نبش “عصيد” في “قبور المسلمين”.. غيرة على قبور الأموات أم نبش في عقائد الأحياء؟
هوية بريس – محمد زاوي
نادى أحمد عصيد في الناس: أنْ قد نبش المسلمون قبورهم.
فلننقذ أمواتنا من عنفٍ لم يسلموا منه هم والأحياء، فلنقل الحقيقة ولنبحث في تاريخنا عن نكستنا.
في تديننا خلل كبير، فلم نجنِ منه إلا نبش القبور وقمع الأقليات والتضييق على الحريات وكل الآفات…
هكذا يتكلم عصيد ظنّا منه أنه يتكلم في التاريخ، أو على الأقل، في “التنوير” وما يطلبه من تكسير للطابوهات وخوض لغمار المسكوت عنه.
والتاريخ هو ما لم يتكلم فيه عصيد، لأن التاريخ مهنة ونظر بالنسبة للمؤرخ، ومنطق وقواعد بالنسبة لفيلسوف التاريخ.
******
وأما عصيد فقد عاد إلى بعض كتب التاريخ مقتبسا على وجه الانتقاء وقراءة الأحداث بالرأي الخاص، ونحن نسائله: أين هي “الشواهد” التي اعتمدها في التأريخ للأحداث؟ وما حظه من الأسطوغرافيا؟
سيجيب عصيد أنه وجد ذلك في كتب التاريخ الإسلامي، فنعترض عليه بقولنا: أغلب كتب التاريخ الإسلامي اعتمدت التاريخ بالخبر المروي، ولا يخفى على كل مبتدئ في التاريخ أن الخبر المروي قد يكون معيبا فيها من جهتين:
– فالمؤرخون بالمروي كثيرا ما يهملون نقد السند (طريق الرواية) كما يفعل المحدثون، ولذلك يجمعون في كتبهم صحيح الرواية وغيره.
– والتأريخ بالمروي لا يُغني عن باقي المناهج الأخرى للتأريخ، كالتأريخ: بالأثر الطبيعي، بالتمثال، بالعهد، بالموروث… (1)
******
وقد التفت عصيد عن جوهر التاريخ بالهامشي فيه، في حين أن منطق الفيلسوف لا يبحث إلا عن الأساسي ليفسر به المرحلة التاريخية كلها. فالخلل في التدين ليس خللا في الدين أصالة، وإنما هو خلل في علاقات الإنتاج بين الناس، وعلى أساس هذه العلاقات يتحدد الأساسي/الجوهري من عدمه.
وليس منطقه بمنطق الأنثروبولجي أيضا، فهذا الأخير يبحث عن جذور كل فعل بشري في التاريخ العام للبشر قبل أن يتفرقوا أو بعد أن تفرقوا قبل التاريخ (2).
وليس منطقه بمنطق السوسيولوجي، فهذا يدرس العلاقة الجدلية بين تدين الأفراد (أو إيديولوجياتهم الدينية) وبين سلوكهم الاجتماعي. فتارة يؤثر الأول في الثاني، وتارة يؤثر الثاني في الأول. أما البنى التحتية المحددة للتدين (3) والسلوك الاجتماعي، فرصدها من اختصاص الاقتصاد السياسي.
وليس منطقه بمنطق المحلل النفساني، لأن هذا الأخير يدرس القابليات النفسية اللاواعية لتبني بعض الأفعال الشاذة وإضفاء الطابع القدسي عليها. يهتم المحلل النفساني باللاوعي، فرديا كان أو جماعيا، فيما يهتم رواد مدرسة النقد في التحليل النفسي (4)بعلاقة السيكولوجي بالتاريخي، تلك العلاقة التي أهملها فرويد إلا نادرا.
وليس منطقه بمنطق عالم الأديان، فهذا لا ينهال على دين واحد أو نمط معين من التدين بالتنقيص، وإنما يسعى جاهدا إلى المقارنة بين دين وآخر، وكذا رصد نشأة الأديان وتطورها عبر التاريخ وقبله.
