مِن الأحاديث الآذِنة بكتابة الحديث النبوي (1):
هوية بريس – نبيل صبحي
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: “كنتُ أكتُبُ كلَّ شيءٍ أسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أُريدُ حِفْظَهُ، فنهَتْني قريشٌ، وقالوا: أتكتُبُ كلَّ شيءٍ تسمَعُهُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشَرٌ يتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا؟! فأمسَكْتُ عَنِ الكِتابِ، فذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأَوْمأَ بإِصْبَعِهِ إلى فِيهِ، فقال: (اكتُبْ؛ فوالذي نفْسي بيدِهِ، ما يخرُجُ منه إلَّا حقٌّ).
أخرجه أحمد وأبو داود. صحَّحه أحمد شاكر في تخريجه لأحاديث المُسنَد، وصحَّحه الألباني في صحيح أبي داود.
استنتاجات:
1- لا تَعارُضَ بين أحاديث النهي عن الكتابة والآذنة بها؛ إذ أحاديث النهي مرتبطة بعِلة يدور معها الحكم وجودا وعدما؛
2- يؤيد هذا أنّ أصْرَحَ حديث في النهي عن الكتابة- وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه- جاء في آخره (…وحَدِّثوا عني ولا حرج) أخرجه مسلم. فالنهي ليس عن عموم التوثيق والضبط؛ وإنما عن توثيق خاص وهو الكتابة التي أَذِن فيها النبي صلى الله عليه وسلم لعدد من الصحابة؛
3- نقل السُّنة النبوية(الأقوال والأفعال والتقريرات) إذا لم يكن مستفيضا عن طريق الكتابة في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان ذلك عن طريق التبليغ والتحديث به استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم السابق(…حدثوا عني ولا حرج)، وقوله: (بَلِّغوا عني ولو آية)، وقوله في حجة الوداع أمام ما يزيد بكثير عن مائة ألف (…ألَا فليُبَلِّغ الشاهد منكم الغائب)، وغيرها من الأحاديث التي تجري هذا المجرى؛
4- التحديث والتبليغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمنه يسمح بشيوع الحديث وتعدد حَفَظته؛ بل إن الأمر يتعداه حين شيوعه – كيفما كانت درجة هذا الشيوع- إلى صياغة جَمْعية للمواقف والأحوال والأفعال على وفق مضمون الحديث وتوجيهاته؛ فقد كانت الحياة تتشكل وتصاغ بالقرآن الكريم وبأنموذجه الأسمى في التنزيل العملي والتطبيق الفعلي وهو الرسول صلى الله عليه وسلم؛
5- لَمَّا كان نقل السنة النبوية لَم يقف عند البلاغ التحديثي؛ بل تعدّاه إلى الاقتداء العملي بالرسول صلى الله عليه وسلم في جميع شأنه وأحواله، وهو ما حصل به ما يمكن تسميته ب “التواتر العملي”؛ فقد كان إجماعا بعد إجماع، وجيلا بعد جيل من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمنا الحالي؛ كما الشأن مع الصلاة في وجوبها وعموم كيفية إقامتها، ووجوب الزكاة ومقاديرها، وركنية الحج ومجمل أفعاله، وعدم جواز صيام الحائض، ومعنى اللباس الشرعي للمرأة، وقِسْ على هذا كل ما يدخل في باب ما تعُمُّ به البلوى؛ أي ليس مما يفعله القلة من الناس، أو يقوم به البعض دون البعض الآخر فلا يعلمه كل الناس؛
6- لا يمكن للتواتر العملي في النقل أن ينخرم بتشكيك آحادٍ مغمورين من الناس؛ فالصلاة مثلا صلاها الآلاف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلاها مَن بعدَه صلى الله عليه وسلم اتباعا وائتماما بمن صلاها خلفه، وهكذا، فلا يمكن إيقاع صلاة على غير ما سَنَّه وبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا إذا وقع التشكيك في منزلة السنة النبوية ومقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يصل الصلاة كما أمره ربه جل وعلا!.
يقول الله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [سورة الأحزاب: 21]؛ فالـمَدخل إلى نيل مرضاة الله تعالى والنجاة يوم القيامة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.