انظر:
– محمد بن الفاطمي السلمي، اتحاف ذوي العلم والرسوخ بتراجم من أخذت عنه من الشيوخ، دار الطباعة الحديثة، الدار البيضاء، 1398ه/1978.
– محمد بن الفاطمي السلمي، إسعاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين، الطبعة الأولى 1424ه/1992.
[15]– رياض ص:352.
[16]– رياض ص:382.
[17]– أخرجه الحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم:1761.
[18]– ص 430 الجزء الاول
[19]– عبد الله كنون، التعاشيب،ص:91.
[20]-فريد الأنصاري، التوحيد والوساطة في التربية الدعوية، كتاب الأمة، الطبعة الأولى، 1416هـ، الجزء الأول،ص:79.
[21]– المرجع نفسه، ص:92.
[22]– محمد رياض، ص :438.
[23]– محمد رياض، ص: 439.
[24]– سورةالقصص، الآية:29.
[25]– المختار السوسي، مدارس سوس العتيقة، ص35.
[26]– محمد رياض، مرجع سابق، ج1 ص171:
حفظك الله اخي العزيز ورعاك على هذا المقال المعبر والذي تستحضر فيه سيرة ومناقب منارة علم من أعلام المغرب أبي شعيب الدكالي الذي تجهله وتجهل سيرته الغالبية العظمى من أبناء المغرب, شكرا لكم على هذه الالتفاتة الثمينة والتي سبرت أغوارا ما كان لجوارينا أن تبحر في يمها وترصد كنوز أعماقهاوتعيش لحظات ماض نحن في حاجة لتدبرها علها تنير لنا طريق مستقبل زاهر ينهل من ماض مجيد وحاضر اعتدال ووسطية ,