نبش القبور إذن، سلوك إنسان له جذور قبتاريخية، إنسان يعيش في مجتمع ويتأثر بعوامله السوسيولوجية، إنسان متدين تتدخل في تدينه عدة عوامل، إنسان له لا وعي خاص به وخاضع للاوعي جماعي له تاريخ، إنسان يدخل في علاقة إنتاج مع غيره داخل أسلوب إنتاج معين… هذا هو الإنسان الذي لم يكترث إليه “داعية التنوير”، فصب جام غضبه على ما يسميه “نمطا من التدين”، وكأن هذا النمط منفصل عن كل ما ذكِر أعلاه، وكأن الحل يكمن في التخلي عن هذا النمط من علٍ
******
أليس في تاريخ الإسلام إلا نبش القبور؟ أليس فيه نقلا للبشرية كلها من نظام اجتماعي إلى نظام اجتماعي أرقى منه؟ أليس فيه تكريما للنساء، وتحريرا للعبيد، وحثا على العمل؟
ألم يحث الإسلام على إعمار القبور والاعتناء بها وامتثال آدابها؟
ألم يغلب على تاريخ الإسلام الإعمار والاعتناء وامتثال الآداب أكثر من أي فعل آخر؟
أليس من العيب أن نركز على الشاذ وفي كل مدينة من مدننا، أو قرية من قرانا، ما ينفيه ويخفيه؟
ويبقى السؤال حائرا:
كيف يدعي بعضهم العلمية وقد: جهلوا بمناهج المؤرخين، أهملوا التناقض الرئيس في كل مرحلة من مراحل التاريخ، لم يبدوا اطلاعا على السوسيولوجيا أو الأنثروبولوجيا أو السيكولوجيا، غردوا خارج شرطهم التاريخي الخاص (المغرب والوطن العربي) والعام (عالم الرأسمالية المتوحشة)، لم يتمكنوا من صنعة الفقهاء لا وجادة ولا مجالسة…؟
كيف يتجرأ هؤلاء وما رصيدهم إلا بعض ألفاظ لا تحدّد كما يجب: العقلانية، التنوير، الحداثة، العلمانية، المدنية…؟
المراجع:
(1): عبد الله العروي، مفهوم التاريخ، المركز الثقافي العربي، الطبعة الخامسة، 2012، القسم الثالث.
(2): جغرافيا، أو بفعل التقسيمات الأولى للعمل: بين رجل وامرة، بين رعاة وزراع، بين هؤلاء والحرفيين الأوائل.
(3): والتدين غير الدين: الأول ظاهرة تاريخية، والثاني ظاهرة وجودية.
(4): ومنهم: وليام رايخ، إيريك فروم… فهؤلاء ينتقدون على فرويد محافظته في التحليل النفسي، فذلك في نظرهم عزل للاوعي عن شرطه التاريخي. ومن ثم فالرهان على تغيير العالم عن طريق “الوعي باللاوعي”، بالنسبة إليهم، طموح مثالي. يؤثر اللاوعي في سلوك الإنسان داخل وفي إطار علاقات إنتاج بعينها، ولكنه لا يتحدد إلا بها ولا تحصل طفراته إلا بالثورات الاجتماعية. وكما تقع هذه الأخيرة بعد تدرج (في تطور قوى الإنتاج)، لا تتأكد الطفرات في لاوعي الإنسان إلا بتدرج أيضا.
لماذا كل هذا اللف والدوران من أجل الرد ؟ أعتقد أن الرد الصريح المفيد والمقنع هو أن لا أحد قدم تاريخ المسلمين كما لو أنه تاريخ الملائكة وكل تاريخ شعوب العالم لا يخلو من فضاعات وأعمال تخريب.وكل ما يقدم عليه بعض الأفراد هنا وهناك هم وحدهم يتحملون كل المسؤولية وإن كان بعض الشواذ نبشوا القبور فالأغلبية العظمى من المسلمين بريئين من هذه الأفعال المشينة التي لم ترد لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله.