ندوة المصحف الشريف في المغرب.. تعاون علمي بين مختبرات كلية الآداب بنمسيك
هوية بريس – عبد الرحمان العسراوي
في إطار شراكة علمية،نظم مختبر الفكر الإسلامي والترجمة، ومختبر المغرب والعالم الخارجي،يوم الثلاثاء 5 نونبر 2024، ندوة علمية بعنوان “المصحف الشريف في المغرب: تاريخه، وعلومه، وكتابته”. أقيمت الفعالية في قاعة عبد الواحد خيري برحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك، وشهدت حضورًا واسعًا من الطلبة الباحثين من شعبة الدراسات الإسلامية والتاريخ، حيث شكلت فرصة ثمينة لهم لتعميق معارفهم واستكشاف جوانب مهمة تتعلق بالقرآن وعلومه.
بدأت الندوة بأجواء روحانية، حيث ألقى الدكتور سعيد ربيع آيات مؤثرة من سورة الضحى، استهل بها الفعالية بصوته المتميز الذي أثار إعجاب الحاضرين وخلق جوًا من السكينة والوقار.
بعد ذلك، افتتح الجلسة عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية، السيد إبراهيم فدادي، الذي رحّب بالضيوف والطلبة وشكر الأساتذة المشاركين على جهودهم المميزة في تنظيم هذا الحدث، معتبرًا أنه خطوة مهمة لإثراء النقاش الأكاديمي حول تاريخ القرآن الكريم وعلومه.
تلت كلمة العميد، مداخلة الدكتور خالد السرتي، مدير مختبر “المغرب والعالم الخارجي”، الذي عبّر عن امتنانه للحضور وأكد أهمية الموضوع الذي يجمع بين الجوانب الدينية والاجتماعية للمصحف الشريف، مبرزًا الدور الذي لعبه عبر التاريخ في تشكيل الهوية الثقافية والدينية للمغرب.
ومن جانبه، تناول الدكتور مصطفى الصمدي، مدير مختبر “الفكر الإسلامي والترجمة”، الكلمة معبرًا عن شكره للجهات المشاركة في تنظيم هذه الفعالية. وصف الصمدي الندوة بأنها “مائدة مدسمة” مشيرًا إلى غنى محتواها ومؤكدا على أهمية النقاش الذي أثار شغف الباحثين وساهم في تعزيز الفهم العميق للقرآن الكريم عبر محاور تاريخية وعلمية.
تواصلت الندوة العلمية بجلساتها المميزة تحت إدارة الدكتور عبد الفتاح الزنيفي، أستاذ الحديث والفقه، الذي افتتح الفعالية بالحديث عن أن القرآن الكريم يعد محورًا يمكن أن تتناوله مختلف التخصصات، بما في ذلك الجغرافيا والتاريخ، مشيرًا إلى أن القرآن قد قطع رحلته عبر البحار وصمد عبر العديد من العصور، مما يبرهن على عمقه وتأثيره المستدام في الحضارات المختلفة.
تضمنت الندوة جلستين علميتين، حيث بدأت الجلسة الأولى بمداخلة محمد عبد الحفيظ بعنوان “المصاحف السلطانية والملوكية بالمغرب وعلاقتها بمفهومي السلطنة وإمارة المؤمنين”. استعرض عبد الحفيظ تاريخ اهتمام السلاطين بالمصاحف الشريفة، وأوضح كيف كانت تُستخدم هذه المصاحف في التحكيم وإظهار الشرعية الدينية والسياسية للحكم.
ولإضفاء مزيد من التفاعل والجاذبية على مداخلته، عرض بعض المخطوطات النادرة وقدم شروحًا تفصيلية لها، بما في ذلك مخطوطات “طغراء” للسلطان أحمد المنصور الذهبي، إضافةً إلى استعراض نسخ من المصاحف المغربية الشهيرة مثل المصحف الحسني والمصحف المحمدي.
أثارت مداخلة عبد الحفيظ اهتمام الحضور، خاصةً بفضل عرضه للروابط التاريخية التي تجمع بين القرآن والممارسات السلطانية، وأهمية تلك المصاحف كرمز للسيادة الدينية والسياسية عبر مختلف الفترات التاريخية في المغرب.
ثم تواصلت الندوة بمداخلة الدكتور عبد العلي بلامين، أستاذ الفكر الإسلامي والعقيدة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك، والتي كانت بعنوان “مظاهر عناية المغاربة بالمصحف الشريف”. استهل الدكتور بلامين كلمته بالإشارة إلى العلاقة العميقة والراسخة التي تجمع المغاربة بالقرآن الكريم، موضحًا أن المغاربة كانوا ولا يزالون في خدمة القرآن وعلومه على مر العصور.
استعرض الدكتور بلامين عدة نماذج من المخطوطات النادرة للمصحف الشريف، مشيرًا إلى المصحف الحسني الذي تم إنجازه بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني، رحمه الله، وكذلك المصحف المحمدي الذي صدر بأمر من الملك محمد السادس، حفظه الله. وأكد على الدور الريادي للملك محمد السادس في دعم حفظة القرآن وطلبته من خلال الجوائز التشجيعية التي يقدمها، مما يساهم في استمرار الاهتمام بالقرآن ونشر علومه بين الأجيال.
اختتم الدكتور بلامين مداخلته بالحديث عن الخطاطين المغاربة المتميزين الذين ساهموا في نسخ المصاحف وزخرفتها، مثل محمد بن أبي القاسم والفاسي، مبرزًا براعتهم في الخط العربي وكيف كانوا جزءًا من إرث مغربي عريق في الحفاظ على قدسية وجمال المصحف الشريف.
ثم جاءت مداخلة الأستاذ الدكتور سعيد ربيع، أستاذ القراءات والتفسير بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك، والتي كانت بعنوان “علامة الوقف في المصحف المغربي: دراسة في المعنى والأداء”. استهل الدكتور سعيد ربيع حديثه بتأكيد أهمية الوقف في قراءة القرآن، مشيرًا إلى أن الوقف يُعتبر نصف الترتيل، موضحًا أن الوقف يعني قطع الصوت والنفس معًا بنية الاستمرار في القراءة، مما يجعله أمرًا حيويًا لكل قارئ يتطلع إلى تلاوة القرآن بشكل صحيح ومتقن.
تناول الدكتور سعيد ربيع شرح علامة الوقف المغربية الشهيرة، مستخدمًا مثال (صه) لشرحها وتوضيح معانيها، حيث أوضح أن هذه العلامة ليست مجرد حرف واحد كما يعتقد البعض، بل هي رمز معقد يشير إلى الوقف الذي اشتهر به المغاربة. كما أشار إلى أن هذه العلامة لم تكن من اجتهاد الإمام الهبطي رحمه الله، وإنما من اجتهاد تلامذته الذين قاموا بتطويرها وتطبيقها في المصحف المغربي.
واختتم الدكتور ربيع مداخلته بالتأكيد على أن علامة الوقف اجتهادية في طبيعتها ولا ينبغي التعامل معها بتقديس مطلق، بل يجب فهمها على أنها جزء من الجهد الإنساني لتيسير القراءة الصحيحة، مما يفتح المجال لاستمرار النقاش الأكاديمي حولها وتطويره.
وفي الجلسة الثانية، افتتحت الدكتورة هاجر الموساوي، وهي مرشدة وخريجة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بن مسيك، مداخلتها التي كانت بعنوان “تلازم قراءة نافع ومذهب مالك عند المغاربة”. بدأت الدكتورة الموساوي بتقديم نبذة تاريخية حول قراءة نافع، موضحة كيف وصلت هذه القراءة إلى المغرب وتوطدت فيه على مر العصور.
بعد ذلك، تناولت الموساوي الأسباب التي دفعت المغاربة لاختيار المذهب المالكي كمرجعية فقهية، مشيرةً إلى مكانة الإمام مالك وعلمه الغزير. استدلت بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم لا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة”، في إشارة إلى أن الإمام مالك كان عالم المدينة المعني بهذا الحديث، مما عزز من مكانة مذهبه بين المغاربة وخلق تلازمًا تاريخيًا بين قراءة نافع والمذهب المالكي.
أثرت مداخلة الدكتورة الموساوي الجلسة بتسليط الضوء على هذا التلازم الفريد وكيف أسهم في صياغة الهوية الدينية للمغاربة، حيث يعتبر الجمع بين قراءة نافع والمذهب المالكي من السمات المميزة للتراث المغربي الديني.ثم تلتها مداخلة الدكتورة أسماء خبطة، التي كانت بعنوان “تقنيات وضوابط كتابة المصحف الشريف”.
استهلت الدكتورة أسماء خبطة وهي أستاذة زائرة بجامعة الأخوين، مداخلتها بتقديم قراءة في المخطوطات التاريخية للمصحف الشريف، مستعرضة التطور الذي شهده على مر العصور، بدءًا من الكتابة بالخط المصحفي القديم وصولًا إلى اعتماد الرسم العثماني، الذي أصبح القاعدة المعتمدة في نسخ المصاحف.
وضحت الدكتورة أسماء خبطة الفروقات بين الخط المصحفي الحديث والخط المصحفي القديم، مبينة أن الاختلافات تعكس التحولات في الأساليب الفنية وطرق الكتابة التي مر بها المصحف. كما تناولت الأسباب التي دفعت المغاربة إلى استخدام رموز وألوان متعددة في كتابة المصحف، مثل الأحمر والأزرق والأخضر والبرتقالي، وأشارت إلى أن بعض المصاحف القديمة استخدمت حتى اللون الذهبي، مما يعكس الاهتمام بجمالية الكتابة وتمييز الكلمات والمعاني المهمة.
اختتمت الدكتورة أسماء خبطة مداخلتها بتأكيدها على أن استخدام هذه الألوان والرموز ليس عشوائيًا، بل يخضع لضوابط وتقنيات دقيقة تهدف إلى تسهيل القراءة والفهم، إضافة إلى إضفاء لمسة جمالية وفنية على المصحف الشريف، مما يعزز من قدرته على جذب اهتمام القارئ وتقديره لمكانته العظيمة.
اختتمت الجلسة بمداخلة الدكتور مبارك بوعصة، وهو استاذ بمركز التربية والتكوين بالقنيطرة، والتي حملت عنوان “خطوط المصاحف الشريفة في المغرب”، حيث استعرض في كلمته أنواع المخطوطات المغربية وتطورها عبر العصور، موضحًا كيف انعكست العناية بالخط العربي في المصاحف الشريفة كجزء من التراث الثقافي والديني العريق للمغرب.
كما سلط الضوء على التنوع الغني للخطوط المستخدمة، مثل الخط الكوفي والمغربي، وكيف تطورت هذه الأنواع لتحاكي الجمالية والقدسية المرتبطة بكتابة كلام الله.
في نهاية هذه الجلسة التي اتسمت بالروحانية والعمق الفكري، فتح مسيّر الجلسة، الدكتور عبد الفتاح الزنيفي، باب النقاش للحضور، مما أتاح للطلبة والباحثين والأساتذة فرصة لطرح أسئلتهم ومداخلاتهم. تميزت المناقشة بتفاعل إيجابي ومداخلات أثرت النقاش، حيث تبادل المشاركون الأفكار حول المواضيع المطروحة، مما عزز من أجواء التعلم والتفاعل وأضفى طابعًا فريدًا على هذه الندوة العلمية الغنية.